تواجه أحياء ومناطق واسعة في العاصمة السودانية الخرطوم أزمات معيشية وأمنية متفاقمة بالتزامن مع اشتداد المعارك للسيطرة على المدينة، تشمل نقص الغذاء، وجرائم نهب وسرقة، وندرة الخدمات الطبية.
خلال الأسابيع الماضية، اشتدت ضراوة المعارك في كل محاور القتال بالعاصمة السودانية الخرطوم، حيث تمكن الجيش من السيطرة على منطقتى الخرطوم بحري وشرق النيل، ورفع الحصار عن مقر قيادته في وسط الخرطوم، وتحرك نحو تحرير القصر الرئاسي، وتتحرك قوات موالية للجيش نحو جسر سوبا وجسر المنشية لتحرير أحياء شرق الخرطوم.
اشتداد حدة المعارك تأثر به الأهالي الذي تمسكوا بعدم مغادرة منازلهم في العاصمة، فكلما تصاعد القتال، زادت الانتهاكات بحقهم، بما في ذلك قتلهم واعتقالهم وتعذيبهم وسرقتهم، عدا تعرضهم لنقص الغذاء، وتوقف الخدمات العلاجية، وانتشار الفوضى الأمنية.
يسكن محمد الصديق في منطقة العودة، وظل نحو عامين في منزله مع أسرته المكونة من سبعة أشخاص، وطوال تلك الفترة، كانت منطقته بعيدة عن أية معارك بعد أن سيطرت قوات الدعم السريع عليها بالكامل خلال الأيام الأولى من الحرب مع كل أحياء جنوب شرق المدينة، وكانوا يواجهون بعض المشكلات مثل انقطاع الكهرباء والمياه، وصعوبة الحصول على المواد الغذائية، لكن المشكلات تضاعفت مع مواجهة قوات الدعم السريع تحركات الجيش السوداني لتحرير كامل الخرطوم، خصوصاً بعد سيطرته على الجزء الشرقي من جسر سوبا القريب من المنطقة.
يوضح صديق لـ”العربي الجديد” أنه بمجرد اشتداد المعارك، حدثت انفلاتات أمنية، وتزايد نقص الغذاء، بينما ترتكب قوات الدعم السريع انتهاكات واسعة تشمل الاعتداء على السكان، ونهب كل ما لديهم، وتنفيذ اعتقالات واسعة بتهمة التعاون مع الجيش، مشيراً إلى أن منازلهم التي لم تتعرض لأي خطر خلال السنتين الماضتين، تتعرض هذه الأيام لعمليات نهب واسعة من المتفلتين، وأنه قرر مغادرة المكان مع أسرته بعد أن ضاق بهم الحال.
قريباً من تلك المنطقة، يشتكي سكان منطقة جنوب الحزام من المعاناة نفسها، فيما أصدرت إدارة مستشفى بشائر، وهو أكبر مستشفى في المنطقة، بياناً ذكرت فيه أن المنظومة الصحية في جنوب الحزام تواجه شبح الانهيار بعد الخروج شبه الكامل لمستشفى بشائر عن الخدمة.
ويقول مدير المستشفى محمد عبد الله كندشة، لـ”العربي الجديد”، إن “الوضع الصحي في المنطقة أقرب إلى الكارثة، حيث نفد الوقود في المستشفى، ما جعله يعيش ظلاماً كاملاً، عدا قسم الكلى الذي يعمل بمولد كهربائي صغير، ويساهم في إنقاذ أرواح عشرات المصابين بالفشل الكلوي، كما ارتفعت فاتورة الغسيل الكلوي لتضاف إلى أزمات المرضى المنهكين أصلاً، بينما يواجه قسم التغذية العلاجية للأطفال والحوامل والمرضعات ظروفاً سيئة لعدم توفر المياه والكهرباء، وعدم توفر رواتب للكادر الطبي الذي يعمل بالمجان”.
ويضيف كندشة: “تلك الأوضاع تشكل قلقاً بالغاً لدي سكان جنوب الحزام، خصوصاً بعد توقف أقسام الجراحة والنساء والتوليد وطوارئ الجراحة، ما يهدد حياة مئات الحوامل الذين تقرر إجراء عمليات قيصرية لهن في ظل الظرف المعيشي الراهن، وفاتورة التوليد الباهظة في المستشفيات الخاصة، التي بلغت نحو 700 ألف جنيه. في حال حدوث أي قصف على المنطقة، فإن الجرحى معرضون لخطر الموت لعدم وجود مستشفى قريب يمكن الوصول إليه”.
وحول بقية المراكز الصحية في المنطقة، يؤكد كندشة أن “أغلبها أضحى خارج دائرة الخدمة، ما يفاقم الوضع الصحي في المنطقة، لكنه تحسن بعد شح في المواد التموينية، لكن برز شح السيولة النقدية، مع وجود مشاكل أمنية كبيرة”.
من جانبه، يوضح سعد سراج، من لجنة طوارئ الخرطوم، لـ”العربي الجديد”، أن “مواطني جنوب الخرطوم يعيشون أوضاعاً إنسانية بالغة التعقيد، حيث بلغ التفلت الأمني ذروته، فالأسواق والمتاجر تتعرض لعمليات نهب يومية، كما تعاني المنطقة من شح وندرة وانعدام في بعض المواد الغذائية، وتأثرت الحركة التجارية عموماً بحركة خروج منتسبي الدعم السريع، ما أدى إلى ارتفاع جنوني في أسعار المواد الاستهلاكية”.
ويشير سراج إلى أن “القطاع الصحي تدهور، لا سيما بعد خروج مستشفى بشائر عن الخدمة بصورة كاملة بعد أن أخلت منظمة أطباء بلا حدود المستشفى إثر تكرار الانتهاكات التي طاولت الكوادر الطبية. السكان يتوجهون صوب العيادات لتلقي الخدمة العلاجية لكنهم يصطدمون بارتفاع التكاليف، إضافة إلى عدم توفر الكادر الطبي المختص، وأغلب العاملين بالعيادات ليسوا من حملة الشهادات الطبية، ما أدى إلى زيادة حالات الموت بالأخطاء الطبية البسيطة، وكذلك انتشار حالات بتر الأطراف”.
يتابع: “تعاني الصيدليات من عدم توفر الأدوية والمستلزمات الطبية نتيجة عدم دخولها منذ اندلاع الحرب، واستهلاك كل المخزون خلال السنتين الماضتين، والاعتماد على العقاقير المشتراة من سوق الدواء المسروق من الإمدادات الطبية، ما يساهم في تعقيد الأزمة الإنسانية. شهدت المنطقة قبل مدة انفراجاً في أزمة الوقود التي شلت حركة (الركشات)، وتأثر بها استخراج المياه من الآبار الجوفية، التي تنقل بعربات الكارو لتباع للمنازل، وذلك بعد خروج شبكة المياه عن الخدمة إثر انقطاع التيار الكهربائي”.
ويوضح سراج أن “ما عقد المشهد الإنساني أكثر هو توقف المطابخ المجانية عن العمل، والتي كانت تشرف عليها غرف الطوارئ، وجاء التوقف نتيجة الملاحقات التي طاولت المتطوعين من جانب قوات الدعم السريع. تلك المطابخ كانت ترفع بعض العبء عن كاهل المواطنين، وتوفر له وجبات مجانية يومية”.
وكشف مصدر في غرف الطوارئ، فضل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، عن تصاعد مقلق في حالات اختفاء النساء، ويؤكد لـ”العربي الجديد” رصدهم 11 حالة اختفاء لنساء وفتيات، آخرهن فتاة عمرها 17 سنة، وأن الأسر في المنطقة باتت تتوخي الحذر، وتطالب الجهات القانونية والإنسانية بالتدخل لوقف تلك الظاهرة الخطرة، وضمان سلامة الفتيات، والكشف عن مصير المختفيات منهن.
تبدو أحياء الديوم الشرقية، وسط الخرطوم، حسب معلومات وصلت إلى “العربي الجديد”، شبه خالية من السكان بسبب هجمات جنود الدعم السريع على المنازل، وعمليات النهب الواسعة التي شهدتها المنطقة لما تبقى من الممتلكات، وأبلغت أسر عن جرائم اغتصاب وقتل وتهجير قسري ونهب، وطرد جنود الدعم السريع ما تبقى من سكان حي الزهور بحجة التعاون مع الجيش السوداني، وبحسب المعلومات، فإن قوات تابعة للجيش تمكنت من إجلاء عدد من الأسر إلى مناطق آمنة.
من مربعات حي الصحافة السكني، تشير مصادر محلية إلى أزمة غذاء حادة، وارتفاع في أسعار السلع الأساسية، وتوقف المخابز العاملة بسبب انعدام الدقيق والوقود، وانقطاع خدمات المياه والكهرباء، وما زال بعض الأسر يعتمد على المطابخ الجماعية، كما تشهد المنطقة تزايد معدلات السطو، ما اضطر بعض السكان للنزوح إلى أحياء أخرى، والمتبقون يبدون خشية من المعركة الكبرى المتوقعة للسيطرة على العاصمة.
أما سكان منطقة شرق النيل، فقد عبروا عن سعادتهم بوصول قوات الجيش لإنقاذهم من المعاملة التي تعرضوا لها على أيدي قوات الدعم السريع خلال الأشهر الماضية، لكن فرحتهم لم تكتمل بعد تعرض منازلهم للسرقة بعد دخول قوات الجيش، ما أثار استياء واسعاً.
الأحداث نفسها شهدتها أحياء الخرطوم بحري بعد دخول الجيش، ومناطق ظلت واقعة تحت سيطرة الجيش منذ بدء الحرب، مثل محلية كرري التي شهدت تفلتات أمنية طاولت السكان، واشتكوا منها لفترة طويلة، كما برزت جريمة النهب المعروفة محلياً باسم “الشفشفة”، كما يكرر مسلحون الاعتداء على السكان، وتكرر إطلاقهم النار على الأشخاص خلال جرائم النهب.
وعقدت لجنة أمن ولاية الخرطوم اجتماعاً طارئاً بمشاركة مساعد قائد الجيش الفريق ياسر العطا، ونائب رئيس جهاز المخابرات العامة الفريق محمد عباس اللبيب، وعدد آخر من القادة الأمنيين، وتوصل الاجتماع إلى جملة من القرارات، من بينها انتقال كل الأجهزة النظامية إلى مواقعها لمباشرة مهامها بجميع المحليات التي تم تحريرها من قوات الدعم السريع، وأشارت اللجنة، في بيان، إلى أن تلك الخطوة تأتي في سياق بسط الأمن، والقضاء على الظواهر السلبية والمتفلتين، وتأمين المواطنين في أرواحهم وممتلكاتهم، وتعهدت حكومة الولاية بمواصلة جهودها لتقديم الخدمات التي تساعد على عودة السكان إلى ديارهم.