بكري الجاك
إذا استمرت اطراف الحرب في الاصرار على الحسم العسكري والنصر الحاسم فالواضح انها ستدخل الحرب في مرحلة جديدة قوامها نقل الحرب إلى كل المناطق التي لم تصلها الحرب، او لم تدر فيها مواجهات مباشرة بين القوات على الأرض بهدف منع حدوث اي شكل من أشكال الاستقرار والأمن النسبي للمدنيين، والشاهد يتمثل في استهداف سلاح الطيران للمدنيين في نيالا والكومة وكاب الجداد وجنوب الحزام وغيرها من اسواق ومناطق تجمعات مدنية، هذا من جهة واستهداف مسيرات الدعم السريع لسد مروي ومحولات الكهرباء من جهة اخرى وقد نرى المزيد من هذا النوع كنتيجة لتغير طبيعة الحرب واهدافها. ستكون طبيعة أهدافها القادمة، اذا صحت الفرضيات، استهداف المدنيين واستخدامهم كرهينة وادوات في هذه المعارك، اذ يهدف الجيش إلى منع حدوث استقرار في مناطق لم يعد يقاتل فيها بشكل مباشر حتى ينسجم ذلك مع سردية انه لا يمكن ان تكون هناك حياة في مناطق يسيطر عليها الدعم السريع، وان تكون السردية الوحيدة السائدة هي ان الدعم السريع شيطانا أشر، وعلى المواطنين الفرار ما ان يدخل الدعم السريع منطقة سواء بهزيمة الجيش او بانسحابه بغض النظر عن الاسباب التي تجبر الناس البقاء في مناطق الحرب. والمؤكد ان انتهاكات الدعم السريع لا تحتاج إلى دعاية فهذا أمر وثقته لجان تحقيق دولية، ولكن بنفس القدر يقوم معسكر الحرب بتوظيف هذه الانتهاكات لأهداف سياسية وكحجة لاستمرار الحرب بدلا من العمل على ايقاف الحرب التي هي سبب الانتهاكات في جذورها، وبالمقابل يوظف الدعم السريع هجوم الطيران على المدنيين وغير المدنيين للتأكيد على أن استهداف المدنيين والانتهاكات تحدث من قبل الجيش ايضا، وان الفرق بينهما فرق مقدار وليس فرق نوع. العامل الاخر الواضح أن الاستهداف على أساس العرق واللون واللهجة والاثنية أدى إلى تحول الحرب من تصورها العام من انها حرب بين الجيش وحلفائه من مليشيات والدعم السريع وحلفائه من مليشيات إلى انها حرب بين المكونات الاجتماعية في كل أنحاء السودان (ويا لبؤس الطبقة الوسط ومثقفيها) وهذا يمكن أن يؤدي إلى تقسيم في المعسكرين على أسس عرقية وإثنية ومناطقية ولا يعلم اي منا كيف ستكون تلك المرحلة من التحلل، في وقت فيه تم التصالح مع العنف اجتماعيا والتبرير له سياسيا سوى انها ستكون مرحلة الإبادات الجماعية والتطهير العرقي كل وفق تصوره للنقاء العرقي او تصوره لمصالحه او فقط لفوضوية المشهد في كلياته. حتى هذه اللحظة لا يوجد بديل لتجنيب البلاد هذا السيناريو القادم القاتم وخطر كلماته الاجتماعي والكانتونات العسكرية سوي القبول بانه: ١) لا حل عسكري لمشاكل البلاد. ٢) هذه الحرب ليست مع قوى اجنبية وهي ليست استهداف خارجي وإنما هي في صميمها حرب داخلية وبين السودانيين وان العامل الخارجي يستثمر في التناقضات الداخلية. ٣) السودانيون بامكانهم حل جميع مشاكلهم عبر الحل السياسي المتفاوض عليه ويبدأ هذا الحل بالوقف الفوري لاطلاق النار من غير شروط والعمل على إغاثة الجوعى وحماية المدنيين. ختاما، بل لو ما زال بينهم (دعاة الحرب في كل الاطراف) عاقل فليقل لهم جميعا أنه حتى وان توفرت فرص الحسم العسكري لطرف فإن الحسم العسكري سوف لن يقود إلى سلام ولا استقرار ولا تعايش وقبول، وانه لا سبيل لبقاء هذه البلاد موحدة وآمنة وفي حالة تعايش دون حل سياسي يشتمل على برنامج شامل للعدالة الانتقالية ومشروع كامل للتعافي الاجتماعي يضع لبنات لتوطين السلام ومن ثم البدء في رحلة اعادة البناء وفق مشروع وطني متوافق عليه في عمومياته. وجوهر هذه الرؤية اننا كسودانيين ذاهبون إلى مكان جديد افضل لنا جميعا لأننا سنصنعه سويا وبأيدينا كما انه ليس هناك شيء من الماضي (عن الدولة اتحدث) عظيم للجميع، ويمكن الرجوع اليه سوى فعل النوستالجيا بخيالنا الجمعي بتصوير الماضي بجمال ليس فيه، وهذا أمر طبيعي فنحن في حاجة إلى الذاكرة لنحيا ولكننا في حاجة إلى خيال يتعلم من دروس الحاضر وعبر التاريخ وفي حاجة إلى مخيلة سياسية واجتماعية تسمو بنا فوق هذا الخراب الوطني العظيم.