آخر الأخبار

مقاربة من عادل القصاص لمقال فتحي عثمان “المفكِّر والجينولوجيا”

شارك الخبر

عادل القصاص

من أهم ما تفعله النُّصوص و/أو القراءات الخصيبة في القارئ الذي يُجيد التفاعل أنها لا تزوِّده بمعرفة جديدة، أو مختلفة، فحسب، وإنما تحيله – بالخُضرة الناجمة – إلى مروج للمعرفة، كما إلى حدائق للتأويل. ذلك، إجمالاً، ما فعلته بي قراءات عبد الله بولا، ذات المراكز المتباينة. وذلك ما فعله بي هذا “التمهيد” (“الفاتحة”؟ “المقدمة”؟)، أعني تمهيدك الحفي، يا أيها الحميم، الصميم، فتحي عثمان، “شجرة نَسَب الغول: المُفكِّر والجينولوجيا”. وقد وصفت مقالك النَّدي بـ”التمهيد” لأن الفقرات الثلاث (الأولى؟) هيأتني لمزيد من ثمارك، لاسيَّما وأنت الضارب في الخضرة. ورقة “شجرة نَسَب الغول: أُطروحة في كون الغُول الإسلاموي لم يهبط علينا من السماء” هي عندي – لكن ليس إجمالاً – رايةٌ ضد الغفلة؛ ذاكرةٌ تقف للنسيان-للتناسي بالمرصاد؛ درسٌ في منهجية الانتباه (أقترح أن تغدو مادةً للتدريس؛ ربما في السنة الجامعية التأسيسية؟)، في بيان فداحة المسكوت عنه عندنا – وهو جَمٌّ – كما في الثِّقَل الباهظ للخِفَّة الثقافية. أما هذه الحفاوة، المضغوطة ببلاغة أنت مجبولٌ عليها، فإن البهجة التي سبَّبتها لي تماثل البهجة التي يولِّدُها فيَّ – مثلاً – مشاهدة فلم قصير (لا يهم تسجيلياً كان أم روائياً) ذي عناصر نموذجية في التكامل والتساوق. أعني تلك البهجة، الغنية، التي تفرِّخ إحالاتٍ وتأملاتٍ. ذلك بَيِّنٌ، في نظري، في “المقدمتين المنطقيتين” (المرتبطتين ببعضيهما). أما “المقدمة المنطقية الأولى”، فقد تمظهرت في قولك (المُجازَف – بحكم حذرٍ صِحِّيٍّ معهودٍ، منهجياً، فيك) “بأن كل مفكِّر أصيل مدفوع في مجاله الإبداعي إلى رسم وتقصي شجرة نسب ما، أي التحري الجينولوجي لظاهرة من الظواهر في بعديها التكويني والتاريخي”؛ حيث “البُعْد التكويني” يشير لملابسات النشأة بينما “البُعْد التاريخي” يحيل للسياق، للمُحايَثة، لآليات التناسل البَعْدي، لمنعطفات وأوجه التحولات، كما لإعادة الموضعة. ثم ربط ذلك – أي “التحري الجينولوجي” – تمثيلاً و/أو إحالةً وتبياناً – إلى مصادرَ و/أو تقصيَّاتٍ وقراءاتٍ متعددة، بما يشمل التأويلات المضغوطة، الحفية منك؛ هذه التي تُحفِّز القارئ، ليس على إعادة قراءة كتابات بولا ذات الصلة فحسب، وإنما أيضاً لقراءة (أو إعادة قراءة) المراجع الأخرى، ذات الوشيجة؛ وربما مصادر إضافية، “ذات نَسَبٍ”. هكذا وجدتني أتذكر “عالم الأنساب الشعبي”، ذي الذكرة المدهشة سعتها وقوتها، الراحل الهادي نصر الدين، الشهير بـ”الهادي الضلالي”، ثم تذكرت أحد رواد البحث في “الثقافات الشعبية”، الراحل الطيب محمد الطيب، رغم الانحصار المرجعي لكليهما في الأنساب/الثقافات ذات الثقل “العربي-الإسلامي”. هكذا وجدتني أبحث عن المؤلَّفين المذكورين لكل من موريس غودليه وجورجيو أغامبين. وإذ تذكرت النسخة العربية لـ”أصل الأخلاق وفصلها” لنيتشه، تساءلت فيما إذا كانت تلك الترجمة العربية للعنوان هي الأنسب أم “جينولوجيا الأخلاق” أم “نسب الأخلاق”؟ أيضاً استدعيت مفهوم البانوبْتِيكيَّة “البانوبْتَكِزْم Panopticsm” الذي صكَّه ميشيل فوكُّو في تقصية الجديد، المضيئ، لبعض الجذور البارزة لما يمكن ترجمته بـ”الانضباط والعقاب: ميلاد السجن”. وكما تعلم، بالنسبة لفوكو، فإن “شجرة نسب” أبرز آليات السيطرة الحديثة (التكنولوجية، لا سيما في المجتمعات الغربية) تعود للبانوبتيكون – وهو برج كان يُشِيَّد، في عصور أوروبية غابرة، أعلى مبنى السجن، ذي الهيكل الدائري، بحيث يتيح – البانوبتيكون – للحراس مشاهدة جميع السجناء طوال الوقت. ولأنها وسيلة تمكن من مراقبة الأفراد، باستمرار، بحيث تحيط إلماماً بكل ما يصدر عنهم، وبحيث السجين يتِمُّ تعويده على “قبول” هذا النوع من آليات الضبط، فإنها تُعزِّز الخضوع والامتثال. – (من الأمثلة الأحدث، المعاصرة، الدارجة للمراقبة، المتولِّدة عن مفهوم البانوبتيكية، ما يتمثَّل في السي سي تي في CCTV؛ وثمة، طبعًا، إستراتيجيات حديثة أخرى للسيطرة أكثر خبثًا والتواءً). كذلك وجدتني أتأمل فيما أزعم أنه أوجه شبه في بعض “المنطلقات الوجدانية/الفكرية/العملية” بين عبد الله بولا وإستيورات هول. من ذلك، أنَّ الاثنين عانقا، بوجدانٍ غير ملتبس، تراث الآفرو-عمومية (Pan-Africanism) وفحصاه ببصيرة غير كابية، كما أرى، أن المراجعات والمساءلات النظرية الجسورة للماركسية – كما سادت لدى تنظيمات، أحزاب ومنظمات (كانت غالبة) – تشكِّل، لدى الاثنين، أحد الهموم البارزة، ربما في مراحل مبكرة من مسيرة كل منهما. (وبالتالي؟) العدة النظرية للاثنين لا تحدها أُطُر – سوى “أُفُق الوحدة المنهجية الخلاسية” – فليس ثمة، لديهما، روادع قبْلية (أو “قَبَلية”) كتلك المنبثقة عن تربية تنظيمية سياجية ما تزال، للأسف، سائدة. أيضاً ثمة من مكانة وهيطة لـ”الثقافة الشعبية” (Popular Culture) في وجدان وعقل كل منهما؛ وكذلك في إرتباط الإثنين بمفهوم/ممارسة “تحليل الخطاب” (Discourse Analysis)؛ كما فيما نعته أنت بـ”التمليك الإجمالي” للمعرفة والإبداع، بمعنى “التمليك الاجتماعي العام” في مقابل “الامتياز النخبوي”. أما “المقدمة المنطقية الثانية”، المستندة إلى رولان بارت، التي تبدَّت في فيما يتصل بـ”إستراتيجية العنوان”، فهي حُبلى بالإحالات المضيئة والإشارات الـتأويلية النافذة. كما أنها تُحفِّز على إيلاء العنوان أهمية توازي بقية عناصر المتن، حيث “تأمُّل أو فحص العنوان” يكاد يكون عنصراً ناصِلاً في الدراسات ذات العلاقة بقضايا الإبداع، الفكر والثقافة في الخريطة الثقافية العربية السائدة. بالنسبة لي، بخلاف دراسة صبري حافظ، التي عنوانها “إستراتيجية العنوان”، والتي نُشِرت في أحد أعداد الكرمل (خلال ثمانينيات القرن الفائت) لم أطَّلع على دراسة تولي العنوان أهمية مركزية. ومثلما سبق لي أن قالدت عبد الله بولا ونجاة محمد علي، في أكثر من مناسبة، هأنذا أقالدك، هنا أيضاً، يا صديقي فتحي، وأشد على يدك، لمناسبة حفاوتك الوسيمة، المُحفِّزة، جزيلة الفاكهة، بمؤلَّفَين من تراث بولا، كما بالجهد الغزير، المُركَّب، الذي بذلته نجاة كي يعانقه أمثالك من ذوي الخُضرة والنَّضارة الوجدانية والذهنية.

مداميك

الراكوبة المصدر: الراكوبة
شارك الخبر


إقرأ أيضا