المُرتَزَق
هذه القصة محض خيال من الكاتب
كانت الأُرجوحة التي يستلقي عليها تتهادى به يمنة ويسرة تحت الشجرة الوريفة في تلك الظهيرة القائظة في منزله الواقع بالضاحية الشمالية الشرقية الراقية للعاصمة الكولمبية بوقوتا، كان يقلب هاتفه الجوال ويقرأ الإعلان الذي أخذ يسيل له لعابه.
إسمه الحقيقي في الوثائق والمستندات ألفارو ردريغو مارتنيز… وفي محيط العمل عُرف بإسم بابلو سنتياغو.
دخل على الموقع وقدم لعرض العمل الذي وجده غاية في الإغراء.
لم يجد على طول عهده بعمله في الإرتزاق العسكري جهة تدفع بهذا السخاء.
حاول أن يعرف الجهة المخدمة إلا أنه فشل في ذلك… كان الموقع الذي عُرِض فيه الإعلان على الإنترنت قد حجب إسم المخدم واكتفى ببعض التلميحات مثل (فرصة نادرة للعمل في الحرب ضد الجيش الوطني في السودان بمقابل مجز، يتم دفع ثلثي قيمة العقد عند التوقيع وبقية المبلغ يحول في الحساب البنكي كراتب شهري أثناء سير المعارك.) عرف من الإعلان بأن التوقيع سيكون بأحد دول الخليج الثرية. لم يهتم كثيراً بالشروط المبينة في الإعلان، فقد انصب اهتمامه فقط بجملة المبلغ الخرافي المعروض.
دخل بإسم الشهرة وقد رُفض الطلب عدة مرات. عاود الدخول بإسمه الحقيقي كاملاً فتحت الصفحة وأخذ يعبأ البيانات المطلوبة التي إستوفاها جميعاً. إغطبت كثيرا عندما علم أن سير رحلته سيكون النزول في محطتين سياحيتين في أفريقيا الأولى في المغرب والثانية في إثيوبيا. التي سيمر عليهما كسائح للتمويه، وبعدها سيتوجه للدولة الخليجية دون أن يُحدد إسمها لإتمام إجراءات توقيع العقد.
كانت حياة بابلو عبارة محطات مختلفة. آخر نقطة عمل كمحارب مرتزق في أمريكا اللاتينية كانت في هايتي إبان النزاع المسلح على السلطة قبل نحو عامين تمت فيه الإطاحة بالرئيس الذي كان قد أُنتخب حديثاً. مع رجوعه من تلك المهمة سالماً، إلا أنها لم تكن مجزية بشكل كافي رغم أن مَن كان يعمل لصالحهم كانت دوائر سياسية لها علاقة مباشرة بأمريكا.
تطلع لهذا الإعلان بكل شغف. غادر أُرجوحته ودخل غرفة نومه للتأكد من وثيقة سفره وادراج رقمها في استمارة تقديم الطلب كآخر خطوة في ملء بياناته الخاصة.
في غضون أيام دخل المغرب ثم إثيوبيا وفيها التقى بعميل قَدّر من هيئته أنه هندي الجنسية أخبره أن هذه هي النقطة النهائية لرحلته. منها سيتوجه لتشاد ومنها للسودان بَراً.. لم يبد أي إعتراض على هذا التغيير إلا أنه لم يرتح له كامل الإرتياح… في المساء جاءه العميل الهندي ورجل بزي عربي. وقّع على العقد وتم تحويل المبالغ في حسابه البنكي وسلمه تذاكر سفر في صباح اليوم التالي لتشاد. عرف من خلال العقد الدولة التي سيعمل لحسابها. وقد أُخِذ عليه ميثاقا غليظاً أن تكون الدولة طي الكتمان لحساسية الموقف الدولي من الحرب التي سيشارك فيها.
في مطار إنجمينا كان في استقباله عميل سوداني، أخذه للفندق ووعده بأنه سيمرُّ عليه صباحاً ليصحبه في الرحلة البرية للحدود السودانية.
عند الحدود استلم زيه العسكري المموه وبطاقة عسكرية. إنطلقت الرحلة ولدهشته ضمت إثنين من معارفه القدامى خدم معهما في الجيش الكولمبي قبل أن يشملهم برنامج التسريح وإعادة الدمج الذي أشرفت عليه رابطة دول الكاريبي ومولته الأمم المتحدة بُعيد الحرب الأهلية في بلاده. كانت آخر رتبة له في الخدمة العسكرية النظامية (مقدم) وكان الإثنين الآخرين وراءه في الدفعات العسكرية إلا أن قوامه الرياضي الرشيق لم يكن ليبيّن أنه يكبرهم سناً.
دخلوا للأراضي السودانية وسرعان ما تم توزيعهم في مختلف مواقع القتال.. تم توزيعه على الجبهة التي يجري فيها قتال ضاري في العاصمة. بينما وُزع زميليه الآخرين في مواقع مختلفة. إنتظم ضمن قوة مدفعية، كانت تخوض معارك على الجانب الشرقي من ضفة النيل الرئيسي… كان قائده سوداني الجنسية مفتول العضلات. داكن البشرة، بشعر مجدول منسدل نحو كتفيه. كان معهم ضمن الكتيبة مترجمَين لبناني وتونسي. الأول كان يترجم من الإسبانية للعربية بينما كان الثاني يترجم من الفرنسية للعربية. كان عمله في الأسبوع الأول منصباً على دراسة طبوغرافيا المنطقة، وأهم المواقع العسكرية. في اليوم الثامن كلفه القائد بالقيام بضرب بعض الأهداف على الضفة الغربية من النهر نحو المدينة. فتح الخارطة على هاتفه الجوال وتأمل في المواقع المراد قصفها.. حدّج في القائد ملياً وقال بلهجة مستغربة
-واضح أن المنطقة المستهدفة بالقصف هي منطقة سكنية ولا آثار لأي مواقع عسكرية!!!
رد القائد…
-بالفعل.
تساءل بإستنكار وما هي الجدوى العسكرية من قصف منطقة سكنية؟؟؟
قال القائد بنزق
– كل المواقع التي يسيطر عليها الجيش بالنسبة لنا أهداف عسكرية.
إبتعد قليلاً بمقدار خطوتين من المُدفع الرابض على الأرض، وأقترب من المترجم حتى يتأكد أنه كان يفهم ما يسمعه بصورة صحيحة لا لُبس فيها… ثم تساءل بحدة
– ولكن كيف ذلك؟؟؟ ألا يوجد سكان في تلك المناطق؟!!!.
أجاب القائد.
‐ بلى يوجد ولكنهم موالين للجيش.
تساءل مُجدداً ونوع من الحيرة قد إعتلي محياه
– موالين للجيش كمواطنين أم كمحاربين؟!!
قال القائد بنفاد صبر
– إنها الأوامر ولا تكثر من الأسئلة.
ثم أردف قائلاً بإستهزاء
-أنت تعمل تحت إمرتي.. وما عليك إلا تنفيذ الأوامر.
قال وعلامات التحدي بدت تلوح في نظرته.
-أنا هنا لأحارب عساكر يحملون السلاح و لا أحارب مدنيين آمنين هكذا تقتضي الأخلاق العسكرية.
ضحك القائد فور إنتهاء المترجم من كلمة الأخلاق العسكرية بصوت عالي. قال وقد إستبدت به موجة جديدة من الإستهزاء
-أنت هنا تحارب من أجل المال، وقد تم دفعه لك. وما عليك إلا أن تنفذ الأوامر ولا تكثر النقاش حول الأخلاق.
رد بابلو وقد شعر بضيق شديد
-أنا مقاتل ولست قاتل. . ثم اردف
-لكل عمل محدداته الأخلاقية، والإرتزاق كالبغاء له أخلاقياته التي تحكمه… نعم نحن نبيع مجهوداتنا لنقتل محاربين لكننا لا نقتل مدنيين.
قال القائد بنزق متجدد
-هذا الحديث تمرد صريح على الأوامر… تذكر دائما أنك مأجور وتعمل من أجل المال.. ومن أجل المال فقط.
قال بابلو بلهجة عسكرية صارمة
-نعم أنني أعمل من أجل المال، لكني لا أقتل المواطنين من أجل المال، إذا كنت أفعل ذلك حسب فهمك، كان الأجدر بي أن أعمل مع عصابات السطو المسلح… أتدري ما الفرق بين السطو المسلح والعمل العسكري حتى لو كان من يعمل فيه مرتزقاً؟؟؟
في هذه اللحظة ضاق القائد ذرعاً ببابلو. لم يعط نفسه وقتاً للتفكير كما لم يشأ أن يفتح مجالاً للحوار حول الأخلاق. وفي برهة أخرج مسدسه وصوب نحوه رصاصتين أرديتاه قتيلاً.