منذ أن اندلعت الأزمة السودانية الحالية، حاول الجنرال عبدالفتاح البرهان أن يناور في جميع الاتجاهات، بحثًا عن موقع يضمن له البقاء في المشهد السياسي والعسكري. لكنه، كما يبدو، وجد نفسه في متاهة صنعها بنفسه، حيث لا يجد مخرجًا واضحًا إلا عبر تبني نهج الإسلاميين الذين شكلوا ذخيرته الأيديولوجية والسياسية منذ انقلابهم في عام 1989.
أراد البرهان، بعد أن ضاقت عليه الخيارات، أن يقدم نفسه كرجل دولة قادر على معالجة أخطاء الماضي، فخرج بتصريحات تتعلق بإصدار جوازات سفر لمن مُنعوا منها خلال السنوات الماضية. لكن، بدلاً من أن يعلنها كحق أصيل للمواطن، تعامل معها وكأنها منحة، متناسيا أن الجواز وثيقة رسمية لا يملك هو أو غيره الحق في منعه عن أي سوداني. كان الأجدر به أن يقرّ بهذا الحق بوضوح، وأن يعترف بأن منع المواطنين من السفر جريمة سياسية وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان. لكن البرهان، في محاولة للحفاظ على توازنه بين الإسلاميين والمجتمع الدولي، ترك الباب مواربًا لممارسة المزيد من الابتزاز السياسي.
لا يمكن فهم تصريحات البرهان إلا بوصفها جزءًا من لعبة سياسية تقليدية قائمة على المناورة. فهو يحاول أن يُظهر نفسه كرجل إصلاح، لكنه في الحقيقة لا يملك أي مشروع إصلاحي. وإذا كان جادًا في هذا الاتجاه، فلماذا لم يتحدث بوضوح عن الجرائم التي ارتكبها نظام الإنقاذ؟ لماذا لم يعلن عن محاكمات علنية لرموز النظام السابق، أو عن تسليم المطلوبين للعدالة الدولية؟
◄ إسقاط مشروع الإسلام السياسي في السودان لا يتحقق عبر انتظار قرارات فردية من البرهان أو غيره، بل من خلال بناء جبهة وطنية موحدة تسعى إلى تأسيس دولة ديمقراطية حقيقية
إن تجنب البرهان لهذه الأسئلة الجوهرية يكشف عن ازدواجية خطابه، فهو يريد أن يطمئن الإسلاميين بأنه لن يتجاوزهم، وفي الوقت ذاته يحاول مغازلة القوى الدولية التي تراقب المشهد السوداني عن كثب. لكن هذه المراوغة لن تدوم طويلاً، لأن السودان اليوم ليس هو السودان الذي كان تحت قبضة الإسلاميين المطلقة.
لم يكن البرهان بعيدًا يومًا عن الحركة الإسلامية، لكنه يحاول اليوم أن يتمايز عنها دون أن يصطدم بها. تصريحاته الأخيرة عن الإسلاميين جاءت باهتة وخالية من أي إدانة حقيقية لجرائمهم. لم يتحدث عن القتل الجماعي، ولا عن التعذيب، ولا عن قطع الرؤوس الذي مارسته ميليشياتهم، ولم يشر إلى سجلهم الطويل في قمع السودانيين. بل إنه لم يُدن بوضوح ما يحدث اليوم من حض علني على العنف من قبل رموزهم، مثل التحريض على عبدالحي يوسف وغيره، والذي لم يترددوا في وصفه بأوصاف تجعل دمه مستباحًا في فقههم المتطرف.
لكن المثير هنا أن البرهان لم يحرك ساكنًا، ولم يتخذ أي إجراءات قانونية ضد هذه التهديدات المباشرة. لماذا؟ لأنه لا يزال يرى في الإسلاميين جزءًا من توازن القوى الذي يسعى للحفاظ عليه. لكنه يتناسى أن الإسلاميين لا يعترفون بسلطة يشاركهم فيها أحد، وهم لا يقبلون إلا بحكم مطلق تحت راية مشروعهم الأيديولوجي.
وما يفضح البرهان أكثر هو ثقته العالية بنفسه، والتي لا تتناسب إطلاقًا مع مقدراته السياسية والعسكرية. إنه يتصرف وكأنه قادر على الإمساك بجميع الخيوط، لكنه في الحقيقة ليس سوى لاعب مؤقت في مشهد يتغير بسرعة. الإسلاميون أنفسهم يدركون ضعفه، ولذلك لا يخشونه، بل يمارسون ضده أسلوب الترهيب والابتزاز السياسي، وهو عاجز عن مواجهتهم.
إذا نظرنا بعمق إلى خط سير البرهان، سنجد أنه يحاول إعادة إنتاج نموذج البشير في صيغته الأولى، أي منذ 1989 حتى 1999، عندما كان البشير هو “الواجهة العسكرية” للحركة الإسلامية، قبل أن ينقلب على شيخه الترابي في ما عُرف بالمفاصلة. يريد البرهان أن يبدأ كرئيس عسكري في القصر، ثم يعيد ترتيب المشهد عبر صراع داخلي بين الإسلاميين، ليخرج في النهاية كقائد أوحد. لكنه ينسى أن ظروف 2024 ليست ظروف 1989، وأن الوعي الشعبي السوداني اليوم أكثر نضجًا من أن ينطلي عليه هذا السيناريو القديم.
◄ تصريحات البرهان لا يمكن فهمها إلا بوصفها جزءًا من لعبة سياسية تقليدية قائمة على المناورة. فهو يحاول أن يُظهر نفسه كرجل إصلاح، لكنه في الحقيقة لا يملك أي مشروع إصلاحي
البرهان، في محاولته للعب على جميع الحبال، يواجه أيضًا التيار العالمي المتصاعد ضد الإسلام السياسي، لكنه في الوقت نفسه يخشى خسارة دعم الإسلاميين داخل الجيش ومؤسسات الدولة. إنه يقف في المنتصف، لكن هذه الوضعية الهشة لن تستمر طويلاً. فلا هو قادر على كسب ود القوى المدنية التي ترفضه، ولا هو قادر على إرضاء الإسلاميين الذين يرونه مجرد أداة مؤقتة لتحقيق أجندتهم.
إن مراوغات البرهان، مهما حاول، لن تستطيع إنقاذه من المصير المحتوم. فكل الطرق التي يسلكها اليوم تقوده إلى عزلة متزايدة، سواء داخليًا أو خارجيًا. لا القوى الديمقراطية تثق به، ولا المجتمع الدولي يأخذه على محمل الجد، ولا حتى الإسلاميون يراهنون عليه كحليف مستدام.
الدرس الأهم الذي يقدمه التاريخ السوداني هو أن الإسلام السياسي لا يسقط إلا بإرادة شعبية موحدة. فكل تجارب التحولات الكبرى في السودان، سواء في 1964 أو 1985 أو 2019، قامت على تحالف الجماهير ضد الحكم الاستبدادي. اليوم، لا يزال هذا هو الطريق الوحيد الممكن للخلاص من إرث الإسلاميين ومن يحاول إعادة إنتاجه.
إن إسقاط مشروع الإسلام السياسي في السودان لا يتحقق عبر انتظار قرارات فردية من البرهان أو غيره، بل من خلال بناء جبهة وطنية موحدة تسعى إلى تأسيس دولة ديمقراطية حقيقية، لا مكان فيها لحكم العسكر أو تسلط الإسلاميين.
البرهان، رغم كل محاولاته، لا يستطيع الهروب من مصيره؛ فكل سياساته مبنية على رمال متحركة، وأوهامه لن تصمد أمام حقيقة واحدة: السودان الجديد لن يُحكم بأدوات الماضي.
العرب