آخر الأخبار

السودان بين الفيدرالية والعلمانية والديمقراطية

شارك الخبر

د. عبدالمنعم همت

تشكل قضية شكل الدولة ونظام الحكم محورًا أساسيًا في تاريخ الأمم، لاسيما في دول تتسم بتنوعها العرقي والثقافي والديني مثل السودان. هذا التنوع، الذي يفترض أن يكون مصدرًا للثراء والتكامل، أضحى على مر العقود ساحة لصراعات أيديولوجية وسياسية، حيث تتباين الرؤى حول النموذج الأمثل لتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين. وفي ظل هذا الجدل المستمر برزت أطروحات متعددة، تراوحت بين التوجهات الدينية المطلقة، والعلمانية الصارمة، والنظم الهجينة التي تحاول الموازنة بين مقتضيات الحداثة وإرث المجتمعات التقليدية. غير أن التجربة التاريخية تكشف أن النظام القادر على تحقيق الاستقرار والعدالة في السودان ليس سوى النظام العلماني الديمقراطي القائم على الفيدرالية.

حين تتبنى الدولة أيديولوجيا دينية، فإنها تضع نفسها في موقع الوصاية على الضمير الجمعي، محتكرةً الحقيقة، وراسمة حدودا ضيقة لما يُعد مشروعًا أو منحرفًا في المجال العام. هذا التصور يفضي بالضرورة إلى قيام سلطة استبدادية، تتخذ من الدين ذريعة لإقصاء المخالفين، وتجعل من التعددية الفكرية خطرًا على ما تعتبره وحدة الأمة. ويترتب على ذلك تضييق واسع على الحريات، وإغلاق أي مجال للنقاش السياسي الحر، حيث يصبح الانتماء الأيديولوجي معيارًا للمواطنة، فيما تُصنَّف المعارضة على أنها خيانة أو خروج عن الإجماع المزعوم. وبدل أن تكون الدولة راعية لحقوق مواطنيها، تتحول إلى أداة لإدامة منظومة من التراتبيات الاجتماعية والسياسية التي تشرعن التفاوت وتكرسه باسم العقيدة.

◄ الخيار الأمثل لسودان مستقر وعادل لا يكمن في إعادة إنتاج تجارب ثبت إخفاقها، بل في تبني نموذج قادر على استيعاب تنوعه العميق، دون أن يختزل الدولة في هوية واحدة أو أيديولوجيا بعينها

أما العلمانية، باعتبارها منهجًا يفصل بين الدين والسياسة، فقدمت نفسها كبديل يعالج إشكالية استغلال العقيدة لأغراض السلطة. غير أن التجربة أثبتت أن مجرد الفصل بين المجالين لا يكفي لتحقيق العدالة، إذ إن العلمانية في بعض تطبيقاتها انحرفت نحو إقصاء المكونات الدينية من المجال العام، متسببة في خلق توترات اجتماعية من نوع جديد. فالنظام الذي يدّعي الحياد الديني قد يتحول في ممارساته إلى طرف منحاز، يخضع لمصالح نخب سياسية واقتصادية تسعى لترسيخ نفوذها تحت غطاء الدولة الحديثة، ما يؤدي إلى نوع آخر من التسلط، يُمارَس هذه المرة باسم العقلانية والتقدم.

إن تجاوز هذه الإشكاليات لا يكون بمجرد استبدال نموذج بآخر، بل بإيجاد صيغة تضمن لجميع المواطنين حقوقهم دون تمييز، وتتيح لهم المشاركة الفاعلة في إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية. من هنا يظهر أن الديمقراطية العلمانية، حين تُبنى على أسس راسخة من العدالة والمساواة، تقدم الحل الأكثر نجاعة، إذ تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية، دون النظر إلى الانتماءات الدينية أو العرقية. وهي لا تكتفي بتحييد الدولة تجاه المعتقدات، بل تضمن أن تكون المؤسسات السياسية مفتوحة للجميع، بحيث يُتاح لكل فرد التعبير عن آرائه والمساهمة في صياغة القرارات العامة عبر آليات ديمقراطية شفافة.

في هذا السياق يمثل النظام الفيدرالي امتدادًا طبيعيًا لهذا النموذج، حيث يتيح توزيع السلطة بشكل يضمن مشاركة حقيقية للمجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، بدل أن تبقى خاضعة لإملاءات مركزية قد لا تراعي خصوصياتها الثقافية والاجتماعية. ومن شأن هذه الصيغة أن تخفف من النزاعات الناتجة عن تهميش بعض المناطق أو المجموعات، إذ تمنح كل إقليم القدرة على تحديد أولوياته وفق احتياجاته الخاصة، دون أن يتعارض ذلك مع الإطار الوطني العام. إن الفيدرالية، حين تقترن بالمبادئ الديمقراطية والعلمانية، توفر بيئة سياسية تكفل التعددية، وتعزز فكرة الانتماء المشترك دون أن تُلغِي التنوع القائم.

لا شك أن الانتقال إلى نموذج كهذا في السودان يواجه تحديات جمة، تبدأ من الموروث السياسي والاجتماعي الذي ترسخت فيه ذهنية الإقصاء والهيمنة، ولا تنتهي عند المصالح المتشابكة التي تفضل الإبقاء على الوضع القائم. غير أن التغيير لا يُبنى على معطيات آنية، بل على رؤية بعيدة المدى تستند إلى إيمان حقيقي بأن العدالة لا تتحقق عبر الهيمنة، سواء أكانت دينية أم علمانية محضة، بل من خلال دولة تستوعب الجميع، وتفتح المجال لمختلف مكوناتها للمساهمة في بناء مستقبل مشترك. وفي نهاية المطاف، فإن الخيار الأمثل لسودان مستقر وعادل لا يكمن في إعادة إنتاج تجارب ثبت إخفاقها، بل في تبني نموذج قادر على استيعاب تنوعه العميق، دون أن يختزل الدولة في هوية واحدة أو أيديولوجيا بعينها.

العرب

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك الخبر


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا