آخر الأخبار

المشهد السوداني.. فرص السلام

شارك

تقرير: سمية المطبعجي

بين التوسع والانحسار تبارى طريفي حرب السودان، الجيش وقوات الدعم السريع، في رسم خارطة بسط النفوذ على المساحات الجغرافية خلال العام الثاني من الحرب الذي شهد تحولات دراماتيكية على الصعيدين العسكري والسياسي.

تصاعدت العمليات القتالية والمواجهات، فتزايدت موجات النزوح باتساع رقعة القتال، وامتد النزاع إلى مناطق كانت تعتبر مستقرة نسبيًا، مما أدى إلى نزوح ملايين الأشخاص واتساع نطاق تدمير البنية التحتية وتعطيل الخدمات الأساسية. لتشمل كافة قرى ومدن ولايات الجزيرة وسنار، و ولايات شمال وجنوب كردفان ودخول الإقليم الشمالي في حرب المسيرات.

في ظل غياب وفشل فرص مبادرات السلام الإقليمية والدولية والتي تراوحت مواقف الطرفين منها بين القبول والرفض لتصل حد الممانعة مؤخرا بتفضيل الميدان للحسم. في الوقت الذي وصلت فيه الأوضاع الإنسانية الى مرحلة مريعة ليصنف الوضع الإنساني في حرب السودان بالأزمة الأكبر عالميا.

فيما شهدت الساحة السياسية والاجتماعية المزيد من الانقسامات والاستقطاب القبلي والعرقي. اتسم العام الثاني للحرب بتسابق القوى المتحاربة في فرض السيطرة، وسط بروز تحالفات عسكرية غير متوقعة وتوالد المليشيات، في تصاعد حاد للمواجهات العسكرية، استمر خلالها تغير ملامح خريطة السيطرة العسكرية في كل حين، ففي الخرطوم حقق الجيش تقدماً في مدينة ام درمان بالسيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون وسلاح المهندسين وكامل مناطق ام درمان القديمة.

في الوقت الذي كانت فيه قوات الدعم السريع تفرض سيطرتها على كامل ولاية الجزيرة وسط السودان وأجزاء واسعه من ولاية سنار، دون مقاومة من الجيش. ومنذ سبتمبر 2024 بدأ ميزان القوى يميل لصالح الجيش الذي تولى عمليات عسكرية برية بدعم جوي تمكن خلالها من استعادة السيطرة على مدينة بحري وأجزاء من وسط الخرطوم، ليكتمل تقدم الجيش بالسيطرة على كامل العاصمة، عدا أجزاء من غربي ام درمان، خلال الربع الأول من 2025 .

فيما خاض مواجهات عنيفة استعاد خلالها معظم ولاية الجزيرة ومدن ولاية سنار عدا بعض البلدات الصغيرة لازالت تجري فيها معارك بين الحين والآخر. وشهدت مواجهات الجزيرة في أكتوبر تحالفاً بين قائد (قوات درع السودان) أبو عاقلة كيكل بعد انشقاقه من قوات الدعم السريع.

في الوقت الذي تستمر فيه المواجهات العنيفة في محيط مدينة الفاشر المحاصرة من الدعم السريع محاولة السيطرة عليها كآخر معاقل الجيش بولايات دارفور التي تقع تحت قبضتها بالكامل، وسط أوضاع إنسانية بالغة التعقيد يعيش فيها المواطنين دون ماء ولا طعام تحت القصف المتواصل.

تحالفات واستقطاب

” كل طرف يسعى ليكون القوة الشرعية في البلاد .. القوات المسلحة السودانية تؤكد أن القتال لن ينتهي إلا بانسحاب المليشيات شبه العسكرية وتسليم أسلحتها، بينما تأمل قوات الدعم السريع في الحصول على أسلحة رسميا من خلال تشكيل حكومة جديدة.. لا يبدو أن هناك رغبة حقيقية من أي طرف في إنهاء القتال أو الحد من الدمار الذي يعاني منه السودان ” . واصفة موقف أطراف الصراع تحدثت لينا بدري لموقع DW من (تشاتام هاوس).

بإصرار يمضي طرفا الصراع إلي الحسم العسكري دون الالتفات إلى محاولة وقف الحرب، في مسار تجييش المدنيين وتشكيل المزيد من المليشيات المسلحة.

وتعد التحالفات العسكرية التي نشأت في ظل الحرب من أبرز العوامل المعقدة في مشهد الصراع الذي بدأ الانزلاق نحو استقطاب قبلي وعرقي واسع مهدداً بانقسامات يحاول المتقاتلون توظيفها لكسب الموالين وإدارة الأزمة. في دارفور بدأت بالفعل مساهمة الانقسامات العرقية في تصعيد الصراع وتفاقم معاناة المدنيين. حيث أعادت قوات الدعم السريع إنتاج منطق الميليشيات بعد توسعها العسكري في المنطقة التي أصبحت تحت نفوذها استصحبتها بحملة سياسية لفرض الولاء من الإدارات الأهلية وزعماء القبائل، تحت غطاء المشروع السياسي والعسكري معتمدة على خطاب تعبوي قبلي.

إذ طالب مؤخراً عبد الرحيم دقلو نائب قائد الدعم السريع الإدارات الأهلية باختيار الولاء إما الانضمام لمعسكره أو تحمل تبعات “العداء” ،ما ينبئ بتوترات خطيرة وإعادة أجواء حرب دارفور إلى الواجهة في نسخة حرب أهلية أكثر دموية بين مكونات قبلية مختلفة ، يجبر المدنيين فيها على حمل السلاح والانضمام إلى معسكرات القتال، تحت ضغط التهديدات المباشرة، في الوقت نفسه يصبحون عرضة لانتقام الطرف الآخر حال الوقوع في يده.

عودة (كتائب الظل) للواجهة في الوقت الذي يدعو فيه الجيش المدنيين لحمل السلاح للدفاع عن انفسهم واستقطاب المئات من الشباب كمستنفرين في وضع انتشر فيه السلاح بين المدنيين، تزداد الأزمة تعقيدًا بمحاولة حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية، العودة إلى الساحة السياسية والعسكرية عبر ميليشيات وقوى موازية، متمثلة في كتيبة (البراء بن مالك) وغيرها من مليشيات (كتائب الظل) التابعة لنظام الإنقاذ البائد، الأمر الذي يعزز من حالة الارتباك السياسي والأمني في السودان.

وفي تصريحات لصحيفة الشرق الأوسط أفاد أحد قادة الإسلاميين حجب اسمه : ” تعمل إلى جانب «كتيبة البراء» مجموعات من المقاتلين السابقين المتطرفين، من بينهم جماعة «الدبابين» التي ذاع صيتها إبان الحرب في جنوب السودان، وجماعة «الطيارين» الذين كانوا يعملون في شرق السودان. ويقول الخبير إن نشاط كتائب الإسلاميين تزايد بصورة مكثفة بعد الحرب، وإنها استقطبت مقاتلين سابقين، من بينهم مهندسون وفنيون عملوا على تطوير الأسلحة في التصنيع الحربي، بما في ذلك «المسيرات»، على نفس منوال حركة «حماس»، يصنعون أسلحة خاصة بهم ”.

ويحذر مراقبون وباحثون سياسيون من خطر الجماعات والمليشيات المسلحة التي تقاتل الآن في الميدان، ويقدر عددها بإحدى عشر، على مستقبل الاستقرار في السودان، حيث أنها شاركت بغرض مطامع السلطة، بما فيها الحركات المسلحة ، ويتوقع أن يؤدي تعدد القوي المسلحة خارج الأطر النظامية إلى نشوب مواجهات مسلحة محتملة بين مختلف المليشيات بما في ذلك المليشيات المتحالفة مع بعضها الآن. في ظل تسريبات بوجود توترات بين الجيش والكتائب الإسلامية التي تسعى لتسيد الساحة العسكرية. والتي بدأت في القيام بعمليات انتقامية بغرض التصفية السياسية من المدنيين بدعوى (التعاون) مع قوات الدعم السريع، وسط استهداف قبلي وجهوي لمجموعات كحواضن اجتماعية للدعم السريع، مارست فيها أبشع صور القتل والإعدامات الميدانية خارج القانون.

مشهد سياسي معقد

اما القوى السياسية التقليدية والقوى المدنية فلم تتمكن من تشكيل تحالف سياسي وجبهة موحدة فاعلة قادرة على وقف الحرب وتحقيق السلام بالضغط على الأطراف العسكرية. فقد ظلت تراوح مكانها في إطار الجهود التنظيمية لترتيب بيتها الداخلي دون أثر أو تأثير يذكر على الساحة، وإن ظلت تشير الى جهودها في احداث ضغوط دولية للمساعدة على الصعيد الإنساني.

وفي ديسمبر 2024 عقدت تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية (تقدم) بمدينة عنتبي اليوغندية، اجتماعات الهيئة القيادية للوقوف على العمل التنظيمي الداخلي والذي بدأت فيه ملامح الانقسام بدعوة البعض إلى تشكيل حكومة موازية. وهو الموقف الذي دفع الى فك الارتباط بين الداعين لتشكيل حكومة والقوى السياسية والمدنية الأخرى، لينتهي عهد (تقدم) بالإعلان عن (صمود) ، وقوى (التحالف السوداني التأسيسي) المكونة من قوى سياسية ومدنية وحركات مسلحة، والتي أعلنت في فبراير 2025 بالعاصمة الكينية نيروبي، عن توقيع ميثاق سياسي مع قوات الدعم السريع، بهدف تشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع. ويهدف الميثاق بحسب ما تضمن، إلى تأسيس حكومة لتحقيق وحدة وسلام، وإنهاء الحرب، وإيصال المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين، والحفاظ على وحدة السودان الطوعية.

أهداف شكك المراقبون في مصداقيتها على خلفية الدعم السريع. محمد عثمان، الباحث في شؤون السودان بمنظمة هيومن رايتس ووتش، قال في حديث لـDW ” الحكومة التي اقترحتها قوات الدعم السريع لن تكون قادرة على تحسين الوضع الإنساني أو تعزيز حقوق الإنسان، بالنظر إلى سجلها السيئ طوال فترة الحرب”. إعلان الميثاق واجه ردود فعل دولية وإقليمية ومن الكثير من المراقبين على الصعيد المحلي والدولي، كانت في معظمها غير مرحبة، حيث أعربت الأمم المتحدة عن قلقها من أن يؤدي تشكيل حكومة موازية إلى زيادة تفكك البلاد وتفاقم الأزمة، واعرب كل من الولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي عن قلقهما محذرين من أن تؤدي الخطوة الى تفاقم الأزمة.

وأصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا ترفض فيه أي محاولات تهدد وحدة وسيادة السودان، بما في ذلك السعي نحو تشكيل حكومة موازية. وعبرت جامعة الدول العربية عن قلقها الشديد من تعمق الانقسام السياسي في السودان. ودعا الاتحاد الافريقي لضرورة العودة لمائدة التفاوض رافضا تشكيل الحكومة.

تحالفات مفاجئة

ولكن أخطر ما حمله (التحالف السوداني التأسيسي) كواحدة من أبرز التحولات في العام الثاني من التحالفات غير المتوقعة، وهي التقارب الميداني والسياسي بين القائد عبد العزيز الحلو، قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وقوات الدعم السريع.

تحالف أدّى إلى انقسام داخل الحركة الشعبية نفسها، وأثار قلقاً واسعاً وسط قواعدها، خاصة في جبال النوبة، حيث يخشى كثيرون من الانجرار إلى صراع لا يخدم مشروع (السودان الجديد)، بل يعيد إنتاج الحرب في إطار تحالفات تكتيكية قد تتفكك في أول اختبار.

وقد أوردت مواقع التواصل الاجتماعي استقالات بالجملة لعدد من القيادات والأعضاء بالحركة منتقدين موقف الحلو بالتحالف مع قوات الدعم السريع عقب مشاورات محدودة مع المقربين منه . وقال آدم موسى أبو التيمان ممثل الحركة بكندا ل(الجزيرة نت) أن ما أقدم عليه الحلو قد أثار غضباً واسعاً وسط قيادات الحركة وأنه سيؤدي إلى تدميرها.

وفي خطاب موجه لقائد الحركة عبد العزيز الحلو من القائد رمضان حسن نمر وصف الخطوة بالخطأ الاستراتيجي : ” يُعد هذا الاتفاق خطأً سياسياً وعسكرياً استراتيجياً، إذ يتعارض مع مبادئ وأهداف الحركة الشعبية، ويتجاهل تناقضات الواقع وطبيعة الصراع، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي السوداني وتعطيل مشروع التغيير” . وفي النيل الأزرق استبقت الحركة الشعبية بقيادة جوزيف توكا التنسيق مع الدعم السريع في عمليات مشتركة منذ نوفمبر 2024 .

فقد أوردت شبكة (عاين) : ” في 24 نوفمبر كان التنسيق والعمل المشترك الأول لقوات الدعم السريع التي كانت تتواجد في محلية التضامن بولاية النيل الأزرق، وقوات الحركة الشعبية شمال- قيادة جوزيف توكا التي تتواجد بمحلية باو، قبل أن يلتقي الجيشان في منطقة مغجة.. ونقلت مصادر عسكرية لـ(عاين)، بأن الجيشين نفذا عمليات مشتركة استولوا من خلالها على عدة مناطق في محلية باو .. “.

وأعلن في الأول من مارس الماضي فور التوقيع على الميثاق عن فتح الدعم السريع لمعسكر تدريب في مناطق سيطرة الحركة الشعبية بقيادة توكا بولاية سنار . تطورات تزيد من تعقيدات المشهد وتنذر بتداعيات مباشرة على الأرض، لتصبح المنطقة التي تعاني أصلاً من مواجهات قبلية وتوترات عسكرية، ساحة مفتوحة لنزاعات مركبة، ما بين قبلي وسياسي وعرقي. حيث يُنظر إلى تحالف الحلو مع الدعم السريع كعامل تأزيم إضافي في مناطق ما تزال هشة، ويكرّس الانقسام داخل الحركة الشعبية نفسها، مما يضعف من فرص التوصل لأي تسوية شاملة.

فرص مستعصية للسلام

زاد تعقيد الجهود الإقليمية والدولية بغرض تحقيق السلام في السودان منذ إعلان حكومة بورتسودان تعليق عضويتها في منظمة (ايغاد) عقب دعوتها في يناير 2024 قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) إلى قمة في العاصمة اليوغندية كمبالا مما اعتبرته حكومة البرهان انتهاكاً للسيادة الوطنية وأعلنت تجميد عضويتها واعتبرت أنها غير ملزمة بأي قرارات صادرة من (ايغاد).

واكتفى المجتمع الدولي ممثلاً في مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وكندا بفرض عقوبات على شخصيات وشركات ضالعة في الحرب فيما ظل ثبات موقفها المعلن برفض الحرب وضرورة إيقافها. فشلت مفاوضات في العاصمة السويسرية جنيف دعت لها الأمم المتحدة في يوليو 2024 بعد رفض الجيش السوداني لأجندة الاجتماع.

وفي أغسطس من العام دعت واشنطن الجيش السوداني وقوات الدعم السريع إلى محادثات سلام في نفس العاصمة الأوروبية، دعوة تم رفضها من جانب الجيش وحضرها الدعم السريع، واختتمت بضمانات من الطرفين بفتح ممرات آمنة للمساعدات الإنسانية، فيما فشلت في وقف إطلاق النار.

وفي ديسمبر عرض الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وساطة بلاده لحل الخلاف بين السودان ودولة الإمارات العربية المتحدة. ذلك وسط تصاعد توتر العلاقات مع معظم دول الجوار. فيما لاتزال ملامح السعي لجهود وقف الحرب مستمرة . في مارس حسب (سودان تريبيون) صرح مبعوث (ايغاد) لورانس كورباندي ” إن اجتماعات المبعوثين الدوليين الأخيرة كانت بشكل أساسي للتنسيق، وأكد أنه تمت مناقشة ترتيب اجتماع بين قادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ..”.

ومحلياً ناشد رئيس تحالف (صمود) د. عبدالله حمدوك في 10 ابريل الجاري، الاتحاد الأوروبي للتحرك العاجل لوقف الحرب في السودان في رسائل شملت 27 رئيس دولة، مرفقة برؤية (صمود) (نداء سلام السودان)، والتي تحتوي على 3 مسارات : العودة للتفاوض وفق إعلان جدة، حماية المدنيين وفتح مسارات آمنة لإيصال العون الإنساني، الحوار السوداني – سوداني.

وعلى ما يبدو ومع إكمال الحرب عامها الثاني، لم يعد الصراع في السودان محصورًا بين الجيش والدعم السريع فقط، بل شهد المشهد تحولات سياسية وعسكرية عميقة أعادت تشكيل خريطة النفوذ والتحالفات نحو مزيد من الانزلاق في مستنقع العنف متعدد الأطراف، في وضع يزداد تعقيداً وخطورة بما يمثل تهديداً وجودياً لوحدة السودان ككيان اجتماعي، تختزل فيه الدولة في طوائف ومجموعات تحكمها الولاءات ويستبدل فيها القانون بالثأر والعمليات الانتقامية. في الوقت الذي تضاعفت فيه أعداد اللاجئين والنازحين من 7.1 مليون في العام الأول إلى أكثر من 14 مليون خلال العام الثاني للحرب وفق منظمة الهجرة الدولية . وتباينت أعداد القتلى حتى نهاية 2024 بين 28 ألفاً إلى 150 ألفاً حسب مراكز بحثية.

صحيفة مداميك

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا