لا تزال شعارات ثورة ديسمبر – كانون الأول مشتعلة في وجدان الشعب السوداني، لكنها تواجه منعطفًا حاسمًا في تحقيق التغيير الحقيقي. فالثورة ليست مجرد لحظة احتجاجية أو حراك جماهيري عابر، بل عملية طويلة الأمد تتطلب إعادة بناء المنهج الجماهيري الذي يحكم الحراك السياسي في السودان. إن التحدي الأكبر أمام نجاحها اليوم يكمن في استمرار هيمنة الأحزاب السياسية التقليدية التي لم تستطع تجاوز أطرها الفكرية والتنظيمية القديمة، ما جعلها عاجزة عن مواكبة التحولات العميقة التي فرضها الحراك الشعبي.
تعاني الأحزاب السياسية في السودان من حالة جمود مستمر، حيث لم تتمكن من استيعاب الدروس العميقة التي قدمتها ثورة ديسمبر. يمكن وصف وضعها بالمقولة الشهيرة: “لم تنسَ شيئًا ولم تتعلم شيئًا”، إذ لا تزال أسيرة لنفس العقلية التي حكمتها لعقود، تتعامل مع السياسة كصراع نفوذ بين قياداتها دون تطوير آليات جديدة للتفاعل مع الجماهير. هذا الجمود الفكري والتنظيمي انعكس على الأداء الحزبي، إذ أصبحت الأحزاب عاجزة عن قيادة الحراك الشعبي أو حتى التفاعل معه بطرق فعالة.
◄ ثمة فرضية تزداد وضوحًا مع مرور الوقت وهي أن الأحزاب السياسية لم تعد تمتلك ذلك الزخم الجماهيري الذي اعتادت عليه في الماضي بعد أن تآكلت قواعدها الشعبية بسبب سياساتها المتذبذبة
الأحزاب التقليدية لم تقدم حتى الآن مشاريع سياسية تعكس طموحات الجيل الجديد الذي أطلق الثورة، بل ظلت تتصارع داخليًا بين تيارات محافظة ترفض التغيير، وأخرى تسعى للتماهي مع روح الثورة ولكن دون مراجعات حقيقية. النتيجة هي أن هذه القوى فقدت الكثير من قاعدتها الجماهيرية، وأصبحت عاجزة عن تقديم خطاب جديد يعيد ثقة الشارع بها.
على عكس حالة الركود التي تعاني منها الأحزاب، تشهد القوى الشعبية التي فجرت الثورة تحولات جوهرية، حيث أصبحت أكثر وعيًا بأهمية تنظيم نفسها خارج الأطر الحزبية التقليدية. لقد أدركت هذه القوى أن استمرار الثورة لا يعتمد فقط على الاحتجاجات، بل يتطلب بناء أدوات سياسية وتنظيمية جديدة تُمكّنها من فرض رؤيتها في المشهد السياسي.
ما يحدث حاليًا ليس مجرد فقدان الثقة بالأحزاب، بل هو عملية إعادة تعريف للعمل السياسي نفسه. الجماهير التي فجرت الثورة باتت ترى أن التغيير لا يمكن أن يكون عبر التنافس الحزبي فقط، بل عبر بناء أشكال تنظيمية جديدة أكثر ديمقراطية، وأقدر على استيعاب التنوع داخل المجتمع السوداني. من هنا تأتي أهمية إعادة هيكلة العمل الجماهيري ليكون أكثر فاعلية، وأقل تأثرًا بالصراعات الحزبية التي عطلت مسار الثورة.
ثمة فرضية تزداد وضوحًا مع مرور الوقت، وهي أن الأحزاب السياسية لم تعد تمتلك ذلك الزخم الجماهيري الذي اعتادت عليه في الماضي. لقد تآكلت قواعدها الشعبية بسبب سياساتها المتذبذبة، وغيابها عن قضايا الجماهير الحقيقية، الأمر الذي جعلها تفقد مصداقيتها. في المقابل نشأت أشكال جديدة من التنظيمات السياسية والمدنية التي تسعى لملء الفراغ الذي تركته هذه الأحزاب.
◄ الأحزاب التقليدية لم تقدم حتى الآن مشاريع سياسية تعكس طموحات الجيل الجديد الذي أطلق الثورة، بل ظلت تتصارع داخليًا بين تيارات محافظة ترفض التغيير
هذا الواقع ليس بالضرورة محبطًا، بل يمكن اعتباره مؤشرًا على تعافي الحركة الجماهيرية من الحزبية المتجمدة التي كانت تعيق قدرتها على التأثير. التحولات الجارية تُظهر أن المجتمع السوداني أصبح أكثر استقلالية في خياراته السياسية، وأكثر ميلًا إلى بناء قوى شعبية جديدة قادرة على ترجمة شعارات الثورة إلى مشاريع عملية.
أحد أبرز ملامح هذه المرحلة هو التحول من مجرد الاحتجاج على الواقع القائم إلى السعي نحو بناء جو ثوري حازم يفرض المحاسبة على كل من تسبب في الأزمات التي مرت بها البلاد. هذا التوجه يعكس نضجًا سياسيًا لدى الحراك الجماهيري، حيث لم تعد المطالب تقتصر على إسقاط الحكومات، بل أصبحت تركز على تفكيك منظومة الفساد والاستبداد التي تحكمت في السودان لعقود.
إن تحقيق هذا الهدف يتطلب إعادة النظر في طبيعة الدولة السودانية، التي جُيّرت لمصلحة الأحزاب السياسية، حيث تحولت الأجهزة الأمنية والجيش والخدمة المدنية إلى أدوات حزبية أكثر من كونها مؤسسات تخدم الوطن. تفكيك هذه البنية وإعادة بناء الدولة على أسس ديمقراطية هما التحدي الحقيقي الذي يواجه الثورة السودانية اليوم.
تمر ثورة ديسمبر بمرحلة مفصلية، حيث يتحدد مصيرها بناءً على قدرة القوى الثورية على تجاوز الجمود الحزبي وبناء بدائل تنظيمية جديدة. إن استمرار هذه التحولات سيقود إلى مشهد سياسي أكثر نضجًا، حيث يصبح العمل الجماهيري أكثر استقلالية وفاعلية، ما يمهد الطريق أمام بناء دولة ديمقراطية حقيقية تعبر عن تطلعات الشعب السوداني. في النهاية، الثورة ليست حدثًا عابرًا، بل عملية مستمرة من التغيير والتجديد، ولا يزال أمامها الكثير لتحقيقه.
العرب