تقرير: سمية المطبعجي
تأثيرات عميقة ومدمرة أحدثتها الحرب الدائرة في السودان منذ أبريل 2023 على كافة المناحي ، إنسانية ،إجتماعية وبيئية واقتصادية وغيرها حتى على الصعيد النفسي . اقتصادياً، تفاقمت أرقام المعدلات الاقتصادية سلباً، ليتصدر السودان قوائم التضخم والإنكماش والدين العام على مستوى العالم . مديرة دائرة افريقيا في صندوق النقد الدولي كاثرثن باتيلو تؤكد أن الحرب في السودان امتد أثرها حتى على مستوى الدول المجاورة بقولها ” حرب السودان تسببت بأضرار اقتصادية مدمرة للسودان واضرار جسيمة للدول المجاورة ..” . وقدرت الخسائر الاقتصادية من الحرب بعد عام فقط ب 200 مليار دولار .
إنهيار اقتصادي مريع
تقدر تقارير دولية تأثر الاقتصاد السوداني بالحرب بنسبة 85% ، في ظل وصول معدلات التضخم لأكثر من 198% حتى نوفمبر 2024 ، وبلغ معدل الإنكماش أكثر من 15% وفق البنك الدولي ، وخسرت العملة المحلية أكثر من 300% من قيمتها حتى منتصف 2024 بعد أن لجأت الحكومة إلى طباعة النقود . الإيرادات العامة للدولة تراجعت بنسبة 80% .
وحسب وزيرة الصناعة المكلفة محاسن يعقوب، أن 90% من المصانع في الخرطوم دمرت تماما، وتساهم الصناعة بنسبة 21% من إجمالي الناتج المحلي، وتدنى إنتاج النفط بعد عام من الحرب من 54 برميل يومياً إلى 22 ألف، فضلاً عن توقف تصدير نفط جنوب السودان . وعلى الرغم من أن صادرات الذهب كانت تمثل 44% من الإيرادات، وتفيد التقارير إلى استمرار إنتاجه في مناطق لم تتأثر بالحرب، إلا أن تقارير إعلامية أفادت عن مسؤلين بإنخفاض إنتاجه إلى 2 طن مقارنة ب 18 طن ما قبل الحرب . إلا أن مصادر أخرى رجحت أن إنتاج الذهب في العام 2024 قد بلغ 64 طناً، صدر نصفه.
فقطاع الذهب ظل دوما يعاني من تحديات جمة تتعلق بالفساد والتهريب، ويستخدم في تمويل الأطراف المتنازعة ويزيد من المطامع الدولية. وأمام ذلك الإنهيار الاقتصادي المريع ودمار البنية التحتية في البلاد يقفز التساؤل لدي الكثيرين حول كيفية الإعمار حال توقف الحرب، لتقف ديون السودان الخارجية ممثلة عبئا رئيسياً أمام جهود إعادة الإعمار والتنمية بعد الحرب. خاصة بعد موقف المجتمع الدولي وتراخيه في الاستجابة الى نداءات تقديم المساعدة المطلوبة لجمع حوالي 4 مليار دولار قيمة المساعدات الإنسانية، والتي لم تلبى منها فقط سوى 49% من التمويل المطلوب. وتقدر جملة الديون المتراكمة على السودان بحوالي 60 مليار دولار , ووفقاً لصندوق النقد الدولي يحتل السودان المرتبة الأولى عالمياً في نسبة الدين الحكومي إلى إجمالي الناتج المحلي بنسبة 284%.
تعافي فانتكاسة
كانت حكومة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك قد بذلت مجهودات لإعادة دمج السودان في المجتمع الدولي والإستفادة من مبادرة الدول الفقيرة المثقلة بالديون (هيبك – HIPC)، وهي المبادرة التي أسسها صندوق النقد والبنك الدوليين في العام 1996 بحيث تأخذ بيد الدول النامية الأعلى مديونية وتكافح للتخلص من مديونيتها التي تعيق نموها فتمنحها فرصة للتخلص من تلك الديون، شرط قيام تلك الدول بإصلاحات جادة وتحقيق سجل أداء يثبت استقرار اقتصادها الكلي وخفض نسبة الفقر في فترة محددة . وقبيل إنقلاب الفريق البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ، تمكنت حكومة حمدوك بالفعل من أخذ موافقة صندوق النقد والبنك الدوليين بإدراج إسم السودان ضمن المبادرة، وذلك عقب مؤتمر باريس الشهير في مايو من العام.
وخلال المؤتمر كان قد حصل على تعهدات بإعفاء ديون بقيمة 30 مليار دولار ، وأعلنت فرنسا خلال المؤتمر بإعفاء ديونها البالغة 5 مليار دولار وتعهدت دول أخرى كذلك . وكان مؤمل أن تصل ديون السودان إلى 6 مليار في غضون 3 سنوات من تاريخ يونيو 2021 بعد خفض ديونه وفق مبادرة هيبك . وتوقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد خلال خمس سنوات بنسبة 3% دون تعرضه لإنكماش، وتباطؤ التضخم تدريجياً . حالة من التعافي إرتبطت بدعم النظام المدني الديمقراطي في أول خطواته، حيث أعلنت الولايات المتحدة دعمها مشاريع الكهرباء بقيمة مليار دولار عبر الوكالة الامريكية للتنمية ، بناء على طلب حمدوك بإدخال السودان ضمن مشروع الوكالة الذي يستهدف إنتاج 30 ألف ميغاواط من الكهرباء في إطار جهود تعزيز التنمية في القارة . وبتكلفة 640 مليون دولار سيضخها بنك التنمية الافريقي بمساهمة البنك الدولي ب 75 مليون دولار ، خطط السودان لإعادة تأهيل السكك الحديدية، يفترض أن يكتمل تأهيلها بحلول العام 2024 ، فيما تنطلق المرحلة الثانية بربط السودان بدول الجوار (اثيوبيا- تشاد – افريقيا الوسطى واريتريا) بخط يمتد من ميناء بورتسودان . فيما وقعت شركة لوفتهانزا الألمانية إتفاقية لإعادة هيكلة شركة الخطوط الجوية السودانية . وغيرها من الإنفتاحات والفرص التنموية.
إلا أن حالة التعافي تلك لم تدم وتعثرت بإنقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021 ، لتعلن الدول الغربية والمؤسسات المالية الدولية تعليق إعفاء 50 مليار من الديون وتجميد المساعدات بما فيها 700 مليون دولار معونة من الحكومة الامريكية . ولم تجد مناشدات حكومة البرهان أذناً صاغية لإستئناف العملية.
المسار الديمقراطي ولا مناص
ما يؤكد أن لا مناص من العودة إلى المسار المدني الديمقراطي في ظل الإنهيار شبه التام للإقتصاد المحلي والبنية التحتية والحاجة الملحة لإعادة الإعمار حال وقف الحرب، والتي تتطلب استقرارا سياسيا وأمنياً لجذب الاستثمارات الأجنبية بغرض إعادة البناء وتأهيل القطاعات الإنتاجية.
وعلى ما يبدو ان نظام الحكم في السودان سيجد لزاما عليه تحقيق المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية لمنع الصراعات مستقبلا ،والقيام على أسس الإصلاح المؤسسي الشامل القائم على الشفافية ومكافحة الفساد، حتى تتمكن من إعادة البناء بمزيج من الموارد الذاتية والدعم الدولي الذي لا مفر من اللجؤ اليه تحقيقاً للسلام والتنمية.
تجارب إعادة الإعمار
وكان لتجارب كل من العراق ولبنان في إعادة الإعمار بعد الحرب، المزج بين التمويل المحلي والدولي بانشاء صناديق للموارد والاستثمارات المحلية. وقد حظي العراق بدعم من البنك وصندوق النقد الدوليين، إلا أن الفساد أعاق تقدم بعض المشروعات. كذلك حصل لبنان على دعم من دول الخليج لمشاريع البنى التحتية ولكن حصارها بالديون أدى لازمات اقتصادية لاحقة.
اما التجربة الرواندية فقد كانت المثلى، فقد ركزت رواندا على الاستثمار في رأس المال البشري بالاهتمام بمجالي التعليم والصحة لتتحول الى مجتمع منتج ونموذجا للرعاية الصحية بين الدول الافريقية . وانطلقت الدولة التي دمرتها الحرب لتنهض مجدداً متعافية، من الاستفادة من مبادرة هيبك لاعفاء ديونها، واستفادت من تمويل طويل الاجل لدعم القطاعات الأساسية وتوسيع شبكات الكهرباء والطرق وتطوير المشاريع الزراعية. واستفادت من البنك الدولي في الإصلاح الضريبي والإدارة المالية وبناء مؤسسات تعزيز الحوكمة ومكافحة الفساد حتى أصبحت من افضل الدول الافريقية مكافحة للفساد. وقد سجلت رواندا خلال العقدين الأخيرين نموا اقتصاديا بنسبة 7- 8%.
قد يكون من المبكر في ظروف السودان الحالية تناول مسالة إعادة الاعمار وتحدياتها، تسبقها موضوعات ذات أولوية ، ولكن إعادة الاعمار في ظل الواقع المتهالك والبنية التحتية التي دمرت بشكل شبه تام في المناطق التي شهدت نزاعات في انحاء السودان، قضية تراود اذهان الكثيرين، كما انها عملية طويلة ومعقدة تتطلب تخطيطا وتمويلا ضخما وإرادة سياسية قوية تتناسب وحجم المرحلة والتأسيس لدولة أكثر قوة وعدالة بإصلاح الأخطاء السابقة والاستفادة من تجارب الدول.
صحيفة مداميك