معركة الخرطوم لم تُحسم فصولها النهائية بعد، فعقب تقدم قوات الجيش في عدد من محاورها، عاد قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) ليؤكد أنه لا يزال يسيطر على مناطق حيوية فيها.
ويشير تشبث حميدتي بعدم مغادرة العاصمة الخرطوم إلى عدم تبنيه خيار التقسيم بعد تبني فكرة الحكومة الموازية، لكن هذا سلاح ذو حدين، لأنه إذا فشل في إعادة السيطرة على ما فقده وأجبر على الانسحاب التكتيكي تماما من الخرطوم، فهذا سيهز معنويات مقاتلي الدعم السريع، ما يفتح الطريق إلى انكسار في مواقع أخرى.
ويقول متابعون إن تمسك قائد الدعم السريع بمواقع في الخرطوم لتعزيز قوته ربما يعيد إلى الأذهان مشهد زحف قوات قائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، واضطراره إلى الانسحاب، ما جعله لا يفكر في إعادة الكرة مرة أخرى.
ظهور حميدتي هذه المرة يرمي إلى إثبات قدرته على التماسك والصمود عسكريا، لكن هذه الرغبة تغفل ما يدور من انسحابات في مناطق متفرقة بلا قتال
وعاد حميدتي إلى الظهور بعد فترة من الغياب، تزامنا مع خسائر ميدانية تواجهها قواته في ولايات متفرقة، في ظل تعقيدات يصطدم بها مشروع الحكومة الموازية الذي أعلن عنه من نيروبي مؤخرا، ويواجه رفضا دوليا وإقليميا واسعا.
وسعى قائد الدعم السريع من خلال فيديو بث مساء السبت إلى إرسال إشارة مفادها أن قواته قادرة على تجميع عناصرها في الخرطوم بعد أن فقدت جزءا كبيرا من المناطق الحيوية التي كانت تسيطر عليها، مؤكدا أن “قواته لن تخرج من العاصمة،” ومهددا بتصعيد جديد في المعارك ضد الجيش السوداني.
ويشير هذا الخطاب إلى استمرار المعارك في الخرطوم، وأن النجاحات التي حققها الجيش في صراعه ضد قوات الدعم السريع الفترة الماضية لا تعني أنها على وشك الانسحاب، وقد تكون خسرت جولة في معركة، لكن الحرب مستمرة ولن تتوقف قريبا.
ويضع هذا التوجه حدا لما روج له الجيش من انتصارات على قوات الدعم السريع، وانكسارها وقرب تموضعها في دارفور فقط، وهو ما أشار إلى عكسه حميدتي، حيث يعمل على عدم مبارحة الخرطوم، وأنها ورقة مهمة في حالتي العودة إلى المفاوضات أو تدشين الحكومة الجديدة لما تتضمنه من رمزية سياسية كبيرة.
ومنيت قوات الدعم السريع بخسائر ميدانية خلال الفترة الماضية، وفقدت السيطرة على ولايتي الجزيرة وسنار، ومناطق في شمال كردفان والنيل الأزرق بجانب الخرطوم.
ويرمي ظهور حميدتي هذه المرة إلى إثبات قدرته على التماسك والصمود عسكريا والسعي نحو استعادة زمام المبادرة ميدانيا، لكن هذه الرغبة تغفل ما يدور من انسحابات في مناطق متفرقة بلا قتال، حيث وصل الأمر إلى حد الاستسلام أحيانا.
وشكلت قوات الدعم السريع والحركة الشعبية – شمال، وتجمع قوى تحرير السودان وحركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي، وقوى سياسية وأهلية تحالف “السودان التأسيسي” الذي جرى إعلانه من نيروبي مؤخرا، وتوصلت أطرافه إلى اتفاق على تشكيل حكومة موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة الدعم السريع، وتم التوقيع على دستور انتقالي، والتجهيز للإعلان عن تشكيل حكومة جديدة من داخل السودان.
ولا يخلو تهديد ووعيد قائد الدعم السريع من رغبة في عدم غلق باب المفاوضات تماما مع الجيش، على الرغم من أن قائده الفريق أول عبدالفتاح البرهان أكد أن المعركة صفرية، وأن دحْر ما أسماه بـ”المتمردين” أمر ضروري، في إشارة إلى قوات الدعم السريع، وهو ما يوحي بعدم ميله إلى التفاوض معها مرة أخرى.
ويبدو رفع معنويات قوات الدعم السريع أمرا مطلوبا في هذه المرحلة التي تتناقض فيها الرسائل بشأن الحرب والسلم، والوحدة والانفصال، وتشهد خسارة بعض المكاسب السياسية التي تحققت خلال الفترة الماضية، وهو ما يستلزم تعويضه من خلال خطاب يحوي قدرا من الحماس في صفوف الدعم السريع.
وقال المحلل السياسي السوداني الشفيع أديب إن خطاب حميدتي جاء متأخرا للغاية بعد فقدان السيطرة على جزء كبير من قواته على الأرض وتقطع سبل التواصل بينها، ولم تعد هناك قيادة قادرة على تبني خطط عسكرية، عكس ما كان عليه الوضع في الأيام الأولى من الحرب منذ نحو عامين، حينما كان يملك سيطرة فعلية على الأرض، ولذلك تسبب ابتعاد حميدتي عن القيادة العسكرية الميدانية في فقدان جزء من قوة عناصره الحركية، لأن حضور القيادة له دور مهم في رفع المعنويات.
وأوضح في تصريح لـ”العرب” أن قوات الدعم السريع تبدو الآن بلا قيادة عسكرية كبيرة وقوية على الأرض، فوجود بعض القيادات في المواقع التي تسيطر عليها لا يكفي لإحداث وحدة متكاملة بين العناصر في مناطق متفرقة على مسافات متباعدة، ما يفسر خسارة بعض المواقع الحيوية مؤخرا.
وشدد أديب على أن حميدتي رحب بالتوقيع على الميثاق السياسي في نيروبي، ولم يوقع عليه بشكل شخصي (وقع نائبه عبدالرحيم دقلو)، غير أن هذه الخطوة لا تحظى بتأثير سياسي، وأصبحت قوات الدعم السريع جزءا من قوى سياسية ومجموعات مسلحة هدفها تشكيل حكومة موازية.
وأعلن حميدتي ترحيبه بالدستور الذي وقعه تحالف الميثاق التأسيسي في نيروبي، وينص على علمانية الدولة، ووصف التحالف التأسيسي بأنه أكبر تحالف سياسي عسكري اجتماعي، يجمع كافة السودانيين تحت مظلة واحدة من أجل قضاياهم العادلة.
وتتواجد قوات لحميدتي في الخرطوم وتسيطر على مواقع إستراتيجية مهمة، بما في ذلك القصر الرئاسي ومقار الوزارات وغالبية المواقع السيادية،علاوة على معظم ولايات إقليم دارفور ومناطق عديدة في جنوب كردفان، ما يجعل ظهوره مرتبطا برغبته في التأكيد على الحضور القوي، وعدم خروجه من المشهد العام، وأهمية إشراكه في أي عملية سياسية أو تفاوضية جديدة، وهي رسالة إلى الداخل والخارج أيضا.
وأوضح الشفيع أديب لـ”العرب” أن قائد الدعم السريع يملك قدرة على جمع الكثير من الأطراف السياسية في الداخل لدعمه، وأن المجتمع الدولي لم يفقد الأمل في التعامل معه، وثمة عناصر تابعة للدعم تقوم بجمع ما يسمى بـ”المستنفرين”، أسوة بالجيش، في المناطق التي تتواجد فيها، ولدى قوات الدعم السريع سلاح يمكّنها من مواصلة المعركة.