ملخص
يوثق فيلم “الخرطوم” الحياة في العاصمة السودانية قبل الحرب وبعد اندلاعها، متتبعاً قصص سكانها وتأثير النزاع في حياتهم وتراثهم الثقافي، ويتجاوز الفيلم التوثيق ليكون شهادة حية، إذ يسعى صانعوه إلى رفع الوعي العالمي حول الأزمة الإنسانية.
لوكين وويلسون، طفلان يبلغان من العمر 11 سنة و12 سنة، يمضيان يومهما في جمع الزجاجات حالمين بتحقيق أمنيتهما الأكبر في الحياة: شراء قميصين جميلين.
أما خادم الله، البالغ من العمر 27 سنة، فهو شاب جاء من جبال النوبة ويعمل في بيع الشاي على جوانب طرق الخرطوم. في المقابل، لدينا مجدي، الموظف الحكومي ذو الـ45 سنة، الذي لم يتوقف عن أداء عمله حتى عندما اندلعت الحرب في السودان في أبريل (نيسان) من عام 2023 موقعة البلاد في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
هؤلاء هم بعض الشخصيات التي يوثقها فيلم “الخرطوم” Khartoum، وهو أول فيلم سوداني يقام عرضه الأول في مهرجان صندانس السينمائي. والفيلم الذي عرض يوم الإثنين الماضي هو من إخراج مجموعة من المخرجين السودانيين: أنس سعيد وراوية الحاج وإبراهيم سنوبي وتيمية أحمد وفيل كوكس الذي تتضمن أعماله السابقة أفلاماً مثل “فندق الحب” The Love Hotel و”المحقق البنغالي” The Bengali Detective.
ويوثق الفيلم الحياة النابضة التي تمتعت بها شخصياته ومخرجوه أنفسهم إلى أن اندلع العنف في منتصف عملية الإنتاج، ليغير مجرى الأمور تماماً. تواجه البلاد حالياً واحدة من أسوأ أزمات النزوح في العالم، إذ تفيد “لجنة الإنقاذ الدولية” بأن أكثر من 11 مليون شخص اضطروا إلى ترك منازلهم. ولم يسلم فريق العمل والمشاركون في الفيلم من هذه الفوضى، إذ شتت النزاع صفوفهم وأجبرهم على تغيير وجهة الفيلم. بل وحتى تم توجيه موازنة العمل لضمان سلامة الفريق أثناء هربهم الشاق نحو مناطق أكثر أماناً. وفي خضم هذا الصراع، تعرضت الأرشيفات والمكتبات والمتاحف للحرق والتدمير، مما أدى إلى فقدان جزء كبير من التراث الثقافي السوداني إلى الأبد.
قال المخرج أحمد لـ”اندبندنت”، “ليست لدينا لقطات توثق الهرب من الحرب، لم يكن آمناً تصوير أو تسجيل أي شيء داخل مناطق النزاع”.
ولملء الفراغات التي أحدثها هذا النزوح، لجأ صانعو الفيلم إلى مشروع “ذاكرة السودان” Sudan Memory، وهو أرشيف غني بالمواد الثقافية النادرة التي جمعها أكاديميون من كلية كينغز في لندن. أوضحت الدكتورة مارلين ديغان، إحدى مؤسسي المشروع، أن الفريق قام حتى الآن بتحويل أكثر من 300 ألف صورة إلى نسخ رقمية، واستمر في عمله على رغم استمرار الحرب.
قدم المشروع ما وصفه أحمد بـ”الحل الإبداعي”، إذ استعان الفيلم بمواد أرشيفية تضمنت صوراً معاصرة وأغلفة ألبومات وتذاكر طيران ومشاهد ريفية، لإعادة بناء العالم الذي تركه السودانيون وراءهم. من بين هذه المواد صور التقطها عالم الآثار الألماني بافل وولف ومقتنيات من متحف بت ريفرز Pitt Rivers Museum في أوكسفورد.
وتأسس مشروع “ذاكرة السودان” للمرة الأولى بعدما قام تنظيم “داعش” بتدمير مكتبات ومتاحف نادرة في تمبكتو، شمال مالي عام 2012. تقول الدكتورة مارلين ديغان: “أثار هذا الحدث قلق السودانيين من أن يتكرر الأمر ذاته في بلادهم، وهو ما حدث بالفعل، إذ تواصل مع فريق المشروع للسؤال ما إذا كانت الرقمنة تقدم حلاً؟”.
ومنذ ذلك الوقت، تمكن المشروع من جمع 43 مجموعة من المواد، وهي متاحة على موقعه الإلكتروني، وتشمل مخطوطات وصوراً فوتوغرافية ورسومات غرافيتي وأفلاماً وأعمالاً موسيقية، أوضحت ديغان: “هناك قصص عن الطعام وكرة القدم والتماسيح في النيل”، وأضافت أن السودان، الذي يضم عدداً من الأهرامات يفوق تلك التي في مصر، يحتوي على واحدة من أكبر أرشيفات الأفلام في أفريقيا. وأوضحت “نريد أن نظهر للعالم أن السودان ليس مجرد مجاعة أو حرب أو إبادة جماعية، هناك ثقافة غنية هنا، تضاهي حضارات الإغريق والرومان والمصريين”.
يؤكد صانعو الفيلم أن “الخرطوم” ليس مجرد عمل توثيقي أو إخباري، بل شهادة حية على السودان الذي كان موجوداً قبل أن يلتهمه النزاع. يقول المخرج إبراهيم سنوبي: “كانت هناك دائماً صورة أكبر في أذهاننا، حتى لو لم ينجح الفيلم، فإنه سيحقق الهدف بكونه وثيقة وشهادة عن الخرطوم ما قبل الحرب، إنه الطريقة الوحيدة التي نستطيع من خلالها سرد القصة من دون أن تكون مجرد حكاية حزينة أخرى من أفريقيا”.
يؤكد كوكس هذا الرأي، مشيراً إلى أن الفيلم يغطي قرناً من تاريخ السودان، مضيفاً “إنه يتحدث عن آخر 100 عام، لا تقتصر سرديته على الزمن الحالي فقط، بل هناك شيء أعمق بكثير، وهو ما تقدمه الصور”.
وصرحت الدكتورة إيريكا كارتر، أستاذة الدراسات الألمانية ودراسات السينما في كلية كينغز لندن، بأن الفريق يرى عمله بمثابة توفير ما تصفه هانا إشمعيل، المديرة السابقة لمجموعات “أرشيف الثقافة السوداء” بـ”ملاذ أرشيفي”.
وأضافت كارتر “ليس هذا التراث ملكنا لنحتفظ به، ولكن علينا العناية به لأننا نتحمل مسؤولية القيام بذلك. نحن أمة غنية، وما حاولنا فعله في كلية كينغز هو الاعتراف بأننا نمتلك المعرفة والقدرات التي يمكننا توظيفها لخدمة الآخرين”.
أما بالنسبة إلى صناع فيلم “الخرطوم”، فإن المشروع يتجاوز كونه مجرد عمل إبداعي، بل يحمل طابعاً شخصياً عميقاً. أصبحت راوية الحاج، إحدى المخرجات، الوصية القانونية لـلوكين وويلسون، بعدما نقلت الصبيين إلى نيروبي عقب بحث مضن للعثور عليهما عندما اندلعت الحرب. كان الصبيان، المعروفان بروحهما المرحة والمبهجة، قد تعرضا للتجنيد كرقيق من الميليشيات. ومنذ ذلك الحين، تم إطلاق حملة جمع تبرعات عبر منصة “غو فاند مي” GoFundMe لدعم تعليمهما.
قالت راوية: “كنت أرغب في تغيير حياة هذين الطفلين، وأنا أفعل ذلك الآن بوجودهما معي، يعني تحقيق هذا الهدف كل شيء بالنسبة إلي”.
وقبيل العرض الأول للفيلم في مهرجان صندانس، أوضحت تيمية أحمد الغرض من الفيلم قائلة: “ليس الهدف من الفيلم المشاركة في المهرجانات أو حصد الجوائز، الفوز الحقيقي بالنسبة إلينا هو نشر الوعي، أن يدرك العالم ما يحدث في جزء من شمال شرقي أفريقيا”.
اندبندنت عربية