أفرزت الحرب في السودان واقعاً مأساوية على المدنيين الذين ظلوا لأكثر من 20 شهراً يرزحون في ظروف معقدة تستعصي معها حتى إمكانية النجاة بسلام عبر طرق الفرار من مناطق القتال المستعرة وحرية التنقل بين نقاط سيطرة الأطراف المتقاتلة.
ولعل من أبرز تداعيات النزاع المسلح المحتدم في السودان هي اقتطاع كل طرف من أطراف النزاع رقعة جغرافية بالقوة المادية، وفرض قيود وقوانين على حركة المدنيين وتنقلهم في بلدهم.
«القدس العربي» وثقت العشرات من وقائع تقييد حرية التنقل تعرض لها المدنيون من قبل أطراف النزاع في مختلف ولايات البلاد.
ويجابه غالبية المواطنين المتنقلين بين المناطق المختلفة مصاعب جمة في التحرك من منطقة إلى أخرى في ظل حالة اشتباه عام تلاحق أي شخص من قبل أي طرف عسكري بالتعاون مع الطرف الثاني ما يعرض المواطنين على الدوام للمساءلة والتفتيش والاعتقال والنهب.
ويذكر أن حرية التنقل حق مكفول في القوانين الدولية التي تمنع تقييد حرية السفر والإقامة والعمل في أي مكان يرغب فيه المدنيين دون حرمان من مغادرة منطقة أو العود لها في أي وقت.
وأدت الحرب إلى حركة نزوح واسعة، وحسب قول الأمم المتحدة، أن أعداد النازحين واللاجئين في السودان بسبب الحرب تزايدت بشكل غير مسبوق حيث وصلت أعداد النازحين إلى أكثر من 10 مليون شخص بالإضافة إلى 2.3 مليون لاجئ خارج البلاد في ظل وضع إنساني وصل إلى نقطة الانهيار.
اختطاف وطلب فدية وحالات اشتباه
تمتد ارتكازات الدعم السريع بكثافة في المناطق التي استولت عليها، في حين تنتشر القوات النظامية في المناطق الأخرى خاصة مداخل المدن. يخضع الطرفين، المدنيين بصورة انتقائية أو شاملة لعمليات تفتيش متواصلة، تشمل حتى الهواتف الشخصية.
ويلاحظ ارتفاع وتيرة العنف والنهب في ارتكازات الدعم السريع، بينما تتسع دائرة الشك لدى القوات النظامية في مواجهة كل القادمين من العدو حسب تصنيفها إلى المناطق الآمنة نسبياً التي تتواجد فيها.
ويوم الجمعة كشف مؤتمر الجزيرة – كيان حقوقي لرصد الانتهاكات – عن خطف الدعم السريع، «حافلتين» تقلان عائلات من ودمدني معظمهم من النساء والأطفال كانتا في طريقهما للخروج من المدينة إلى ولاية سنار.
ووفقاً لبيان المؤتمر، اقتادت الدعم السريع العائلات إلى منتجع الكاسح جنوب المدينة وطالبت بدفع 50 مليون جنيه نظير إطلاق الفرد الواحد.
بالموازة، انتشر مقطع فيديو في مواقع التواصل الاجتماعي، الجمعة كذلك، يظهر سيدة تُدعى رحاب بشير، ويبدو أنها في قبضة أحد أفراد السلطات الأمنية بإحدى نقاط التفتيش، كان يسألها العسكري عن أسباب بقائها حتى الآن في مناطق الدعم السريع متهماً إليها بالتعاون معها، في وقت كانت هي تنفي وعلامات الخوف ترتسم على وجهها، وتقول إنها لم يكن لديها تكلفة الخروج.
ورغم تداول المقطع بصورة واسعة إلا أن السلطات الأمنية لم تعلق على الواقعة بينما أكد الكثير من المتفاعلين تعرضهم لتوقيف واتهامات مشابهة أثناء خروجهم من مناطق النزاع.
اغتيال واعتقال وسطو
قال المواطن خالد العمدة: «في نيسان/ابريل الماضي قررت العودة من مدينة الدامر إلى منزلي بمنطقة الحاج يوسف، شرقي الخرطوم، عندما وصلت إلى نقطة تفيش في محطة 24 تم إنزالي من الباص السفري من قبل قوات حميدتي بتهمة الاشتباه بانتمائي للاستخبارات العسكرية التابعة للجيش».
وأضاف العمدة: «منبع الاشتباه هو بسبب انتمائي اثنياً لبعض القبائل في شمال السودان، بعد إنزالي قاموا مباشرة بعمليات تفتيش وضرب عنيف دون أي مقدمات كما قام عناصر الدعم السريع بنهب هاتفي والنقود التي كانت بحوذتي، بعد الضرب المبرح قادوني معصوب العينين لأحد المنزل المستخدمة مراكزاً للاعتقال».
وأردف: «كان يوجد هناك ضابط برتبة رفيع يتبع للدعم السريع خاطبني بحسم بالاعتراف بتبعيتي للاستخبارات وبعد أن اكد له بعدم وجود أي صلة لي بالعمل بالحكومة أمر جنوده بإدعائي في الغرفة المخصصة للحجز».
وزاد: «مكثت في ذاك المعتقل 14 يوما لم تجر معي أي تحقيقات إضافية، كان المكان يضم معتقلين آخرين بعضهم تعرض للتعذيب العنيف، يوم إطلاق سراحي حظر ضابط آخر وقام بتوجيه بعض الأسئلة والتهديد بعدم قيام نشاط معادي قبل أن يأمر الجنود بعصب عيني مرة أخرى والذهاب بي إلى الشارع الرئيسي وتركي هناك».
أما المواطن، مهند محجوب ـ من سكان ودراوة شرق الجزيرة، قال: «هاجم الدعم السريع منطقتنا اضطرتنا القدوم إلى أم ضوبان في شرق النيل بالخرطوم وحين ساءت الأحوال قررنا المغادرة نحو مدينة شندي عبر الطريق الخلوي، لكن صادفنا أثناء رحلتنا ارتكاز للدعم السريع قبل الوصول إلى منطقة أبودليق طالبنا مباشرة أحد الجنود وهو يلوح بسلاحه بالنزول من عربة النقل التي كنا نصعد فيها قبل أن يقودنا ويتركنا في العراء».
أفاد محجوب عن تعرض أثنين من أقاربه للقتل في ذات الطريق من قبل الدعم السريع، واحد بسبب اتهامه بالانتماء للقوات النظامية والآخر بهدف نهب عربته «البوكس».
نساء في قائمة الضحايا
ميساء أبو القاسم ـ من سكان منطقة سوبا شرق ـ قالت لـ«القدس العربي» إنها خرجت من منزلها مع أخواتها ووالدتها بعد دخول المنطقة حيز العمليات العسكرية وقصف الطيران لبعض المواقع هناك أواخر كانون الأول/ديسمبر مشيرة إلى أنها حين وصلت ارتكازات الدعم السريع تعرضت لتفتيش دقيق من قبل بعض النسوة التي كن يعملن إلى قوات حميدتي.
أشارت أبو القاسم، إلى أنه في إحدى الارتكازات صعد جندي يتبع لـ«حميدتي» وقام بتوجيه السلاح نحو الركاب وقال لهم أنه يمكن أن يقتلهم جميعهم إذا أشار إليه مزاجه بذلك وأطلق تهديدات وإساءات قبل أن يأخذ أتاوة من سائق العربة.
معاناة ميساء لم تنته عند عبور ارتكازات الدعم السريع بل استمرت حتى في نقاط تفتيش الجيش نواحي مدينة شندي، إذ قالت: «حين وصلنا شندي أوقفنا الجنود هناك لساعات طويلة قام بتفتشنا، كانوا يسألون لماذا مكثنا كل فترة الحرب في مناطق الدعم السريع ويتهمون أحياناً بالتعاون معهم».
في الـ18 أيلول/سبتمبر العام الماضي، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي السوداني بحادثة تعرضت لها إحدى الموظفات في مصفاة الجيلي لعملية نهب في نقطة تفتيش مدينة عطبرة عقب خروجها من الخرطوم، قالت الموظفة آمنة محمد عزاز، عبر منشور تم تداول بكثافة آنذاك: «نهبت على مرحلتين الأولى في منطقة أم كتي: التي تتبع لمنطقة وادي سيدنا العسكرية والثانية عند مدخل مدينة عطبرة».
وأوضحت أنه كان بحوزتها مبلغ أكثر من 5 ألف دولار وعند تفتيشها في منطقة أم كتي نهبت نحو 200 دولار دون علمها أثناء عملية التفتيش، وعندما وصلت مدخل مدينة عطبرة تم استدعائها بالأسم دون أي شخص وتم تفتيشها وسؤالها عند مصدر الأموال التي أخذها أحدهم وتوارى عن الأنظار.
قالت الموظفة آمنة، إن عناصر التفتيش قالوا لها أن الشخص الذي أخذ منها المال لا يعمل معهم مشيرة إلى تعرضها لأبشع أنواع العنف اللفظي بعد ذلك. سارعت شرطة ولاية نهر النيل وقتها، نشر توضيح حول الحادثة، أكدت خلاله أنها شرعت فوراً تقصي الحقائق وجمع المعلومات واتخاذ الخطوات اللازمة فيما يتعلق بدعوى الشاكية لكنها تتمسك بنفي صلتها بالشخص الذي قام بتسليمه المال.
ويبدو أن جرائم النهب هي القدر الأخف مقارنة مع حالات الاعتقال والاختفاء الرائجة وسط المتنقلين بين مناطق أطراف النزاع في السودان.
ووثقت منظمة «هيومن رايتس ووتش» في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أحداثا مؤسفة عقب حملات الدعم السريع الانتقامية في عدد من قرى الجزيرة رداً على إنضمام قائدها أبوعاقلة كيكل للجيش.
وأوردت المنظمة العديد من الانتهاكات من ضمنها تعرض حسن (51 عاما)، الذي لم يُستخدم اسمه كاملا لحمايته، وتقول قصته أنه فر من السريحة في 22 تشرين الأول/اكتوبر مع زوجته وبناته الثلاث. أوقفتهم قوات الدعم السريع عند نقطة تفتيش: «نظر أحد جنود الدعم السريع إلى ابنتي الصغرى، سنها 15، وقال: اتركها هنا كي نستمتع بها، ويمكنكم الذهاب. وبدأوا يطلقون تعليقات جنسية متعلقة بابنتي». لكن في الأخير تمكن حسن وعائلته من الفرار.
«هيومن رايتس ووتش» وثقت أيضا في آخر تقرير لها في كانون الأول/ديسمبر الماضي، جرائم عنف جنسي وعبودية مروعة في مناطق بإقليم جنوب كردفان.
وذكر التقرير حكاية هبة (22 عاما) التي فرّت من منزلها في كادقلي، التي اجتاحها القتال أيضا، أواخر العام 2023. ولفت التقرير إلى أنها بينما كانت عائلتها تمر عبر ضواحي بلدة قريبة، اقترب منهم أفراد قوات الدعم السريع بزيهم الرسمي وأجبروهم على الركوع على الأرض، ثم أمروا الأسرة باتباعهم.
رفضت عائلة هبة، فبدأ المقاتلون بإطلاق النار، فقتلوا والدها، ووالدتها، وزوجها. وقالت هبة إنه بعد ذلك: قالوا، إلى أين أنت ذاهبة؟ سنستخدمك ثم نتخلص منك. كنت مستلقية على الأرض واغتصبني الخمسة جميعهم، الواحد تلو الآخر. كان أطفالي بجواري مباشرة، يشاهدون ويبكون. قالوا لأطفالي أن يصمتوا ثم اغتصبوا أختي أيضا».
وسبق أن قالت المبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي «شبكة صيحة» إنه ومنذ بداية الحرب في السودان وردت العديد من القصص عن صعوبة التنقل من منطقة إلى أخرى وعن المخاطر التي تتعرض لها النساء أثناء التحرك داخل مناطق النزاع أو أثناء الانتقال منها إلى المناطق الآمنة نسبياً.
منع وصول الطلاب لقاعات الامتحانات
تفيد المتابعات عن إصدار الدعم السريع أوامر عسكرية صارمة بمنع حركة المواطنين في بعض من المناطق في ودمدني بولاية الجزيرة وأم ضوبان بالخرطوم وهبيلة في جنوب كردفان الفاشر عاصمة إقليمة دارفور، أما المناطق التي تسمح فيها بالحركة فإنها تفرض إتاوات مرتفعة على مرور المركبات.
ويشار إلى أن أوامر الدعم السريع المتشدد في حركة التنقل حرمت آلاف الطلاب هذا العام من الجلوس لامتحانات الشهادة السودانية، التي انتهت الخميس الماضي وعقدت في المدن والمناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش.
ويرى مراقبون أن الصعوبات التي يواجهها المدنيون بسبب حركة التنقل تسببت في تفاقم الأوضاع خاصة في مناطق الدعم السريع فقد اضطر بعضهم إلى البقاء في دائرة النزاع الخطرة، مشيرين في الوقت نفسه إلى وجود أوامر منع وجبايات تعطل كذلك تنقل مركبات البضائع والإغاثات مما يزيد الوضع قتامة.
الجنينة وحجيم الحرب
عندما وقعت أحداث الجنينة التي راح ضحيتها آلاف المواطنين على يد الدعم السريع، في أيام الحرب الأولى، وثق حقوقيون أيضاً عمليات مطاردة واسعة تمت تجاه المواطنين الفارين من جحيم الاعتداءات في المدينة وتعرض بعضهم للقتل والنهب.
وقالت إحدى اللاجئات في مخيم أدري الحدودي بدولة تشاد ـ فضلت حجب أسمها ـ لـ«القدس العربي»: «الدعم السريع والميليشيات والقبائل العربية كانوا يقتلون الرجال والشباب دون تردد بينما يتم نهب النساء». وأضافت: «نهبت كل الممتلكات التي خرجنا بها من الجنينة حتى التي لا ترغب فيها تقوم بحرقها».
قانون الوجوه الغربية
وفي سياق متصل، كان قد أعلن والي الخرطوم المكلف أحمد عثمان حمزة، في الثاني من ايار/مايو العام الماضي حالة الطوارئ في الولاية وقرر تشكيل خلية أمنية منح لها صلاحيات واسعة عدها مراقبون أنها تقيد حركة التنقل وتؤسس لانقسامات على مستوى اجتماعي.
وبين قرار والي الخرطوم أن الخلية الأمنية تعمل كجهاز إنذار مبكر لبقية القوات النظامية وتختص بجمع المعلومات الاستخباراتية والأمنية وتصنيفها والتعامل معها. وأشار القرار متابعة الخلية لحركة الحواضن المجتمعية في مناطق وجود العدو إلى مناطق سيطرة الجيش.
المحامي والناشط الحقوقي عمر النور، علق على قرار والي الخرطوم الذي جاري العمل به حتى الآن قائلاً: «صدور أمر طوارئ في الخرطوم مفهوم نسبة للحالة الاستثنائية التي تمر بها الولاية والحاجة لحماية المواطنين وممتلكاتهم وحماية الدولة نفسها لكن ما أصدره الوالي يشبه قانون الوجوه الغربية وهو ينافي أعراف العدالة بل ويمكن أن يفاقم الوضع ويعرض حياة مواطنين للخطر خاصة في النقطة التي تشير إلى حركة الحواضن الاجتماعية من سيطرة الدعم السريع إلى مناطق سيطرة الجيش».
ويضيف: «القرار يميز السودانيين على أساس إثني ومناطقي كما أنه يمثل تهديدا لحركة الفارين إلى المناطق الآمنة داخل البلاد». ويزيد: «مصطلح الحواضن المجتمعية نفسه مصطلح إعلامي وسياسي مختل لا يمكن أن يأتي في سياق أوامر وتشريعات أمنية وقانونية».