آخر الأخبار

هل تندلع شرارة الصراع الأخير من شرق السودان؟

شارك

ملخص

ما يزيد تعقيد المشهد هو هشاشة الدولة السودانية بعد الحرب وغياب السيطرة المركزية على الشرق، مما يخلق فراغاً قابلاً للاختراق الجيوسياسي. وفي حال استمر التهميش التاريخي وتزايدت عسكرة الهويات وعدم تقديم مقاربات تنموية جادة، فإن شرق السودان قد ينزلق نحو صراع مفتوح ذي طابع إثني – سياسي.

بينما تستنزف الحرب المشتعلة منذ الـ15 من أبريل (نيسان) 2023 جسد الدولة السودانية المنهك، كاشفة عن عمق الهشاشة الأمنية وانهيار مؤسسات إنفاذ القانون، يلوح شرق السودان في الأفق بوصفه الجبهة التالية ضمن مشهد الصراع المتسع. فالمؤشرات الميدانية المتراكمة تنذر بتشكل بؤرة توتر مركبة قد تنفجر في أية لحظة. الإقليم، الذي أفلت حتى الآن من أتون الحرب في الخرطوم  ودارفور وود مدني، لا يبدو بمنأى عن امتداد لهيبها إليه. وعلى رغم البعد الجغرافي النسبي لولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف عن مراكز الاشتباك العسكري، إلا أن الشرق يشهد حال احتقان خفي، يتقاطع فيها التنافس الدولي حول البحر الأحمر بموانئه وخطوط التجارة العابرة، مع النزاعات الإثنية والقبلية المتجددة، والتهميش السياسي التاريخي، والتنافس الحاد على تمثيل الإقليم. وفي ظل إدارة مجلس السيادة بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان لشؤون البلاد من مدينة بورتسودان ، تبقى معضلة فرض الأمن وبسط الاستقرار قائمة، بل إن التهديدات تتفاقم مع انتشار السلاح، والاتجار غير المشروع بالأسلحة الخفيفة، والتكدس المزمن للعتاد التقليدي في أيدي المجموعات المحلية.

مع تغير خريطة التحالفات العسكرية واتساع الفجوات الأمنية تزداد احتمالات انزلاق الشرق إلى صراع بالغ التعقيد (غيتي)

شرق السودان، بموارده الهائلة، من ساحل بطول 714 كيلومتراً على البحر الأحمر يضم مرافئ نفطية، ونحو 35 ألف كيلومتر مربع من مساحته صالحة للزراعة، ويمثل كنزاً استراتيجياً وسط اقتصاد وطني ينهار تحت وطأة الحرب والعقوبات والإدارة الفاشلة عهوداً طويلة. وهو كذلك عقدة جغرافية تربط السودان بكل من إريتريا ومصر وإثيوبيا، مما يجعله نقطة تماس إقليمي لا يمكن تجاهلها.

ومع تغير خريطة التحالفات العسكرية واتساع الفجوات الأمنية تزداد احتمالات انزلاق الشرق إلى صراع بالغ التعقيد تشترك فيه أطراف داخلية وخارجية. وفي هذا السياق يبرز السؤال: هل يتحول شرق السودان إلى ساحة الحرب القادمة في المشهد السوداني ؟ أم أن هناك فرصة أخيرة لتدارك الانهيار القادم؟

معاناة مزمنة

ظل شرق السودان عقوداً ممتدة منذ نيل الاستقلال عام 1956 حبيس التهميش البنيوي والتجاهل السياسي، على رغم كونه الشريان البحري الوحيد للدولة، وبوابة استراتيجية تربط السودان بالبحر الأحمر، أحد أكثر المعابر المائية حساسية في العالم. ومع ما يحمله الإقليم من أهمية جيوسياسية وثروات طبيعية هائلة تشمل الذهب، والمعادن النادرة، والثروة السمكية، والأراضي الزراعية الخصبة، فإن واقع التنمية فيه ظل شديد البؤس. فالمدن الرئيسة كبورتسودان وكسلا وسواكن والقضارف تشهد غياباً شبه كامل للبنية التحتية الأساسية، وخدمات الصحة والتعليم والمياه النقية، لا سيما في الأرياف والمناطق الطرفية، حيث يعيش معظم السكان.

مع تصاعد الحرب في الخرطوم ودارفور وود مدني تحول شرق السودان إلى ممر استراتيجي لنقل السلاح (غيتي)

بقيت الاستثمارات في شرق السودان هامشية مقارنة بما يمتلكه من إمكانات، مما أسهم في تفشي الفقر والبطالة، كما أن الإقليم لم يحظَ بتمثيل فعال في مؤسسات الحكم المركزية، مما رسخ شعوراً عميقاً بالإقصاء، وجعل من قضايا الشرق ملفاً دائماً في أرشيف “المهمشين”. وعلى رغم بروز بارقة أمل بتوقيع “اتفاق سلام شرق السودان” عام 2006، والذي تعهد بإعادة توزيع السلطة والثروة وإنصاف الإقليم، فإن الاتفاق سرعان ما تحول إلى أداة للمحاصصات السياسية بين نخب محددة، من دون أن تنعكس على الواقع المعيشي أو تحقق اختراقاً في بنية التهميش المتجذر.

ومع اندلاع الحرب قبل عامين دخلت البلاد مرحلة جديدة من الانقسام الجغرافي والسياسي، باتت فيها مدينة بورتسودان، حاضرة الشرق، المقر البديل للسلطة. وعلى رغم هذا التحول الشكلي، لم يتغير جوهر المعاناة في الإقليم، بل زادت التحديات، إذ ارتفعت أسعار السلع والخدمات بصورة حادة، وزاد عدد النازحين الفارين من مناطق النزاع، وتكدست مؤسسات الدولة ومرافقها فوق بنية هشة لا تواكب هذا الزخم المفاجئ. أما السكان المحليون، فقد وجدوا أنفسهم على هامش ترتيبات سلطة موقتة، لا تعكس تطلعاتهم ولا تستجيب لأولوياتهم التنموية. ولقد أدت الحرب إلى انكشاف إضافي للهشاشة المؤسسية في الشرق، وفاقمت الشعور بالتهميش التاريخي.

معضلة السلاح

يمثل توفر السلاح في شرق السودان تهديداً متنامياً يتجاوز حدود الأمن المحلي ليبلغ مستويات تهدد السلم الإقليمي، فالشرق الذي شهد، على مدار عقود، تقاليد ثقافية ارتبطت بحيازة الأسلحة التقليدية، أصبح اليوم ساحة مفتوحة لانتشار السلاح الحديث، نتيجة تفاعلات مركبة تعكس هشاشة الدولة، واحتدام الصراع السياسي والعسكري في السودان.

يعد اقتناء الأسلحة التقليدية المحلية وحيازتها واستخدامها جزءاً أصيلاً من الموروث الثقافي الحي لمجمل المكونات الاجتماعية في شرق السودان (غيتي)

يعد اقتناء الأسلحة التقليدية المحلية وحيازتها واستخدامها جزءاً أصيلاً من الموروث الثقافي الحي لمجمل المكونات الاجتماعية في شرق السودان. فقد ارتبطت أدوات القتال التقليدية من سيوف وخناجر وسكاكين و”شوتالات” وحراب بجوانب متعددة من الحياة الثقافية والفنية في الإقليم متجسدة في الحكايات الشعبية والشعر والرقص والمأثورات الشفاهية، فضلاً عن الصناعات الحرفية ذات الطابع التراثي.

وإن كانت هذه الأدوات تصنف اليوم في جانب منها ضمن قائمة الأسلحة الأثرية ذات القيمة التاريخية، إلا أن استدعاءها واستخدامها في سياقات التعبئة القبلية أو حالات الاستنفار الجماهيري، لا يخلو من أخطار، إذ تعيد هذه الأدوات إلى الأذهان مشاهد من الصراعات القديمة، وتستنهض في النفوس عصبيات دفينة قد تفضي إلى تفجير نعرات وعداوات اجتماعية.

مع تصاعد الحرب في الخرطوم ودارفور وود مدني، تحول شرق السودان إلى ممر استراتيجي لنقل السلاح، سواء من الخارج عبر البحر الأحمر أو من الداخل عبر شبكات التهريب المتفرعة من مناطق النزاع، لا سيما دارفور والنيل الأزرق. وبدلاً من أن يكون الإقليم حاجزاً للأزمات، أصبح مستودعاً فعلياً للأسلحة، تتكدس فيه الشحنات المهربة، ما يجعله على شفا الاشتعال. هذا الواقع تعزز مع إطلاق برامج تسليح منظمة تحت عناوين مثل “المقاومة الشعبية”، مما أسهم في عسكرة المجال العام وتحويل السلاح إلى أداة للهيمنة المحلية، كما أن غياب الدولة عن المشهد الحدودي، لا سيما مع إريتريا، أسهم في توسع شبكات الجريمة المنظمة والجماعات المسلحة، التي باتت تستثمر في الاقتصاد الحربي في ظل بيئة مضطربة اتسمت بتراجع سلطة القانون وشح الموارد وانهيار التراتبية الإدارية. في هذه البيئة لا يعود السلاح مجرد أداة دفاع، بل يتحول إلى رمز للسلطة ومصدر للنفوذ، خصوصاً في ظل النزاعات القبلية المتفاقمة.

يمثل توفر السلاح في شرق السودان تهديداً متنامياً يتجاوز حدود الأمن المحلي ليبلغ مستويات تهدد السلم الإقليمي (غيتي)

شهد الإقليم صعود تحالفات قبلية مسلحة أبرزها “المجلس الأعلى لنظارات البجا” الذي يتبنى خطاباً ذا طابع عسكري وسياسي حاد، يلوح إثر كل خلاف بإغلاق الطريق المؤدي إلى ميناء بورتسودان ووقف نشاط الدولة. كما ظل يعبر عن المظالم القبلية في الإقليم، ويروج لخطاب انفصالي، في وقت يعاني فيه الشرق غياب التنسيق بين القيادات المحلية.

منظومة معقدة

تشكل شرق السودان تدريجاً بوصفه أحد أبرز الممرات والمستودعات الحيوية لتسليح الجماعات والتنظيمات السودانية، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي. بدأت إريتريا في توفير الدعم اللوجيستي والعسكري لقوات “التجمع الوطني الديمقراطي”، عبر فتح معسكرات تدريب في أراضيها، وذلك رداً على دعم نظام الرئيس السابق عمر البشير للمعارضة الإريترية، ومساعيه لتصدير “المشروع الحضاري” عبر دعم “الإسلام السياسي” في منطقة القرن الأفريقي، وزادت العلاقات توتراً مع إثيوبيا، بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، والتي اتهم فيها نظام البشير.

أفضى هذا الواقع إلى صياغة منظومة معقدة من التداخلات القبلية والعسكرية، كان من نتائجها تكاثر الميليشيات ذات الطابع الإثني في شرق السودان، واصطفاف بعضها إلى جانب القوات المسلحة و”الدفاع الشعبي” في صراعهما مع فصائل المعارضة. ولئن كانت عمليات تسليح تلك الفصائل تتم سابقاً بسرية نسبية، فقد أصبحت اليوم تجري تحت غطاء “الاستنفار الشعبي”، بل وبإشراف جهات رسمية، مما خلق بيئة ملائمة لتسويق السلاح غير المرخص، وتيسير انتقاله عبر شبكات عابرة للحدود.

يقدر عدد قطع السلاح في السودان بنحو ثمانية ملايين قطعة، وفقاً لتقديرات رسمية صدرت قبل اندلاع الحرب بشهرين، وهو ما يعكس عمق التحدي الذي يواجه أي جهود مستقبلية لجمع السلاح أو حصره. وفي هذا السياق، برزت تشكيلات عسكرية متنوعة، ذات صبغة اجتماعية وقبلية، منها “أسود البطانة” بقيادة أبو عاقلة كيكل من قبيلة “الشكرية”، والتي شهدت انقساماً بين من انضموا لقوات “الدعم السريع” ومن احتفظوا بولائهم للقوات المسلحة، ثم تحول في ما بعد إلى قوات “درع السودان” التي تقاتل إلى جانب الجيش. وهناك أيضاً “الأسود الحرة” بقيادة مبروك مبارك سليم من قبيلة “الرشايدة”، الذي يشهد هو الآخر تبايناً حاداً في مواقف أفراده تجاه طرفي الصراع.

كما نشطت “قوات مؤتمر البجا” بفصائلها المتعددة، وأبرزها جناح موسى محمد أحمد، الذي أعاد تفعيل معسكرات التدريب على الشريط الحدودي مع إريتريا، وتشكيل “مؤتمر البجا – الكفاح المسلح” بقيادة شيبة ضرار، إضافة إلى مجموعات أخرى مثل “قوات تحرير شرق السودان”، و”الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة”، و”قوات الحركة الوطنية للعدالة والتنمية”، وحركات دارفورية أعادت التموضع في الشرق مثل “العدل والمساواة”، و”حركة تحرير السودان” بفصائلها المختلفة. يعكس العدد الكبير لهذه التشكيلات، وامتدادها الاجتماعي والإثني، وتعدد مرجعياتها وتسليحها، مخزوناً كامناً لنزاع محتمل ذي طابع إثني – سياسي، قد يفجر صراعاً على النفوذ أو الموارد، خصوصاً في ظل غياب إطار جامع لتوزيع السلطة أو ضبط السلاح.

ارتبطت أدوات القتال التقليدية من سيوف وخناجر وسكاكين و”شوتالات” وحراب بجوانب متعددة من الحياة الثقافية والفنية في الإقليم (غيتي)

وقود إثني

بدأت بعض الأطراف المتصارعة في تعبئة الحواضن القبلية لدعم طموحاتها في السلطة ومواجهة خصومها. ويعد هذا التوجه محفوفاً بالأخطار، بالنظر إلى البنية الاجتماعية المعقدة للإقليم، وتاريخ التهميش الذي طال مكوناته. وعلى رغم أن إقليم الشرق يتمتع بتنوع إثني فريد، فإن اتفاق جوبا للسلام عام 2020 أخفق في تضمين هذا التنوع ضمن معادلة السلطة والثروة، مما أدى إلى تعميق شعور الإقصاء، وأعاد إلى الواجهة شعارات التهميش والتجاهل التي طالما رددتها الكيانات السياسية والاجتماعية في الإقليم. وأسهم ذلك في تصاعد الدعوات الانفصالية، وتنامي النفوذ العسكري للقبائل من خلال تحالفات مسلحة أبرزها تلك التي تقودها مجموعات من البجا والهدندوة.

وبالرجوع إلى المكون الإثني للبجا، فإن التعريف الاصطلاحي الشائع يشير إلى القبائل الناطقة بلغة “البداويت”، مثل الهدندوة والعتامنة والكميلاب والحلنقة، إلا أن التعريف التاريخي الأصيل يشمل كذلك القبائل الناطقة بالتقرى مثل بني عامر والحباب، مما يعقد المسألة الهوياتية ويجعل من قضايا التمثيل السياسي أكثر حساسية. وقد توافق فاعلون من شرق السودان على قبول مفهوم “قومية البجا” كإطار جامع، شرط ألا يلغى التعريف الأصلي الذي يجمع القوميتين في مظلة واحدة.

تعد تجربة “مؤتمر البجا”، الذي تأسس عام 1958، تجسيداً لهذا المسار الاحتجاجي السلمي في بداياته، حيث دعا إلى سودان جديد يعترف بالتنوع، في مقابل المركزية الثقافية التي تبنتها أنظمة الحكم المتعاقبة. ووفقاً لقياداته، فإن اللجوء إلى السلاح لم يكن خياراً إلا بعدما أغلقت السبل كافة أمام مطالبهم المشروعة، وكرس النظام السابق سياسة التهميش.

وسط هذا الوضع المتأزم، برزت قضية ترسيم الحدود القبلية كشرارة محتملة لصراع واسع، إذ أثار قرار نائب رئيس مجلس السيادة، حينذاك، محمد حمدان دقلو “حميدتي”، في فبراير (شباط) 2022، باعتماد ترسيم قبلي للحدود في شرق السودان، حالاً من الغضب والاستقطاب، لا سيما أنه جاء بعد رفض سابق لترسيم إداري اعترضت عليه بعض الأطراف. وأشار مسؤولون محليون إلى خطورة “استبدال منطق الدولة بمنطق القبيلة”، محذرين من أن ذلك قد يحول الخلافات الإدارية إلى صراعات دامية تغذيها مشاعر الغبن الإثني.

جيوسياسية الإقليم

يتمتع شرق السودان بجيوسياسية فريدة تجعله من أكثر الأقاليم حساسية في المنطقة، فهو يشكل بوابة السودان البحرية الوحيدة، ويطل على البحر الأحمر الذي يعد من أكثر الممرات المائية استراتيجية، حيث تمر عبره قرابة 10 في المئة من التجارة العالمية، بما في ذلك شحنات النفط والغاز القادمة من الخليج إلى أوروبا. هذا الموقع الاستثنائي يحول الإقليم من مجرد هامش مهمل، إلى قلب صراع المصالح الدولية، ويجعله، كما وصف مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجينسكي “رقعة شطرنج عالمية” تتصارع عليها القوى الكبرى لبسط النفوذ وتأمين الموارد والممرات.

التحولات الجيوسياسية في الشرق ليست معزولة عن صعود قوى دولية تبحث عن موطئ قدم في البحر الأحمر، مثل روسيا التي تسعى إلى إنشاء قاعدة لوجيستية في ميناء بورتسودان ضمن استراتيجيتها للعودة إلى المياه الدافئة، وتركيا التي تحاول استعادة نفوذ تاريخي عبر اتفاقات مع السودان تشمل موانئ وشراكات أمنية، واهتمام إسرائيل المتزايد بملف البحر الأحمر كجدار جيو أمني في وجه التهديدات الإيرانية والقرن الأفريقي.

ما يزيد من تعقيد المشهد، هو هشاشة الدولة السودانية بعد الحرب، وغياب السيطرة المركزية على الشرق، مما يخلق فراغاً قابلاً للاختراق الجيوسياسي. ويشير المفكر الاستراتيجي وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر إلى أن “الفراغات الجيوسياسية لا تبقى فارغة طويلاً، بل تملأ بمن يملك القدرة والإرادة”. هذا ينطبق تماماً على شرق السودان اليوم، حيث تتقاطع خطوط التماس الجغرافي مع إثيوبيا وإريتريا، في بيئة مأزومة تاريخياً، تحتضن صراعات هوية، وأزمات حدودية ممتدة من مثلث حلايب والفشقة، إلى أخطار تسلل التنظيمات المسلحة.

في ظل هذه التعقيدات، لا يمكن فهم شرق السودان بمنطق التهميش المحلي فحسب، بل يجب قراءته ضمن سياق جيوسياسي أوسع، إذ يتحول الإقليم إلى منصة صراع على النفوذ بين قوى تبحث عن الأمن، وأخرى تسعى إلى فرض هيمنتها الاقتصادية والعسكرية.

سيناريوهات محتملة

يشير الوضع المتشابك في شرق السودان إلى احتمال تبلور عدد من السيناريوهات المتباينة لمصير الإقليم، وهي السيناريو الأول الانفجار المفتوح، في حال استمر التهميش التاريخي، وتزايدت عسكرة الهويات، وعدم تقديم مقاربات تنموية جادة، فإن شرق السودان قد ينزلق نحو صراع مفتوح ذي طابع إثني – سياسي. تصاعد الاحتقان بين مكونات البجا والرشايدة، وتنامي انتشار السلاح، قد ينتج حال تشظٍّ أمني تذكر بما شهده القرن الأفريقي في العقود الماضية. وكما أشار مدير مركز دراسات الاقتصادات الأفريقية بجامعة “أكسفورد” بول كوليير، فإن “البيئات الهشة تصبح أكثر عرضة للانفجار إذا تراكمت فيها مظالم من دون أفق للإصلاح”.

السيناريو الثاني الفيدرالية الموسعة، ثمة خطاب متصاعد لدى النخب المحلية، بخاصة من “المجلس الأعلى للبجا” بقيادة الناظر محمد الأمين ترك يطالب بفيدرالية تمنح الشرق حكماً ذاتياً موسعاً في إطار الدولة السودانية. هذا المسار قد ينظر إليه كحل وسط يجنب الانفصال ويستوعب التباينات، إذا ما توفر دعم دولي ومركزي حقيقي. وهو نهج يجد صداه في أدبيات عالم الاقتصاد والاجتماع السياسي، غونار مييردال حول “الحكم متعدد المستويات كضمانة للتماسك في الدول المتعددة الإثنيات”.

والسيناريو الثالث الشرق كمنصة تفاوض مستقلة، فمع تآكل المركز السياسي في الخرطوم تبرز فرصة لتحول الشرق إلى فاعل تفاوضي مستقل، خصوصاً في ظل اشتداد التنافس الدولي على منافذ البحر الأحمر. قد يفضي هذا إلى مفاوضات مباشرة بين القوى المحلية والفاعلين الدوليين، في إطار تسويات ما بعد الحرب، مما يعزز من مكانة الشرق كـ”لاعب مفصلي” في مستقبل الدولة السودانية.

أما السيناريو الرابع فالاستقرار الهش تحت مظلة الدولة المركزية، وعلى رغم هشاشته، قد يستمر الوضع الراهن إذا استطاعت الحكومة المركزية إدارة التوترات عبر تسويات موقتة، مع تقديم وعود اقتصادية واجتماعية. غير أن هذا الاستقرار سيكون موقتاً بطبيعته، نظراً إلى استمرار العوامل البنيوية التي تغذي الانقسام.

وبالنظر إلى تعقيد الوضع الداخلي وغياب الإرادة السياسية للإصلاح والتداخل الإقليمي في البحر الأحمر، فإن سيناريو الانفجار يبدو الأقرب على المدى القصير، إلا أن السيناريو الفيدرالي قد يكون الأكثر استدامة إن توفرت إرادة وطنية ودعم دولي لتفعيل نموذج لا مركزي عادل.

اندبندنت عربية

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا