آخر الأخبار

هل يعيد السودان تجربة العزلة والمحاور بعد الحرب؟

شارك الخبر

منى عبد الفتاح

ملخص

طوال ثلاثة عقود من نظام عمر البشير، وبخلاف الفترة الانتقالية، وحتى انقلاب عبدالفتاح البرهان على شركائه المدنيين، فليست ثمة نقطة مضيئة كان يعقد عليها أمل فك العزلة عن السودان. وهناك عوامل عديدة من شأنها أن تؤدي إلى احتمال عزلة السودان، ومنها ترسيخ الحكم العسكري مما قد يزيد من موقف المجتمع الدولي الرافض الذي يضغط باتجاه الانتقال إلى نظام ديمقراطي.

لم تكن حال السودان قبل اندلاع الحرب بين الجيش وقوات “الدعم السريع” بأفضل حال مما كانت عليه طوال ثلاثة عقود حكم فيها الرئيس السابق عمر البشير، وأوصلت البلاد إلى عزلة دولية أوردته أزمات سياسية واقتصادية. وبخلاف الفترة الانتقالية بعد سقوط البشير 2019، وحتى انقلاب رئيس مجلس السيادة ورئيس المجلس العسكري الفريق عبدالفتاح البرهان على شركائه المدنيين، فليست ثمة نقطة مضيئة كان يعقد عليها أمل فك العزلة. وبالفعل بدأت الدول والفواعل غير الدولية من منظمات وتكتلات سياسية واقتصادية بالحضور ضمن المشهد السوداني، وتعهدت بالتعاون مع السودان الجديد وفق شروط أساس تتضمن العمل على إقامة حكم مدني ونظام ديمقراطي، وأن يكفل النظام القائم مبدأ حقوق الإنسان والمساواة والعدالة بين السودانيين من دون تمييز على أساس اللون أو الجنس أو الإقليم.

يواجه السودان تحديات سياسية وأمنية واقتصادية (غيتي)

بعد الإجراءات التي فرضها البرهان عام 2021 وإلغاء العمل بالوثيقة الدستورية أصبح الوضع في السودان معقداً للغاية، وتوقف مستقبل البلاد على عودة المكون المدني إلى المشاركة في الحكم. كان هذا مطلب الدول والمنظمات التي أبدت استعدادها لمساعدة السودان، فبدأت العزلة الدولية على السودان، مع محافظتها على خط رجعة بناءً على اعتقاد أن البرهان الذي كان شريكاً للمدنيين يمكن أن يستجيب للنداءات العديدة بالعودة إلى الشراكة، ولكن انفجر الوضع ودخل السودان في الحرب المستمرة منذ أبريل (نيسان) 2023، فجمدت العلاقات الخارجية مع كثير من الدول والمنظمات.

وفي ظل ما يواجهه السودان من تحديات سياسية وأمنية واقتصادية، مع تصلب طرفي النزاع بالوصول إلى حل يؤدي إلى وقف القتال أو هدنة تسمح بتمرير المساعدات الإنسانية، والاتهامات المتبادلة بينهما، بدأ البرهان الآن جولات إقليمية ركز فيها على منطقة غرب أفريقيا، وتزامنت مع عودة السودان إلى منظمة “إيغاد”، وسط تكهنات متضاربة بين أن يؤدي هذا التوجه إلى عزلة جديدة للسودان، أو يخرجه من وهدته الحالية.

هدف استراتيجي

وتأتي استعادة القوات المسلحة السودانية مدينة ود مدني من قوات “الدعم السريع” في الـ11 من يناير (كانون الثاني) الجاري، كهدف استراتيجي للقوات المسلحة، أولاً باعتبارها عاصمة للسودان في عهد الاستعمار قبل تحويل الإدارة البريطانية العاصمة إلى الخرطوم. ثانياً، من الناحية العسكرية والاستراتيجية بحكم موقعها وسط السودان، مما يسهم في تطويق “الدعم السريع” التي تسيطر على مناطق عدة في الطريق الرئيس الرابط بين المدينتين. كذلك تمارس الكر والفر مع الجيش بمحاذاة النيل الأزرق، مما يسمح لها بالتحرك لاستعادة الخرطوم. كل ذلك من شأنه أن يدعم تحقيق سيطرة داخلية يستطيع على أساسها مخاطبة المجتمع الدولي. ومن خلال ذلك يمكنه أن يعزز الإجراءات التي فرضها البرهان، الذي استخدم هذا التكتيك للحصول على دعم شعبي من خلال تأطير الضغوط الخارجية باعتبارها إهانة لـ”الكرامة الوطنية”. وفي موازاة ذلك، فإن أي طلب دولي لإجراء حوار ومفاوضات بين الجيش و”الدعم السريع” يعني مساواة الطرفين، وهو ما يرفضه الجيش، ويطالب بتلبية شروط تنفذها “الدعم السريع” حتى يقبل بالتفاوض.

بدأ البرهان جولات إقليمية ركز فيها على منطقة غرب أفريقيا (غيتي)

وخلفية هذه العملية هي استيلاء “الدعم السريع” على ود مدني في ديسمبر (كانون الأول) 2023، واستخدام المدينة لتزويد قواتها في الخرطوم ومناطق أخرى في وسط السودان. وتتميز المدينة استراتيجياً كبوابة اتخذتها لتوسيع سيطرتها على مناطق من الأراضي الزراعية والقرى المختلفة. وهناك حديث متواتر عن أن الاستيلاء عليها ربما كان خيانة من قبل أفراد في القوات النظامية، وقد تعهد قادة الجيش بمحاسبتهم، ثم استعادة المدينة حالياً من دون مقاومة كبيرة، وتبدو الصورة غير واضحة وتعكس أن قادة الجيش يركزون على نزع الشرعية عن قوات “الدعم السريع” لدى بعض القوى الداعمة لها، وحصل أن دعا البرهان إلى تصنيفها كجماعة إرهابية خلال خطابه أمام الأمم المتحدة في سبتمبر (أيلول) 2024.

تحدي العقوبات

وبعد أسبوع من فرض واشنطن عقوبات على قائد “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو “حميدتي”، فرضت أيضاً عقوبات على قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، إذ اتهمته بتفضيل استمرار الحرب ورفض المفاوضات لإنهاء النزاع الذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الناس وشرد الملايين من ديارهم. ومن ضمن ما استندت إليه وزارة الخزانة الأميركية في حيثيات اتهامها أن الجيش انتهج تكتيكات في الحرب شملت القصف العشوائي للبنية التحتية المدنية، والهجمات على المدارس والأسواق والمستشفيات، والإعدامات خارج نطاق القضاء. كما أصدرت واشنطن عقوبات على توريد الأسلحة للجيش، ذكرت أنه يقوم بها مواطن سوداني – أوكراني، وشركة مقرها هونغ كونغ. وقضت العقوبات بتجميد أصول الجنرالين في الولايات المتحدة ومنع الأميركيين من التعامل معهما، مع إصدار تصاريح تسمح بمعاملات معينة، في ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية. وتأتي هذه العقوبات ضمن سلسلة إجراءات فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للضغط على الحكومة التي يقودها الجيش لاستعادة الحكم المدني.

حرب السودان مستمرة قتلاً وتدميراً ونزوحاً (عيتي)

في خطاباته وتصريحاته الأخيرة بدا البرهان متحدياً المجتمع الدولي ضمن استراتيجية أوسع لتعزيز موقفه وسط الانتقادات المتزايدة الموجهة له. ويظهر ذلك في مثل قوله “سمعت أنه ستكون هناك عقوبات على قيادة الجيش. نرحب بأي عقوبات لخدمة هذا البلد”. يعيدنا هذا الخطاب إلى مشهد الرئيس البشير وهو يتحدى المجتمع الدولي والعقوبات الخارجية منذ فرضها على السودان في منتصف التسعينيات وطوال فترة حكمه. وحاول البشير تأطير تحدي العقوبات ووضعها في مقابل الحفاظ على السيادة و”خدمة البلد”، وكان الغرض إظهار أن نظامه لا يمكن “تخويفه”، إضافة إلى محاولة الحصول على كسب شعبي. وتصرف البرهان هكذا بتحييد تأثير العقوبات في السودان، وقد تكون في خطاباته رسالة للمجتمع الدولي تشير إلى أن التدابير العقابية لن تجبر حكومته على الامتثال للمطالب الخارجية، وبدلاً منها المطالبة بالحوار بشروطه بدلاً من الدبلوماسية “القسرية”، غير أن خطاباته العديدة التي تأتي بالمعنى ذاته يختلف توقيتها وظروفها عن فترة البشير، إذ إن المجتمع الدولي بعد ما مر به السودان أصبح أكثر تدقيقاً وترقباً لأي ملامح تعكس الاتجاه نحو نهج تدابير استبدادية من شأنها إطالة أمد معاناة السودانيين.

كسر العزلة

واتجه البرهان إلى دول غرب أفريقيا، بداية من مالي ثم غينيا بيساو وموريتانيا والسنغال وسيراليون، بغرض كسر العزلة الدولية وبناء تحالفات جديدة لدعم موقفه الداخلي والخارجي، والتخلص من الضغوط الغربية. وأكد البرهان، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس غينيا بيساو عمر سيسكو إمبالو أن “علاقات السودان الخارجية ستبنى على مواقف الدول من الحرب الدائرة في البلاد”، وركز على العبارة المتوارثة لدى بعض الدول الأفريقية “حلول أفريقية للمشكلات الأفريقية”.

أول ما يتبادر إلى الذهن أن في هذه المنطقة دولاً يقودها جنرالات انقلبوا على نظم الحكم في دولهم، وتمردوا على الغرب، بل اتجهوا إلى استبدال علاقاتهم بدول مناوئة للغرب مثل روسيا والتعاون معها عسكرياً واقتصادياً، وقطعوا علاقاتهم مع منظمات أفريقية مثل “إيكواس”، بينما ظلت عضوية السودان معلقة في الاتحاد الأفريقي.

ونسبة إلى أن السودان يشترك مع دول غرب أفريقيا في تحديات مثل الإرهاب والجريمة المنظمة، فإن البرهان سيسعى إلى إظهار اهتمام السودان بهذه القضايا، مما يعكس الدور الأمني للسودان، ويلاقي اهتمام الغرب. هذا التوجه في السياسة الخارجية قد يجبر بعض الدول على مراجعة مواقفها أو البقاء على الحياد من علاقاتها مع السودان، مما يمنح البرهان مساحة للمناورة الدبلوماسية، ولكن أفريقياً فإن نجاح هذه الدبلوماسية يعتمد على مدى استجابة الدول الأفريقية لهذه المساعي، لا سيما في ظل التحديات التي يواجهها السودان داخلياً، لأن الدول والمنظمات في علاقاتها الخارجية عادة تستند إلى علاقات مستقرة وغير مشروطة لتقديم دعمها الاقتصادي والإنساني.

وربط البرهان علاقات السودان الخارجية بمواقف تلك الدول من الحرب، قد يضر بالمدنيين ضحايا الحرب، وهم في أشد الحاجة إلى المساعدات. ولا يبدو أن استراتيجية وضع الدول بين خيارين، ستدعم موقف السودان الدبلوماسي، بل ربما ستفاقم من فرص الوساطة الدولية والحلول المتوقعة، ولن تفضي بأية حال إلى استقطاب حلفاء، إضافة إلى أنه يشوبها عدم القدرة على الموازنة بين هذه السياسة ومراعاة المصالح الاستراتيجية مع الدول الكبرى والمؤسسات الدولية.

مستقبل الدبلوماسية

وهناك عوامل عديدة من شأنها أن تؤدي إلى احتمال عزلة السودان، ومنها:

-أولاً، ترسيخ الحكم العسكري سواء بقيادة البرهان أم وجه عسكري آخر، وهناك تكهنات بأن يُستعان بأحد القادة العسكريين في ثياب مدنية، مما قد يزيد من موقف المجتمع الدولي الرافض، الذي يضغط باتجاه الانتقال إلى نظام ديمقراطي وحث الحكومة على صياغة دستور وإجراء الإصلاحات اللازمة.

-ثانياً، لن تستطيع دول كثيرة خصوصاً في الغرب، حتى تلك التي لم تصدر منها عقوبات ضد السودان التعامل معه مراعاة لحلفائها، إضافة إلى السمعة الناتجة من انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت خلال النزاع، وإن كانت المساءلة توجه للطرفين، لكن ما يضر بعلاقات السودان الدبلوماسية أكبر.

-ثالثاً، كان السودان قبل اضطرابات ما بعد انتفاضة 2018، ثم الحرب، يلعب دوراً محورياً في المنطقة، ولاعتبارات معينة كان هناك خوف من الحرب في جنوب السودان ودارفور من أن تمتد إلى دول الإقليم، فكانت هذه الدول مضطرة إلى التعاون مع نظام البشير لحثه على إيقاف الحرب، وحتى لا تتسع دائرتها. ذلك الموقف الإقليمي استطاع تعويض السودان عن المقاطعة الغربية لفترة من الزمن. الآن اختلف الوضع لأن الحرب لا تقتصر على إقليم محدد، وبإمكانها أن تؤثر في دول الجوار كافة، مما أشاع نوعاً من الذعر، والعدائية في أحايين كثيرة، إضافة إلى أن هذه الدول منها غير المستقرة، ومنها ما هي خارجة لتوها من حرب طويلة، مما يعزز مخاوفها الإقليمية ويوجه مشاعر الغضب من عدم امتثال البرهان للحوار والتفاوض.

-رابعاً، ظل السودان طوال عهد البشير يتعامل مع دول يصنفها الغرب بأنها دول “مارقة” مثل إيران والصين وروسيا، أما الآن فإن هذه الدول إما وصلت إلى تحقيق توازن مع الغرب مثل الصين، أو في طريقها إلى ذلك مثل روسيا، أو هي في طور الانتظار لما يسفر عنه أداء دونالد ترمب في إدارته الثانية.

ومع ذلك فإن هناك بوادر أمل تحيطها ضبابية الموقف الداخلي، بأن تستجيب قيادات الجيش إلى الوساطات الإقليمية والدولية، لا سيما بعد عودة السودان إلى “إيغاد” بتحقيق هدنة تضمن وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، وهذا البند الملزم دولياً سيضطر المجتمع الدولي إلى التعامل مع الجيش، إلى أن يتم إقناعه بحوار ينهي الأزمة.

اندبندنت عربية

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك الخبر

الأكثر تداولا اسرائيل دونالد ترامب مصر

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا