تتكرّر المشاهد المأساويّة المدفوعة بأوضاع الحرب في السودان، حيث يجازف مئات الآلاف من اللاجئين السودانيّين بحياتهم عبر الصحراء بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ في ليبيا، غير أنّ مصير معظمهم يكون الموت عطشاً أو جوعاً أو الضياع والهلاك بانتظار صدفة تنقذ حياتهم
في ظل تصاعد موجات اللجوء من السودان إلى ليبيا، هرباً من الحرب الأهلية المستعرة، لا تزال مدينة الكفرة الحدودية الواقعة في أقصى جنوب شرقي ليبيا نقطة الاستقبال الأولى لمئات الآلاف من اللاجئين الذين يخاطرون بحياتهم عبر الصحراء الكبرى.
وكشف جهاز الإسعاف والطوارئ بالكفرة، مؤخراً، عن حصيلة حادث مأساوي جديد، حيث عثرت فرق الإنقاذ في الجهاز على 20 ناجياً، بينهم ثلاثة أطفال ورضيعان، ونحو خمس جثث لضحايا قضوا عطشاً، بعدما تقطعت بهم السبل في الصحراء، فيما لا يزال خمسة آخرون في عداد المفقودين، في وقت يُرجّح أنهم غادروا موقع الحادث بحثاً عن منفذ. وأظهرت بيانات جهاز الإسعاف والطوارئ معاناة الناجين، إذ سُجّلت حالات جفاف حادّة قبل تلقّيهم المساعدات الطبية.
وليست هذه الحادثة الأولى، بل تأتي ضمن سلسلة متكررة، ففي العاشر من مايو/ أيار الماضي، أنقذت الأجهزة الأمنية 36 لاجئاً سودانيّاً، بينهم أطفال ونساء، بعد خمسة أيام من الضياع في الصحراء، من دون مياه أو غذاء، وفقاً لإفادات المعنيّين في مستشفى الكفرة العام الذي استقبل الناجين وهم في حالة إعياء شديد. وتكرّرت هذه المشاهد المدفوعة بأوضاع الحرب في السودان، حيث يغادر اللاجئون في اتجاه ليبيا وغيرها من الدول، على متن شاحنات يتعطل بعضها في رمال الصحراء، تاركة ركّابها يواجهون مصير الموت عطشاً أو حلول صدفة تنقذ حياتهم.
منذ اندلاع الحرب الأهلية في السودان، في إبريل/ نيسان 2023، تحوّلت الكفرة، أقرب مدينة ليبية للحدود مع تشاد، إلى وجهةٍ لأعداد هائلة من اللاجئين. وتشير تقديرات بلدية الكفرة إلى أنّ عدد اللاجئين السودانيين تجاوز 100 ألف لاجئ، حيث يكشف المتحدث الرسمي باسم البلدية عبد الله سليمان أنّ العدد وصل إلى 125 ألف لاجئ سوداني، استناداً إلى الشهادات الصحية المجانية التي منحتهم إيّاها البلدية. بينما تُقدّر غرفة الطوارئ الصحية العدد الإجمالي للسودانيّين في ليبيا بأكثر من 400 ألف، بينهم 70 ألفاً في الكفرة وحدها. وتتعارض هذه الأرقام مع بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي أشارت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى أن فروعها في ليبيا سجّلت ما يزيد بقليل عن 55 ألف لاجئ سوداني.
وتواجه الكفرة، التي لا يتخطّى عدد سكانها السبعين ألفاً، تحديات كبيرة يتحدث عنها سليمان لـ”العربي الجديد”، حيث يسرد “معاناة اللاجئين من نقص الإمكانات، مع العلم أنّ البلدية تقدم ما في وسعها، والمستشفى الحكومي الوحيد في المدينة يقدّم الرعاية الصحية للاجئين منذ بدء تدفقهم. كما وزّع أهالي الكفرة أربعة آلاف قطعة ملابس، وتبرّع أحدهم بوجبة إفطار يومية، بينما نظّم مركز الصحة النفسية أياماً ترفيهية للاجئين”.
ويشدّد المتحدث الرسمي باسم البلدية على أن “الجهود الرسمية والتكاتف الأهلي لا يكفيان وحدهما لمواجهة تدفق يومي يُقدّر بألف لاجئ، وينخفض في أحيان أخرى إلى 500 لاجئ يوميّاً”، بينما تقدّر المفوضية الأممية للاجئين العدد بـ 300 إلى 400 لاجئ يوميّاً. وفي وقت يشكو فيه سليمان “عدم التجاوب من قبل المنظمات الدولية والأمم المتحدة حيال حاجات اللاجئين”. يرى الناشط الحقوقي أنور الزوي أن “الكفرة أصبحت مثالاً صارخاً على عدم جديّة المجتمع الدولي لجهة مساعدة المحتاجين لتجاوز معاناتهم الإنسانية”. ويحذّر في حديثه لـ”العربي الجديد” من أن “الأعداد الكبيرة التي لا تستطيع المدينة استيعابها تزيد من مخاطر الوفيات خلال الرحلات الصحراوية، ما يستدعي تكثيف دوريات المراقبة الأمنية في الصحراء، بالتزامن مع فرق إسعاف تنقذ العالقين على الفور”، مشيراً إلى أن “اللاجئين الناجين من الحادثة السابقة في العاشر من مايو الماضي، عانى أكثرهم من سوء التغذية الحاد، بينما وصل آخرون بحالات جفاف كادت تودي بحياتهم”.
وإذ يستنكر الزوي “الإهمال الدولي”، يؤكد “ضرورة تأمين الدعم الدولي للفرق الأمنية المحلية الموكلة مراقبة طرقات الصحراء، من خلال رفدها بأجهزة حديثة تساعد في الكشف عن التائهين في الصحراء وتعقبهم لإنقاذهم بسرعة”.
وتحاول السلطات الليبية تنسيق الجهود مع الخارج، فقد أعلنت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي أنّها تلقّت طلباً من الجانب السوداني لفتح قنصلية في الكفرة، من أجل تسهيل إجراءات اللاجئين. غير أنّ الزوي يراه “غير كافٍ” في ظل ما تعيشه السلطات السودانية من مواجهاتٍ وحروب، مشدّداً على أن “التنظيم الإداري والحصر والتسجيل وغيره، لن يوقف الوفيات ما لم يُدعم بآليات الإنقاذ”.