ليس جديدا أن تضرب إسرائيل إيران وليست مفاجئة دقة الغارات التي تستهدف منظومات الحرس الثوري ومصانع المسيّرات. الجديد هذه المرة أن الضربة تأتي في لحظة تشابك معقدة حيث تسير خطوط النار من مضيق هرمز إلى البحر الأحمر مرورا بمناطق النزاع في السودان. والسؤال الذي يلح في هذه اللحظة: لماذا يبدو السودان معنيا بكل ما يجري بين تل أبيب وطهران؟ وهل نحن إزاء صراع مسافات طويلة أم أن الخرطوم أضحت جزءاً من مسرح العمليات غير المعلنة؟
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل – نيسان 2023 لم تخف إيران رغبتها في إعادة تموضعها داخل القارة الأفريقية لا حباً في الجغرافيا بل هربا من الطوق المفروض عليها منذ سنوات. السودان، بما يملكه من هشاشة في النظام السياسي وتصدع في البنية العسكرية والأمنية شكّل فرصة مغرية لطهران؛ فحيث يغيب القرار السيادي تحضر الأذرع.
نحن لا نتحدث عن دعم إيراني فكري أو لوجيستي بل عن طائرات مسيّرة تصل على متن طائرات الشحن التابعة لـ”فارس إيرقشم”، وتُسلم إلى وحدات من الجيش السوداني. هذا الدعم لم يأت بلا مقابل بل ضمن معادلة أوضح من أن تُخفى، إنه دعم عسكري مقابل تموضع إستراتيجي في البحر الأحمر واستخدام لليورانيوم السوداني ضمن مشاريع إيران النووية.
من وجهة نظر تل أبيب فإن كل حضور إيراني خارج حدود إيران هو تهديد محتمل، لكنّ السودان بالذات يمثل منطقة توتر ذات طبيعة مزدوجة بسبب الجغرافيا المفتوحة بلا سيادة حقيقية وطبقة عسكرية حاكمة تغلف علاقاتها التكتيكية بشعارات السيادة الوطنية. وعليه فإن أي تطور عسكري إيراني على الأراضي السودانية ، ولو بطائرات مسيّرة محدودة، يُقرأ في إسرائيل كتحول يجب وأده قبل أن يتكرّس.
◄ كل حضور إيراني خارج حدود إيران هو تهديد محتمل، لكنّ السودان بالذات يمثل منطقة توتر ذات طبيعة مزدوجة بسبب الجغرافيا المفتوحة وطبقة عسكرية تغلف علاقاتها التكتيكية بشعارات السيادة الوطنية
إن الهجوم الأخير الذي استهدف مواقع إيرانية داخل طهران ليس فقط رسالة لإيران، بل تحذير غير مباشر لحلفائها الصامتين في السودان. فتل أبيب لا تنتظر حتى تستقر قاعدة بحرية قرب بورتسودان كي تتحرك ولكنها ستضرب في المركز كي يرتجف الهامش.
ما يجمع الجيش السوداني بالحرس الثوري الإيراني ليس مشروعا سياسيا، بل هو مشروع نجاة. الأول يبحث عن مخرج من مأزقه الداخلي المتفاقم أمام الدعم السريع، والثاني يبحث عن موطئ قدم في قلب أفريقيا لتصدير أزماته. لكن هذا الزواج محكوم عليه بالفشل لأنه يقوم على تبادل الاحتياج لا على وحدة مشروع.
ثمّة فارق جوهري بين دولة تحاول أن تستعيد أمنها واستقرارها وجيش يفتح حدوده لاستيراد أدوات قمع وقتال عبر طائرات لا أحد يملك قراره بشأنها. وإذا كانت طهران بارعة في توسيع نطاق حروبها بالوكالة فإن الخرطوم ليست بيروت، ولا صنعاء. السودان لا يحتمل هذه الأدوار الرمادية في وقت يصارع فيه لأجل البقاء.
في الحسابات الإستراتيجية كل دولة تسمح بتموضع إيراني على أراضيها تُعتبر طرفا فعليا، حتى وإن لم تُطلق رصاصة. وهذه هي المعضلة التي لا يدركها جزء كبير من النخبة السودانية. إن التورط لا يعني فقط التموضع العسكري بل التماهي مع مشروع إقليمي قد يدفع السودان إلى مواجهة لا ناقة له فيها ولا جمل.
إسرائيل، كما عودتنا في حروبها الذكية، قد لا تضرب السودان مباشرة، لكنها تمتلك أدوات لإخراج الفاعلين من اللعبة دون أن تُحدث ضجيجا كبيرا. ولهذا فإن المراهنة على الصمت أو الحياد في علاقات الجيش بالحرس الثوري هي تجاهل للحظة إقليمية لا تعرف الحياد.
ما يحدث في طهران ليس بعيدا عن الخرطوم، لا بحساب الطائرات ولا بخريطة التحالفات. وإذا كان الحرس الثوري قد تمدد إلى العمق السوداني، فإن ذلك يعني ببساطة أن السودان فقد حياديته، وربما بوصلته. فالصراع بين إسرائيل وإيران لا يدور فقط في السماء، بل على الأرض، في العقول، وفي الخيارات التي تتخذها الأنظمة في لحظة ضعف.
والسؤال الحقيقي اليوم ليس: هل ستضرب إسرائيل السودان؟ بل: هل ما زال للسودان قرار مستقل يجنبه أن يكون وقودا في معركة لا تخصه، لكنه سيتلقى شظاياها جميعا؟