بعد عام ونصف العام من مغادرتها منزلها في مدينة الخرطوم صوب مصر، حزمت إيناس السني حقائبها هي وابنها ذو الأعوام العشرة استعداداً للعودة إلى وطنها المنكوب بسبب الحرب الدائرة بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ أبريل (نيسان) 2023، وذلك بعد هدوء الأوضاع في حي النزهة بالخرطوم، الذي شهد معارك عنيفة بين الطرفين منذ أول يوم لاندلاع الحرب.
تصفت إيناس شعورها الآن بالاستثنائي، إذ لم تتوقع أن تعود إلى منزلها مجدداً. تتحدث عن رحلتها إلى الخرطوم وكأنها حلم، إذ جلست في كرسي الحافلة ومع تحركها من منطقة عابدين في القاهرة ظلت تراقب المدينة بعينين مودعتين، وتستعرض شريط المعاناة بعيداً من الوطن.
تقول إيناس، “لا أعلم ما الذي ينتظرني في السودان، ولا أدري ماذا حل بمنزلي الذي تركته منذ أكثر من عام، لكنني سمعت أن الحي تعرض لتدمير كبير وانقطعت عنه خدمات الماء والكهرباء، ومع ذلك يظل وطني هو مأمني مهما كانت الظروف”.
وتضيف، “مصر احتضنتنا بالفعل، وكنا في مأمن وسط مجتمعها، ولا بد أن نشكر شعبها وقيادتها من الأعماق، فقد رحبت بنا البلاد ولم نشعر فيها بالغربة، لكن الظروف المعيشية وحنيني لوطني دفعاني للعودة فور سماعي بخلو منزلي من قوات (الدعم السريع) التي احتلته أكثر من عام، ورجائي أن يعم الأمن والأمان السودان، وألا تدفعنا الظروف لمغادرته مرة أخرى”.
إيناس ليست وحدها، فالملايين من السودانيين نزحوا من بيوتهم نحو المجهول، لكن الانتصارات التي حققها الجيش في الأيام الماضية، والتي نجم عنها تحرير أحياء عدة في الخرطوم، بعثت الأمل لآلاف الأسر في العودة إلى منازلهم حتى وإن كانت في أسوأ الحالات.
ياسر جابر الذي نقل عمله في مجال العقارات إلى القاهرة منذ اندلاع الحرب، قرر العودة إلى السودان واصفاً قراره بالصحيح، فـ”الظروف التي مر بها السودانيون في مصر لم تكن سهلة، بخاصة من لا يملكون مصدر دخل ثابتاً فاضطروا إلى العمل في وظائف هامشية ومتعبة ومليئة بالأخطار لتأمين المسكن والمأكل، مما دفع الآلاف منهم للعودة بعد أشهر قليلة من دخولهم مصر”.
وأضاف، “العودة إلى الوطن ضرورة لإعادة الإعمار وبث الحياة في المناطق التي هجرت لشهور طويلة، مع الحفاظ على ما تبقى من ممتلكات وحقوق. هذه المرة الشعور مختلف، فقد نجد الأوضاع هادئة ومبشرة بإحلال السلام ووقف أصوات البنادق”.
رائحة الوطن
أما سارة مصطفى التي تمتلك شقة في القاهرة ونزحت منذ اندلاع الحرب، فقالت “قراري بالعودة لم يكن بسبب الحاجة أو الضيق، وإنما رغبة في رؤية منزلي الذي يراودني الحنين إليه منذ لحظة مغادرتي له مع اندلاع الحرب. في تقديري أنه رغم أن البعض يمتلك شققاً هنا في القاهرة وأحوالهم مستقرة، لكن لا شيء يضاهي فرحة الوجود في الوطن وداخل منزلي الذي عشت فيه أعواماً طويلة ويحمل ذكريات لا تقدر بثمن”.
وأضافت، “قررت العودة إلى الخرطوم حتى وإن كان ذلك موقتاً للاطمئنان على الوطن والمنزل واستعادة الذكريات الجميلة، ومن ثم تحديد قراري إما بالاستقرار في السودان أو العودة مجدداً إلى القاهرة”.
وتشهد منطقة أبوسمبل المصرية تكدساً كبيراً في الحافلات السفرية التي تحمل مئات السودانيين العائدين إلى بلادهم، إذ أشارت وكالة السودان للأنباء، إلى أن عودة السودانيين من مصر تواجه صعوبات تتمثل في تكدس الرحلات في معسكر “الكتيبة الخاصة” في أبوسمبل.
ويلجأ آلاف السودانيين الذين دخلوا مصر بطرق غير مشروعة إلى منفذ أبوسمبل للعودة، حيث عمدت السلطات المصرية إلى توفير تسهيلات لهم على نحو يقيهم خطر العودة من طريق المهربين.
ويوفر معسكر “الكتيبة” في أبوسمبل التابع للجيش المصري رحلات إلى وادي حلفا بمبالغ زهيدة ومن دون تعقيدات في الإجراءات، مما دفع أعداداً كبيرة من السودانيين للتوجه إلى هناك أملاً في عودة آمنة للسودان.
ونوهت الوكالة الرسمية إلى أن السفر عبر معبر أبوسمبل يرتبط بالعبارات التي تنقل الحافلات منه إلى المعابر في الضفة الشرقية لنهر النيل، مثل معبر قسطل – أشكيت، حيث تعاني هذه الرحلات من محدودية الحمولة وقيود الإجراءات التي تفرضها السلطات.
مبادرات شعبية
وكان أن دشن رجال أعمال سودانيون مبادرة لدعم برنامج العودة الطوعية للسودانيين الذين لجأوا إلى مصر عقب الحرب، وذلك عقب استعادة الجيش عديداً من المدن والقرى في ولايات مختلفة آخرها الخرطوم، حيث تم تسيير 25 حافلة من القاهرة إلى مدينة وادي حلفا تحمل 1000 مواطن سوداني.
في هذا الصدد، قال المتطوع في المبادرة هيثم شكر الله “سيرنا حتى الآن 25 حافلة سياحية انطلقت من القاهرة باتجاه مدينة وادي حلفا تحمل 1000 مواطن سوداني، ونسعى لتسيير رحلات أخرى تحمل أيضاً العدد نفسه خلال الأيام المقبلة، استجابة لرغبة الآلاف من السودانيين في العودة إلى البلاد، بخاصة أن هناك أعداداً كبيرة من المواطنين لا يملكون القدرة على تحمل كلفة الرجوع”.
وأضاف شكر الله “سنواصل جهودنا في هذا العمل لتذليل مصاعب كثير من السودانيين الذين يرغبون في العودة إلى مناطقهم، وبحسب خطتنا سنقوم بتسيير 25 حافلة سياحية كل 10 أيام في الأقل، مع استهداف 10 آلاف فرد خلال أقل من ثلاثة أشهر”.
وبينما أكدت منظمة الهجرة الدولية انخفاض أعداد النازحين داخل السودان بأكثر من اثنين في المئة بعد بدء عودة بعضهم إلى مناطقهم في الخرطوم وسنار والجزيرة، قال مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس، إن عدد العائدين من اللاجئين والنازحين السودانيين إلى مناطقهم بسبب الحرب بلغ نحو مليونين حتى فبراير (شباط) الماضي، وذلك بعد تحرير الجيش السوداني وحلفائه لولايتي الجزيرة وسنار ومعظم مناطق ولايتي الخرطوم والنيل الأبيض.
وتوقع أن يرتفع العدد إلى 5 ملايين مواطن في نهاية يونيو (حزيران) المقبل. منوهاً خلال كلمة السودان أمام مجلس الأمن أخيراً، إلى المجهودات الجبارة التي تبذلها حكومة بلاده لتوفير الحاجات الملحة للعائدين بعد تحرير مناطقهم من أيادي الميليشيات الإرهابية، وذلك بالتنسيق مع المنظمات الدولية العاملة في مجال العون الإنساني و”أوتشا” عبر مشاريع عدة يتصدرها تأهيل المدارس ومؤسسات التعليم العالي والجامعات وصيانة وإعمار البنية التحتية وتأهيل مراكز الشرطة وشبكات المياه والكهرباء والمراكز الصحية، فضلاً عن الاهتمام بمراكز العلاج النفسي.
وبحسب منظمة الهجرة الدولية، فإن النزاع الحالي دفع 8,596,622 شخصاً إلى النزوح داخلياً، منهم 396,738 عادوا إلى ديارهم، كما أن بينهم 1,116,054 شخصاً نزحوا قبل اندلاع الحرب وتعرضوا لنزوح ثانوي بعد نشوبها.
وأفادت المنظمة بأن إجمالي النازحين قبل وبعد اندلاع النزاع الحالي بلغ 11,301,340 شخصاً، يقيمون في 10,285 موقعاً في جميع محليات البلاد البالغة 185 محلية.
وفر 1.5 مليون سوداني إلى مصر، و767 ألفاً إلى تشاد، فيما لجأ 341 ألف فرد إلى جنوب السودان، و105 آلاف إلى ليبيا، بينما هرب البقية إلى إثيوبيا وأفريقيا الوسطى وأوغندا.