اضطرت سعدية لترك منزلها، والانتقال مع أطفالها الأربعة للإقامة لدى أقاربها منذ ثلاثة أشهر، بعد أن عجزت عن دفع إيجار المنزل. جاءت الأم المعيلة وأطفالها إلى مصر في مايو/أيار عام 2023 عقب اندلاع الحرب في السودان، ومنذ ذلك الحين اعتمدت في توفير سُبل معيشتها على عدد من المساعدات الأممية، وبيع العطور السودانية بين معارفها.
الآن بحزن وخوف دائم من المستقبل، تستقبل سعدية رسائل نصية من عدة جهات تخبرها واحدة تلو الأخرى بوقف الدعم الذي كانت تحصل عليه، حيث أعلنت العديد من المنظمات الأممية والدولية وقف أو تخفيض الدعم المقدم للاجئين في مصر، إثر نقص في التمويل الذي تحصل عليه هذه المنظمات، وتضاعف أعداد طالبي اللجوء في مصر خلال العامين الأخيرين.
توقف التعليم والعلاج في منزل أقاربها بمنطقة فيصل الواقعة شرقي محافظة الجيزة والتي تؤوي الآلاف من السودانيين، تقول سعدية في حديثها مع بي بي سي إنها كانت تعتمد على هذه المساعدات في توفير إيجار المنزل، وعلاج واحد من أطفالها من ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى المساهمة في تعليم بناتها الثلاثة، وكانت تعتمد على دخلها من بيع العطور السودانية في توفير الطعام وسُبل المعيشة اليومية.
وتقول سعدية “أصبحت غير قادرة على دفع الإيجار، كنت أحصل على مساعدات بقيمة 4250 جنيهاً (نحو 85 دولاراً)، أستخدمهم في دفع إيجار المنزل، بعد توقف هذا المبلغ عجزت عن دفع الإيجار، كيف أدبر هذا المبلغ وأنا امرأة وحيدة ومعيلة لأطفالي؟”.
توقف المساعدات أثّر أيضاً على الدخل الذي كانت تحققه من بيع العطور، حيث تقول سعدية: “العام الماضي كنت أجني دخلاً يسترني، الآن الدخل تأثر، لأنه بسبب وقف المساعدات فقد السودانيون المقيمون هنا قدرتهم على شراء العطور والبخور، الوضع أصبح كارثياً بالنسبة لنا كلاجئين سودانيين في مصر”.
بجانب سعدية كرسي متحرك لطفلها الذي يبلغ من العمر 12 عاماً، نسمع صوته من الغرفة المجاورة تارة ضاحكاً وتارة صارخاً. تقول إن حالته تدهورت بعد توقُّف جلسات علاجية كان يتلقاها بسبب توقف الدعم.
“كان يحصل على جلسات علاج طبيعي وتنمية مهارات وتخاطب، لأنه لا يمشي ولا يتكلم، مع الاستمرار في الجلسات تحسنت حالته، أصبح بمقدوره أن يقف دون مساعدة، لكن منذ 5 أشهر، أبلغتنا جمعية كاريتاس بتوقف هذه الجلسات لنقص التمويل، أصبح غير قادر على الوقوف مجددا”.
وتضيف سعدية “تأثرت كثيراً بوقف جلسات علاجه، لكني غير قادرة على فعل أي شيء، الجلسات في المراكز الخاصة تبلغ 600 جنيه (نحو 12 دولاراً) للجلسة الواحدة، كيف لي أن أوفر هذا المبلغ؟”.
كما اضطُرت سعدية لوقف تعليم اثنتين من بناتها “لديَّ ثلاث بنات في مراحل تعليمية مختلفة، وما أملكه من مال الآن لا يكفي لتعليمهن جميعاً، فركزت جهدي مع ابنتي الكبيرة ذات السبعة عشر عاماً، لتحصل على شهادة الثانوية السودانية، وهي الوحيدة التي أدت امتحانها، أما أختاها الاثنتان فلم تواصلا الدراسة”.
“في أوقات، أشعر بنعمة أني أعيش الآن في أمان، بعيداً عن الحرب، وفي بعض الأوقات أشعر باليأس من توقف المساعدات وأضطر للعمل بسبب عدم قدرتي على توفير الطعام والشراب لأطفالي”.
تقول سعدية، في حيرة واضحة: “بداخلي خوف دائم كيف سأتصرف إذا مرض أحد أولادي أو وقع لهم أي مكروه”.
“طريق العودة مكلف”
نقص المساعدات دفع الكثير من اللاجئين للتفكير في العودة إلى السودان، لكن طريق العودة إما أن يكون على نفقة الشخص المسافر أو مجانياً عبر مبادرات للعودة الطوعية تصل قوائم انتظارها لشهور.
جاءت هاجر (اسم مستعار) إلى مصر بصحبة أبنائها الأربعة إلى مصر في أبريل/نيسان من عام 2024، وتقول في حديث مع بي بي سي إن إجراءات تسجيلها لدى المفوضية استغرقت نحو 9 أشهر.
تقول هاجر: “بسبب التأخر في إجراءات التسجيل لم يدخل أولادي المدرسة، كلما ذهبنا إلى منظمة لمساعدتنا، يقولون لنا إن المساعدات متوقفة، الآن، أنا أريد العودة إلى الخرطوم حتى مع استمرار الحرب، ليس لدي أي إمكانية للعيش هنا في مصر”.
حاولت هاجر التسجيل في إحدى مبادرات العودة الطوعية إلى السودان، لكن وجدت اسمها على قائمة انتظار تمتد لنحو ستة أشهر على الأقل – “لم أدفع إيجار المنزل منذ عدة أشهر، صاحب المنزل بات يطالبني بإخلائه، والعودة على حسابي تكلفني نحو 4000 جنيه (نحو 80 دولاراً) للشخص الواحد، وعائلتي مكونة من 5 أشخاص، كيف يمكنني توفير هذا المبلغ؟”. “العودة إلى السودان تكلفني أموالاً لا أملكها، وإذا بقيت في مصر، سيترتّب عليَّ دفعُ الإيجار المتأخر، نحن كنا في انتظار هذه المساعدات”، تقول هاجر. ومع استعادة الجيش السوداني السيطرة على الخرطوم والعديد من المناطق المحيطة بالعاصمة في مارس/آذار الماضي، تزايدت أعداد السودانيين العائدين إلى بلادهم، إما عبر شركات النقل أو عبر مبادرات مجتمعية تساهم في إعادة الراغبين في العودة ولا يملكون الأموال الكافية.
من بين هذه المبادرات، مبادرة “راجعين لبلاد الطيبين”، ويقول مؤسسها محمد سليمان لبي بي سي إن “قوائم الانتظار للعودة إلى السودان في المبادرة تضم نحو ألف عائلة ينتظرون الدعم المادي لإعادتهم للسودان”. ويوضح سليمان أن “المبادرة تعتمد بشكل أساسي على مساهمات من الأفراد، لا توجد أي مؤسسات تدعمنا، وهذا الدعم غير مستقر، مقارنة بالحاجة الشديدة للكثير من العائلات للعودة إلى السودان”.
وبحسب تصريحات للقنصل السوداني بمحافظات جنوب مصر السفير عبد القادر عبد الله، بلغ عدد السودانيين الذين عادوا من مصر عودة طواعيةً، نحو 224 ألف شخص، خلال عام 2024 وحتى يوم 10 مايو/أيار 2025.
لاجئون أكثر وتمويل أقل
وفي مايو/أيار الماضي، أعلنت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في مصر عن تخفيض عدد اللاجئين الذين يحصلون على مساعدات نقدية بنحو 6 آلاف شخص، كما أوقفت التسجيل في برنامج المساعدات النقدية، إلى جانب وقف عدد من برامج دعم اللاجئين.
وتقول مسؤولة التواصل بمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كريستين بشاي في حديث مع بي بي سي: “أطلقنا مناشدة تمويلية هذا العام للحصول على 137 مليونَ دولار، حتى الآن لم نتلقَّ سوى 28 في المئة من المبلغ، نحن في مشكلة كبيرة، في حين زاد عدد اللاجئين في مصر بنحو 3 أضعاف، قَلَّ تمويلنا إلى الربع”.
وتوضح بشاي قائلة: “كانت هناك بالفعل قوائم انتظار للتسجيل في برنامج المساعدات النقدية، عدد اللاجئين المسجلين في هذا البرنامج كان يبلغ 81 ألفاً، وهو أقل من 10 في المئة من عدد المسجلين”.
وارتفع عدد طالبي اللجوء المسجلين لدى المفوضية خلال العامين الماضيين إلى نحو مليون لاجئ، أغلبهم من السودانيين الذين فروا من بلادهم بسبب الحرب المشتعلة هناك منذ عام 2023 بين قوات الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. وتوضّح بشاي تأثر العديد من برامج المفوضية بوقف التمويل، حيث أغلقت المفوضية أحد مكاتبها في القاهرة، وقلصت من عدد موظفيها لتقليل النفقات، مضيفةً “هذه الإجراءات اتُخذت حتى نقلل من تأثير نقص التمويل على الدعم الذي يحصل عليه اللاجئون، لكن نتيجة لذلك أصبحت قوائم الانتظار لتسجيل اللاجئين أطول، كما تأثّرت قدرتنا على التخطيط لأي برامج مستقبلية، لأننا لا نعرف حجم التمويل الذي قد نحصل عليه”.
كما حذّرت بشاي من استمرار أزمة نقص التمويل “حين لا يجد الناس المساعدات التي يحتاجون لها في بلدان اللجوء، سيضطرون لاتخاذ قرارات صعبة قد تعرضهم للخطر، مثل الهجرة غير المنتظمة، ومن ثم، فنحن نناشد الحكومات والمجتمع الدولي بالتدخل قبل أن تتفاقم هذه المشكلة”.
مداميك