يعتبر إقليم شرق السودان نقطة التقاء لصراعات إقليمية معقدة، حيث تراقب إريتريا، الجارة الشرقية، عن كثب تحركات إثيوبيا، التي تعتبرها خصماً رئيسياً. تتزايد التوترات بين الدولتين، مما يجعل الإقليم بمثابة ساحة محتملة لتصعيد النزاعات. كما أن شرق السودان يمثل نقطة عبور استراتيجية يمكن أن تستخدمها القوات من كلا الجانبين في حال اندلاع أي صراع.
ويتأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية التي تعاني منها إثيوبيا، مما يزيد من تعقيد الوضع. تسعى كل من إريتريا وإثيوبيا إلى السيطرة على الموارد الطبيعية في السودان، مما يضيف بعداً جديداً للصراع. في هذا السياق، يبقى “مثلث حلايب” نقطة خلاف رئيسية، حيث يمكن أن يتحول إلى مصدر توتر إضافي بين الدولتين.
ومع استمرار هذه الديناميكيات، يبقى مستقبل شرق السودان غير مؤكد، حيث يمكن أن تتفجر الأوضاع في أي لحظة. إن التوترات الإقليمية والصراعات الداخلية تشكل تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة، مما يتطلب جهوداً دبلوماسية مكثفة لتجنب تصعيد الأزمات.
حدود ملتهبة
يحدّ إقليم “شرق السودان” ثلاث دول، حيث تقع مصر في الشمال، وإريتريا في الشرق، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. يتميز بشاطئ يمتد لأكثر من 700 كيلومتر، مما يجعله جزءاً أساسياً من ممر التجارة الدولية الحيوي، البحر الأحمر، وموضع تنافس للأجندات الإقليمية والدولية.
وتتواجد في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية “أصيلة” بالإضافة إلى أخرى جاءت من مناطق مختلفة من البلاد، وبين هذه المجموعات توجد تناقضات وصراعات تاريخية، بالإضافة إلى روابط وقبائل مشتركة مع الدول المجاورة الثلاث. كما يتأثر الإقليم بالنزاعات المستمرة في المنطقة، خاصة بين إريتريا وإثيوبيا، ويعاني سكانه من وجود عدد كبير من اللاجئين القادمين من هذين البلدين المتنازعين باستمرار، مما يجعله ساحة محتملة لأي نزاع قد ينشأ بينهما. لقد بقي شرق السودان لفترة طويلة ساحة لصراعات داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الجماعات المسلحة السودانية، حيث كانت تنطلق منهما عملياتها العسكرية. ومن هناك، ظهرت حركات مسلحة من الإقليم وأخرى معارضة منذ أيام النزاع بين جنوب السودان والحكومات الحزبية التي كانت وتقاتل الحكومة في الخرطوم من شرق السودان. بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على ما يُعرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، قامت الحركات المسلحة في شرق السودان أيضاً بتوقيع ما يُعرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في العاصمة الإريترية أسمرا، تحت رعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، في 14 أكتوبر 2006. وقد نصت تلك الاتفاقية على تقسيم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفق ترتيبات «أمنية»، إلا أن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تلتزم بتعهداتها.
12 ميليشيا مسلحة
من جهة أخرى، بدأت الحرب بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” في منتصف أبريل 2023، مما دفع الحكومة السودانية إلى الانتقال إلى بورتسودان، “عاصمة الشرق” وميناء السودان على البحر الأحمر، حيث اتخذتها عاصمة مؤقتة، واستعانت بالحركات المسلحة التي أعلنت تأييدها للجيش في معركته ضد “الدعم السريع”. خلال هذه الحرب التي استمرت 18 شهراً، ظهرت العديد من الحركات المسلحة في شرق السودان، ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، جميعها أعلنت دعمها للجيش على الرغم من انتماءاتها العرقية المتباينة. وحرصت كل واحدة منها على حصد أكبر قدر ممكن من “الغنائم الحربية” والحصول على التمويل والأسلحة من الجيش والحركة الإسلامية التي تشارك في القتال بجانب الجيش بهدف العودة إلى السلطة.
ميليشيات بثياب قبلية
«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية»، التي يقودها محمد سليمان بيتاي، وهو أحد الأعضاء البارزين في حزب «المؤتمر الوطني» المحل، والذي ترأس المجلس التشريعي لولاية كسلا خلال فترة حكم الرئيس عمر البشير، بدأت نشاطها المسلح في يونيو 2024. وتضم غالبية قاعدة الحركة أفراداً من فرع الجميلاب لقبيلة الهدندوة، والذي يعارض فرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك. تأسست قوات “الأورطة الشرقية” التابعة لـ “الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة” تحت قيادة الأمين داؤود في نوفمبر 2024.
وتم تعيين داؤود، الذي ينتمي إلى قبيلة البني عامر، رئيساً لـ “مسار شرق السودان” وفق اتفاقية السلام التي تم توقيعها في جوبا. ومع ذلك، أدى التنافس بين قبيلتي البني عامر والهدندوة على السيطرة في شرق السودان إلى معارضة قوية لتعيين داؤود في هذا المنصب من قِبل ناظر قبائل الهدندوة، محمد الأمين ترك. في نفس الوقت، نظمت “حركة تحرير شرق السودان” التي يقودها إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو 2024 برعاية كاملة من إريتريا، على الأراضي الإريترية، بعد أيام من اندلاع الحرب في السودان. وقد تدرب أفرادها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويُقدّر أن عدد مقاتليها اليوم يبلغ حوالي ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت شعار “حماية” شرق السودان.
كما نشطت قوات “تجمع أحزاب وقوات شرق السودان” بقيادة شيبة ضرار، الذي يُعتبر من قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقد تولى شيبة، الذي أعلن عن نفسه ضابطاً برتبة “فريق”، قيادة العمليات من مدينة بورتسودان – العاصمة المؤقتة – حيث يتنقل بحرية برفقة مجموعة من المسلحين. على الرغم من تراجع صوت فصيل “الأسود الحرة” الذي يرأسه مبروك مبارك سليم من قبيلة الرشايدة العربية خلال الحرب (ويعتبر من الموالين لـ “الدعم السريع”)، إلا أن هذا الفصيل لا يزال يعد قوة كامنة قد تلعب دوراً في النزاعات المستقبلية داخل الإقليم. في أغسطس الماضي، أنشأت قوات “درع شرق السودان” التي يقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة.
ويشتهر هذا الرجل بعلاقته مع الحركة الإسلامية وحزب “المؤتمر الوطني” الذي تم حله، حيث كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير. أقدم أحزاب شرق السودان هو “حزب مؤتمر البجا”، الذي يقوده موسى محمد أحمد، مساعد الرئيس السابق البشير. يتمتع الحزب بتاريخ طويل، حيث أُسّس في خمسينات القرن الماضي. بعد انقلاب 30 يونيو 1989 الذي قاده عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما يُعرف بـ “التجمع الوطني الديمقراطي”، الذي كان يقود النضال المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وشارك في القتال بجانب قوات “الحركة الشعبية لتحرير السودان” بقيادة الراحل جون قرنق على الحدود بين البلدين. وفي عام 2006، وقع الحزب مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام نصت على تعيين رئيسه مساعداً للبشير.
نصل إلى تنظيم “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة” الذي يقوده الناظر محمد الأمين ترك. يلعب هذا التنظيم دوراً مهماً في الإطاحة بالحكومة المدنية برئاسة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، من خلال غلقه للميناء ومنطقة شرق البلاد. ورغم ادعائه بأنه تنظيم “سياسي”، إلا أنه مرتبط بالميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر. باستثناء “مؤتمر البجا” و”المجلس الأعلى للعموديات المستقلة”، يُعتبر تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية ومكان تأسيسها في إريتريا، وانتشارها في الإقليم تحت مظلة الجيش وتحت مزاعم دعمه – على الرغم من ارتباطها بدولة أجنبية لها دور في الحرب – تهديدًا لاستقرار الإقليم، ويعزز من دور إريتريا في شرق السودان. ويأتي هذا في وقت يُعتبر فيه البناء الاجتماعي للإقليم “هشًا للغاية” وسط تباينات بين المجموعات القبلية والثقافية المختلفة.
مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق
إلى جانب الميليشيات المحلية، تشارك اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة من دارفور في القتال مع الجيش ضد “الدعم السريع”، حيث انتقلت عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الحركات الأكبر والأكثر بروزاً هي: “حركة تحرير السودان” بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و”حركة العدل والمساواة السودانية” بقيادة جبريل إبراهيم (وزير المالية)، و”حركة تحرير السودان – فصيل مصطفى طمبور”، بالإضافة إلى حركات أصغر أخرى، جميعها وقّعت على “اتفاقية سلام السودان” في جوبا، وبعد مرور سبعة أشهر على بدء الحرب، انضموا إلى الجيش في معاركه ضد “الدعم السريع”.
أسس مواطنون سودانيون من أصول دارفورية يعيشون في شرق السودان الحركات المسلحة الدارفورية بعد اندلاع الحرب. قادتها هم زعماء هذه الحركات الذين قاتلوا الجيش السوداني في دارفور منذ عام 2003. وعندما بدأت حرب 15 أبريل، قرروا الانحياز للجيش ضد “الدعم السريع”. ونظراً لأن “الدعم السريع” سيطر على معظم مناطق دارفور، قامت تلك الحركات بنقل عملياتها الحربية إلى شرق السودان، مثلما فعل الجيش والحكومة، حيث قامت بتجنيد أفراد من ذوي الأصول الدارفورية في المنطقة وتدريبهم في إريتريا.
استقطاب قبلي
يعتقد حسام حيدر، الصحافي المتخصص في قضايا شرق السودان، أن الحركات المسلحة في المنطقة “تأسست على يد قبلية متنافسة ومتباينة تسعى للسلطة وتقسيم الثروة والموارد، وظهرت للمرة الأولى بعد اتفاق سلام شرق السودان في إريتريا عام 2006، ثم بعد اتفاق جوبا لسلام السودان”. يعتبر حيدر أن التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم يعود إلى “غياب المجتمع المدني”، موضحاً أن “زعماء القبائل يسيطرون على الحياة العامة هناك، وهذا يفسر وجود هذه الميليشيات… كما أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا، مما أدى إلى حالة من الاستقطاب وتصفية الحسابات الإقليمية، حيث تصبح هذه الصراعات مجالاً للخلافات”.
المسؤولية على «العسكر»
يحمّل حيدر “العسكر” المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة من الاستقطاب القبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، وقد ازدادت هذه الحالة حدةً بعد حرب 15 أبريل. ويشرح قائلاً: “الحركات المسلحة لا تهدد الشرق فقط، بل تهدد السودان بأسره؛ لأن مشاركتها في الحرب أدت إلى انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكونات الإقليم، وقد تفاقمت هذه الأوضاع مع نزوح ملايين الأشخاص الباحثين عن الأمان من مناطق النزاع.” وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات في دارفور شرق السودان قد زاد من المنافسة على الموارد والسلطة بين أبناء الإقليم، مما أدى إلى ظهور مزيد من الحركات القبلية.
ويشير قائلاً: “شهدنا في فترات سابقة صراعات بين الجماعات المسلحة في شرق السودان ومجموعات مسلحة في دارفور. ومع انتشار المسلحين والأسلحة، فإن هذه القضايا قد تضع الإقليم على شفير الانفجار… وإذا حدث انفجار في الشرق، ستستمر تأثيراته لفترات طويلة”. يعود حيدر بجذور الحركات التي تدربت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، حيث أشار إلى أن “معظمها نشأ نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي خلال فترة الإنقاذ، ومعسكراته تقع داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا”. هنا يُظهر حيدر استغرابه من صمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني تجاه تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قبل إريتريا، وعلى مرأى من الجميع، بل تحت إشرافهم.
ويُتابع قائلاً: “إن الفوضى الكاملة وانهيار الدولة يجعلان من السودان هدفاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح هناك”. كما يعتبر أن تهديد الرئيس الإريتري أفورقي بالتدخل في الحرب يُغير طبيعة الصراع من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: “هناك دول تراقب موارد السودان، وتستغل الجماعات المُسلحة للتمدد داخل البلاد لتحقيق مصالحها الاقتصادية”.
الدور الإقليمي
في أكتوبر الماضي، أفاد صحافيون سودانيون التقوا بالرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخل إذا انتقلت الحرب إلى ولايات الشرق الثلاث، بالإضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وقد جاءت هذه التصريحات بعد زيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان إلى إريتريا في 26 نوفمبر الماضي، حيث تناولت بشكل أساسي – وفقاً للتقارير الصحفية – قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا والاتفاقات الأمنية والعسكرية المرتبطة بمشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش.
وتدربت الحركات الشرقية الثماني في إريتريا تحت إشراف الجيش الإريتري وفي معسكراته، وعاد البعض منها إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، بينما لا يزال البعض الآخر في إريتريا. ورغم أن الحكومة الإريترية تنفي ذلك بشكل رسمي وباستمرار، إلا أن العديد، خاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا طموحات في المنطقة.
أما إثيوبيا، فهي أيضاً تشهد صراعاً حدودياً مع السودان وتعارض ترسيم الحدود في منطقة “الفشقة” السودانية الخصيبة بولاية القضارف. بالإضافة إلى تأثير الصراعات الداخلية الإثيوبية على الإقليم، يضم الإقليم الآلاف من مقاتلي “جبهة تحرير تيغراي” الذين لجأوا إلى السودان هرباً من القتال ضد الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى وطنهم رغم انتهاء الحرب هناك. ويشاع على نطاق واسع أنهم يقاتلون إلى جانب الجيش السوداني، فيما تتبنى قوات “الدعم السريع” هذا الاتهام بشكل صريح.
أخيراً، في المناطق الشمالية حيث يقع مثلث “حلايب” السوداني الذي تتنازع عليه مصر والسودان ويخضع لسيطرة الجيش المصري، تتحرك قبائل البشارية والعبابدة التي تعيش على جانبي الحدود بين البلدين داخل الإقليم. وهذا يشكل جزءاً من التوترات المستترة التي قد تنفجر في أي وقت. لذا، ليس من المبالغة أن نقول إن شرق السودان يقف على حافة كارثة. وتحت السطح خبايا قد تشعل الإقليم ولا تُخمد أبداً.