تسببت النزاعات المستمرة في السودان في دفع الملايين إلى مغادرة منازلهم، حيث يسعون للبحث عن ملاذات آمنة في دول الجوار، وتعتبر مصر واحدة من الوجهات الرئيسية للاجئين السودانيين.
ورغم أن التهريب يُعتبر قانونيًا هجرة غير شرعية، إلا أنه أصبح الخيار الوحيد المتاح أمامهم بسبب صعوبة الحصول على تأشيرات الدخول عبر الطرق الرسمية.
إحدى رحلات تهريب السودانيين إلى مصر، والتي انطلقت من مدينة بورتسودان واستمرت لمدة ثلاثة أيام قبل الوصول إلى الحدود المصرية. خلال هذه الرحلة، واجه اللاجئون مخاطر الموت في أكثر من مناسبة، مما يعكس الظروف القاسية التي يعيشها هؤلاء الفارون من ويلات الحرب المستمرة في السودان.
وتتعدد الأسباب التي دفعت السودانيين إلى استخدام طرق التهريب، بما في ذلك توقف منح تأشيرات الدخول وارتفاع تكلفتها، بالإضافة إلى فترات الانتظار الطويلة التي قد تمتد لعدة أشهر أمام القنصليات لاستكمال الإجراءات الرسمية.
محطة التهريب
في السوق الشعبي في بورتسودان، على الرصيف الشمالي للطريق الأسفلتي الرئيسي للميناء البري، تتواجد هناك العديد من سيارات التويوتا نصف النقل المعروفة محلياً بالبكاسي. ويُشار إلى هذا المكان باسم “محطة التهريب”.
يعمل الوسطاء وأصحاب السيارات مباشرة على جذب الزبائن وإغرائهم بمميزات سياراتهم مثل السرعة والقدرة على الوصول إلى أسوان في أقل من يومين. لكن هذه النوعية من الدعاية تكتشف خديعتها سريعًا من قبل المسافرين عندما تمتد الرحلة إلى ثلاثة أيام أو أكثر.
يواجه المسافرون في هذه الرحلة مجموعة من المخاطر، بما في ذلك “دوريات حرس الحدود المصري التي قد تعيدهم إلى نقاط انطلاقهم”، بالإضافة إلى المسلحين المعروفين بـ “الرباطة” الذين يتربصون بالمسافرين في الطرقات وينهبون ممتلكاتهم، فضلاً عن احتمال التوهان في البراري والذي قد يهدد حياتهم.
تتراوح تكلفة سفر الشخص الواحد في سيارة البوكس من بورسودان إلى الحدود المصرية بين 200 و400 ألف جنيه سوداني، وهي قابلة للتفاوض. ويعتمد السعر على موقع جلوس الراكب، سواء كان في المقصورة الأمامية أو في الجزء الخلفي من السيارة، بالإضافة إلى ما إذا كان الراكب بمفرده أو برفقة عائلته وعدد أفرادها، وما إذا كان بصحبة أطفال.
ويتم حشر المسافرين في أماكن ضيقة لا تناسب أعدادهم، حيث يتراوح عدد الركاب في السيارة الواحدة بين 20 إلى 22 شخصًا، ولكن غالبًا ما يُضطر المسافرون إلى تقبل هذا الوضع.
وتبدأ السيارات التي تنقل الركاب في الخروج تدريجياً من موقف “محطة التهريب” منذ الساعة الثامنة صباحاً وحتى منتصف النهار، بشكل مجموعات. تتكون كل مجموعة من أربعة أو خمسة سيارات يقودها دليل ذو خبرة في الطرقات وتضاريس الصحاري والوديان، وغالباً ما يكون هذا الخبير من مجموعات بدوية تعمل في مجال التهريب بشرق السودان.
وانطلقت السيارة، التي كان يرافقها مراسل “دارفور24″، في الساعة العاشرة والنصف صباحاً، برفقة أربع سيارات أخرى، حيث كان سائقها هو الدليل لبقية المجموعة.
يذكر السائق الذي نفضل عدم ذكر اسمه، لـ”دافور24” أنه منذ بدء الحرب لم تنخفض أعداد المسافرين إلى مصر، كما لم تتوقف رحلات التهريب، موضحاً أن عدد السيارات التي تسافر يومياً يتراوح بين 25 إلى 30 سيارة، تحمل ما بين 600 إلى 700 شخص. وأكد أنهم لم يتعرضوا لأي مضايقات من قبل السلطات في السودان أو مصر.
طريق السير
وتغادر السيارات مدينة بورتسودان وتتجه شمالاً بمحاذاة ساحل البحر الأحمر على الطريق المعبد الذي يصل بين بورتسودان وأوسيف، حيث تمر بثلاث بوابات تفصل بينها مسافات لا تتجاوز ثلاثة كيلومترات.
ويقف عند كل بوابة مجموعة من القوات المسلحة والاستخبارات وشرطة المباحث، ويجب على السائق أن يتوقف وينحرف بسيارته إلى الجانب، حيث يتبادل معهم الحديث ويعطيهم مبالغ من المال قبل أن يسمحوا له بالعبور.
وفي البوابة الأخيرة حيث تم إنشاء معسكر لقوة عسكرية كبيرة تحت قيادة ضابط برتبة مقدم، توقفت السيارات التي كانت تنقل اللاجئين الهاربين.
وبدأ أفراد الاستخبارات المسؤولون عن البوابة بمراقبة وجوه الركاب، وأمروا بعضهم، خصوصًا أولئك الذين تبدو ملامحهم مرتبطة بغرب السودان، بالنزول والوقوف في صف واحد. بعد ذلك، تم تفتيش الحقائب والمستندات، وبدأ التحقيق من خلال طرح أسئلة عن القبيلة ومكان الميلاد، بالإضافة إلى أسئلة أخرى تحمل نبرة استفزازية مع توجيه اتهامات لبعضهم بالانتماء لقوات الدعم السريع.
واستغرق التفتيش حوالي 40 دقيقة، وبعد ذلك تم السماح للسيارات بالمغادرة، لكن كان دفع المال دائمًا هو العنصر الحاسم لتجاوز البوابات.
تضاريس قاسية
وبعد ست ساعات من السير المستمر على الطريق الساحلي المعبد بين بورتسودان وأوسيف، انعطف قافلة السيارات غربًا عبر تضاريس قاسية تتخللها سلاسل جبلية ووديان وكثبان رملية. واستمرت الرحلة خلال هذه التضاريس ست ساعات إضافية، مما جعل الركاب يشعرون بحاجتهم لأخذ فترة من الراحة، وكان ذلك حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً.
ورفض السائق التوقف قائلاً إن المكان غير آمن، وشارك قصصًا عن “الرباطة” المسلحين الذين يقومون بقطع الطرق على المسافرين وسرقة ممتلكاتهم. كما أكد حدوث العديد من حوادث القتل والاشتباكات المسلحة التي أدى فيها الأمر إلى وجود ضحايا.
كانت حججه مقنعة بما فيه الكفاية لتمكينه من مواصلة القيادة لنصف ساعة إضافية، قبل أن يتوقف خلف تلة صغيرة. بعد ذلك توقفت بقية السيارات ليقضي المسافرون ليلتهم في أجواء موحشة ودرجات حرارة شديدة البرودة.
التوهان
وفي الساعة الرابعة من فجر اليوم التالي، انطلقت الرحلة مرة أخرى وسط تضاريس جبلية متشابهة تتخللها وديان وغابات وآثار إطارات لسيارات متقاطعة من كل الاتجاهات. وبعد السير لأكثر من ثلاث ساعات ومع بدء إشراق أشعة الشمس الأولى، توقف السائق فجأة ونزل ليفحص الطريق. وبعد محادثة سريعة مع السائقين، أخبرهم بأنه “نسير في الاتجاه الخاطئ”.
وقد لاحظ السائق مجموعة من الأشخاص يتخذون مظهر البدو، مما زاد من شكوكه تجاه الطريق غير المألوف. ثم حاول بسرعة الالتفاف بسيارته ليتبع باقي السيارات.
قال السائق إنه “لم يتذكر أنه رأى عرب بدو في مثل هذه الأماكن من قبل، وتوقع أن يكونوا من اللصوص”.
عادت القافلة إلى نقطة البداية عند الفجر مرة أخرى، بعد رحلة استمرت ثلاث ساعات إضافية، لتكمل طريقها مجددًا نحو الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى ما يُعرف بسوق “الرتج” الحدودي، والذي وصلنا إليه في الساعة الحادية عشرة صباحًا.
ويقع “سوق الرتج” في أقصى شمال ولاية نهر النيل، بالقرب من حدود الولاية المتاخمة لجمهورية مصر، وذلك بعد رحلة استغرقت أربع ساعات.
وعلى طول الطريق إلى “الرتج”، يمكنك أن تشاهد حركة مستمرة لعشرات السيارات، معظمها من نوع تويوتا نصف نقل، وأخرى من “لواري السفنجات” محملة بالوقود المهرب، في طريقها إلى السوق الرئيسي “الرتج” لتبادل السلع المهربة القادمة من مصر والسودان.