مأساة الحرب تزيد طلبات كفالة أطفال السودان المجهولي الأبوين
ليس من المستغرب أن نجد طفلاً يتيماً فاقد السند يترعرع وسط أسرة سودانية، وينسب نفسه ابناً لرب الأسرة، لا سيما أن المجتمع السوداني يقوم على نزعات تكافلية ويحفز الأسر التي لم تحظ بنعمة الأبناء على تربية الأطفال المجهولي الأبوين لتعويضهم ما فقدوه، بخاصة بعد أن ساءت أوضاعهم بسبب الحرب المشتعلة بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نسيان) 2023، وبات مأواهم المعروف باسم دار المايقوما التابع لوزارة الرعاية الاجتماعية والواقع وسط الخرطوم، معقل الاشتباكات.
وكان الصليب الأحمر الدولي أجلى نحو 300 طفل من الدار إلى مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة بعد وفاة عشرات نتيجة ضعف الخدمات جراء الحرب، وعقب سيطرة “الدعم السريع” عليها رحلوا إلى ولاية كسلا شرق البلاد، فضلاً عن أن الجهات المسؤولة عن هؤلاء الأطفال بذلت مجهوداً في رعايتهم، إلا أن وضعهم الطبيعي يحتم أن يكون مكانهم وسط الأسر.
وعلى رغم الظروف الاستثنائية التي تشهدها البلاد، زاد الطلب على كفالة الأطفال فاقدي السند، إذ نفذت وزارة الرعاية الاجتماعية وفق شراكة مع منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة “يونيسف” كفالة 150 طفلاً وألحقوا بالأسر البديلة بناء على رغبتها في الاحتضان، في ظل تنامي ظاهرة الإنجاب بصورة غير شرعية بسبب الحرب، في حين ما زالت هناك 80 أماً تنتظر برنامج الكفالة.
لكن الأمر قوبل بجدل واسع ما بين الترحيب والرفض، بيد أنه أرجع مراقبون السبب الرئيس في زيادة طلبات التبني إلى المعتقدات الشعبية من ناحية جلب الرزق، إلى جانب التعاطف مع مآسي الحرب التي طاولت هذه الشريحة.
جلب الرزق
في السياق قالت مديرة الرعاية الاجتماعية في قطاع التنمية بولاية البحر الأحمر شرق البلاد رقية موسى، “في تقديري أن تزايد طلبات الأسر في الولايات الآمنة للتكفل بالأطفال المجهولي الأبوين، يرجع إلى أن هؤلاء الأطفال مصدر سعادة الأسر التي لم ترزق بنعمة الأبناء، إلى جانب المعتقدات الشعبية السائدة بأنهم يجلبون الرزق. فظاهرة التبني تنتشر وسط الأرامل والزوجين اللذين يعانيان مشكلات في الإنجاب، علاوة على أن هناك أسراً لديها أطفال وترغب في التبني، فضلاً عن أن الأطفال فاقدي النسب ارتفعت أعدادهم، وفي الغالب يوضعون بجوار المساجد وفي الطرقات العامة والمستشفيات أو تسليمهم بصورة مباشرة إلى الأسرة”.
وأضافت موسى “هناك أكثر من 80 أماً في الانتظار، لا سيما أن وزارة الرعاية الاجتماعية، التي تعمل بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة، عقدت 150 طلباً لتبني أطفال جرى إحضارهم من ولاية كسلا بعد إجلائهم من العاصمة الخرطوم”.
وتابعت “الأسر الراغبة في التكفل بهؤلاء الأطفال تخضع لدراسة شاملة تتضمن زيارات متكررة للمنازل للتأكد من مدى ملاءمتها للأطفال، إلى جانب الفحص الطبي والأمني للأمهات، وبعد اكتمال المواءمة مع استيفاء الشروط الموضوعة من الوزارة يتبنى الطفل”.
وأشارت مديرة الرعاية الاجتماعية إلى أن “هناك ارتفاعاً في نسبة الأمهات اللاتي حملن بطريقة غير شرعية، مع تمسك بعضهن بأبنائهن، إذ كثيراً ما يأتين للوزارة من أجل استخراج الوثائق الثبوتية”.
ونوهت إلى أن “الحرب الدائرة حالياً لا علاقة لها في تصاعد أرقام الأطفال فاقدي الأهلية الأبوية، فضلاً عن أن الدور تستقبل ما بين خمسة إلى ستة أطفال في الشهر، وهو عدد ثابت قبل اندلاع الحرب وبعدها”.
تجربة ناجحة
تقول المواطنة أسماء زين العابدين التي تسكن في مدينة عطبرة بولاية نهر النيل “انتظرنا أنا وزوجي أعواماً طوال ولم نرزق بأبناء وكنت على تواصل مع استشاري النساء والتوليد، وأظهرت كل التقارير الطبية عدم مقدرتي على الإنجاب، فضلاً عن أن العمر يمضي وتصبح هناك حاجة ماسة إلى الرعاية من شخص قريب، لذلك بدأت تراودني فكرة التبني حتى وصلت إلى قناعة تامة وقمت بتنفيذها فوراً ليس بالكفالة المباشرة من دور الرعاية، لكن من خلال تعاطفي مع أسرة نازحة من الخرطوم بسبب الحرب، ولديها عدد من الأبناء بينهم طفلة لا تقدر العائلة على رعايتها، فتم بيننا الاتفاق على تبنيها وفق شروط الكفالة القانونية”.
أردفت زين العابدين “الحقيقة كانت تجربة جميلة وأدخلت في نفسي وزوجي السرور والفرح، فكانت الطفلة هادئة الطبع ودواخلها مليئة بالحنان، مما جعلنا نتفانى في تربيتها والإحسان إليها وأطلقت عليها اسم رحمة، وفور دخولها إلى المنزل تسهلت كل الأمور الحياتية وجلبت معها السعادة والخير، لا سيما أن زوجي تفهم الوضع ونسبها إليه”.
وأوضحت “أصبحت هذه الطفلة قريبة مني وكأنني أنجبتها، وأصبح الجميع يحبها من الأهل والجيران والمعارف، لا سيما أنها سرقت القلوب بابتسامتها العريضة التي لا تفارق وجهها، وبات كل من يراها يداعبها بلطف، والآن هي جزء من الأسرة ولم تشعر بأي نوع من الاضطهاد أو التنمر بل تزايدت ثقتها بنفسها”.
ولفتت المواطنة إلى أنه “في الوقت الحالي يوجد وعي حول كفالة الطفل مجهول الأبوين سواء سراً أو علناً، ومن وجهة نظري فإن هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم ويستحقون النشأة والحياة الطبيعية، وكل ما أتمناه في ظل ما نعيشه بسبب الحرب من انتهاكات جسيمة مثل عمليات الاغتصاب وحمل النساء والفتيات، أن تعمل الجهات المعنية على تشجيع التبني وتسهيل الإجراءات الخاصة به”.
رفع الوعي
من جانبها قالت اختصاصية الاجتماع والصحة النفسية رانيا عبدالعاطي إن “اندلاع الحرب في العاصمة الخرطوم أدى إلى سوء أوضاع الأطفال فاقدي السند بصورة لافتة، نسبة إلى وقوع دار المايقوما في قلب الخرطوم بالقرب من القيادة العامة للجيش، التي أسهمت بدورها في تفاقم حالاتهم الصحية والجسدية، لا سيما توقف احتياجاتهم الأساسية من المانحين، إضافة إلى عدم تمكن الأم البديلة في الوصول للدار، مما أدى إلى وفيات عشرات منهم”.
واصلت عبدالعاطي “كما تسبب النزوح المتكرر لهؤلاء الأطفال البالغ عددهم 300 طفل، الذي بدأ من الخرطوم إلى مدينة ود مدني ومن ثم إلى كسلا، في عدم تحمل بنيتهم النحيلة مشقة السفر، مما أدى إلى مفارقة معظمهم الحياة”.
ومضت في القول “من خلال عملي وملامستي قضايا الأسر في المجتمع السوداني المعروف عنه بالنزعة التكافلية، هناك من لديهم الرغبة في الكفالة ويعملون المستحيل لتبني طفل، في المقابل توجد أسر ترفض أن تحتضن طفلاً مجهول النسب كونها تؤمن بمبدأ ’العرق دساس‘، وأن كل شخص يعود لأصله بحكم الجينات والطباع التي من الممكن أن يحملها الطفل وتنتقل وراثياً مهما كانت نشأته”.
وأردفت اختصاصية الاجتماع “في تقديري مهما قدمت الدولة من اهتمام ورعاية لهؤلاء الأطفال، لا يوجد مكان يعوض الطفل عن المنزل، في حين تتزايد أعداد الأطفال المجهولي الأبوين وهم بحاجة ماسة إلى منزل دافئ وسط جدل واسع حول بين من يتقبل فكرة التبني ومن يرفضها، لأسباب منها عدم معرفتهم بأصول تلك الفئة وطبيعة العلاقة التي أدت إلى ولادتهم، وفي هذه الحال يكون مستقبلهم مجهولاً إلى حين، مما يتطلب حماية حقوقهم بأن يكونوا جزءاً من الأسر برفع الوعي ونشر ثقافة التبني، من خلال الفعاليات والمحاضرات التي من شأنها مساعدة كل من يرغب في ذلك بالحصول على المعلومات”.
اندبندنت عربية