بعد اندلاع الحرب في السودان في أبريل (نيسان) 2023، بين قوات الجيش بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، وقوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي” والفشل في إيقافها، كانت هناك احتمالات متزايدة للعب القوى المدنية دوراً بالمشاركة في المبادرات الإقليمية والدولية لعقد هدنة من أجل إيصال المساعدات الإنسانية للمواطنين في مناطق النزاع. ولكن استبعدت هذه القوى من أي مبادرات للحوار، بسبب التهمة التي ألحقت بها وهي موالاتها لقوات “الدعم السريع”، مما عقد فرص التسوية.
وطرحت “الجبهة الثورية” أثناء المؤتمر التأسيسي لتنسيقية تحالف القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في مايو (أيار) الماضي فكرة تشكيل “حكومة منفى”، وفقاً لاعتقاد بأن هذه الخطوة قد تدفع الجيش إلى التفاوض مع القوى السياسية والمدنية والحركات المسلحة، للوصول إلى وقف الحرب.
عقدت “تقدم” اجتماعها الأخير برئاسة عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق في مدينة عنتيبي بأوغندا الثلاثاء الماضي (رويترز)
حاولت بعض القوى المدنية تجنب المواقف المعادية للعسكر مع إدانتها نظام “الإخوان” (غيتي)
وإذا عدنا للممارسة السياسية السودانية نجد أن القوى السياسية استمرت في عداء دائم مع الحكومات المتعاقبة بسبب قصر مدد الفترات الديمقراطية، وقفز العسكر على السلطة في عهود عدة، ولكن وصل العداء إلى ذروته في عهد النظام السابق الذي نكل بقادة الأحزاب والقوى السياسية، وأجبرها على مغادرة السودان، فنشطوا في المعارضة السياسية والمسلحة من الخارج. وحصلت تلك الجماعات على اعتراف من بعض الدول التي احتوتها وسمحت لها بممارسة نشاطها السياسي والعسكري، وأبرزها “التجمع الوطني الديمقراطي” وجناحه المسلح “قوات التحالف السودانية” التي نشطت في أسمرا (عاصمة إيرتريا) في تسعينيات القرن الماضي، لكنها لم تصل إلى درجة الاعتراف بها كحكومة منفى.
حكومة موازية
وأعلنت تنسيقية “تقدم” أن هدفها من تشكيل حكومة في المنفى هو تحرير السودان من “الإخوان المسلمين” ومنع عودة نظام عمر البشير للحكم، ولهذا تتوقع القوى السياسية في المنفى، في الأقل في ظل الحرب، تطوراً إيجابياً في العلاقات مع الغرب وابتعاداً جذرياً عن الاتجاهات المعادية للديمقراطية التي حكمت أو كانت حليفة للنظام السابق طوال 30 عاماً. كما تعتزم “تقدم” “تعزيز الشرعية الديمقراطية في البلاد، ونزعها من حكومة الأمر الواقع في بورتسودان”، ولكن هناك من يرى أن حكومة المنفى ستعقد الأزمة السودانية.
وحاولت بعض القوى المدنية تجنب المواقف المعادية للعسكر، مع إدانتها نظام “الإخوان”. وكانت هذه مشكلة بالنسبة إلى القيادات التي أرادت من الحكومة الانتقالية أن تشرع في تغيير جذري في السياسات التي كانت سائدة قبل نظام البشير في ما يتصل بإقامة حكومة مدنية. وعند الحديث عن الاختلافات في المواقف داخل “تقدم” نفسها، يمكننا أن نضيف أن الانقسامات داخل مختلف الأحزاب وفروعها لعبت أيضاً دوراً ما، وشكلت أمثلة على التناقضات المتمثلة في السياسات المتباينة للسلطات المدنية كما كانت أثناء الخلافات في الحكومة الانتقالية بين المكونين المدني والعسكري.
في الاجتماع الذي عقدته “تقدم” برئاسة عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السابق في مدينة عنتيبي بأوغندا منذ الثلاثاء الماضي، وضع في أجنداته عدداً من القضايا المهمة بما في ذلك تشكيل حكومة منفى كخطوة استراتيجية لنزع الشرعية عن الحكومة العسكرية في بورتسودان. وبينما تصر بعض مكونات “تقدم” على تشكيل “حكومة منفى” موازية للحكومة التي يترأسها قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، لكن المتحدث الرسمي باسم “تقدم” بكري الجاك قال “لأن التزام التنسيقية بقضايا اللاجئين، فإن الأولوية هي الاتصال بالسلطات في الدول الأخرى لتسوية قضايا اللاجئين، وهو ضمن موضوع حكومة المنفى الذي نوقش في المؤتمر التأسيسي في مايو (أيار) الماضي، بمشاركة واسعة من مختلف المكونات السياسية والمدنية السودانية”.
مناورة سياسية
وفي السياق قال عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي السوداني كمال كرار “إن اعتزام ’تقدم‘ على تشكيل حكومة منفى، تحت ذرائع مواجهة نظام البرهان، وحماية المدنيين وتقديم المساعدات الإنسانية، يعكس حال الارتباك التي تعتري التنسيقية، فمن جهة عولت كثيراً من قبل على نفوذ بعض الدول والمنظمات الخارجية من أجل ترتيب عملية سياسية تحملها للسلطة، لكن طرفي الحرب تمترسا حول الحرب ومواصلتها لأجل تكريس سلطتهما الحالية في المناطق تحت سيطرتهما، وهكذا فشلت كل المحاولات الخارجية لوقف إطلاق النار، وبالتالي تضاءل أمل ’تقدم‘ في الوصول إلى السلطة عبر التسويات الخارجية”.
أضاف كرار “تبدو هذه الخطوة محاولة من ’تقدم‘ لإثبات أنها تمثل الشعب السوداني أو غالبيته، وهي فكرة عبثية، ولن تمنح تفويضاً لها لتمثيل الشعب، و’تقدم‘ رهنت نفسها للقوى الخارجية، وربما كانت الفكرة نفسها اقتراح منظومات خارجية، لتمرير أجنداتها عبر ما يسمى بحكومة منفى”.
كانت هناك احتمالات للعب القوى المدنية دوراً بالمشاركة في المبادرات لعقد هدنة من أجل إيصال المساعدات في مناطق النزاع (غيتي)
وتابع عضو اللجنة المركزية “الشاهد أن من يريد تمثيل الشعب، أو وقف الحرب أو حتى المساهمة في إغاثة النازحين والعالقين في الحرب لا بد أن يكون وسط هؤلاء الناس، فالحل في الداخل وليس بالخارج. وأحد مسببات هذه الأزمة التي جلبت الحرب هي اعتماد ’تقدم‘ ومن قبلها المجلس المركزي للحرية والتغيير على الأجندات الأجنبية، البعيدة من أهداف الثورة أو مطالب الجماهير”، مضيفاً “لا تزال ’تقدم‘ على المسار نفسه، ولم تستفد من تجارب الماضي، ولم يقدم منسوبوها انتقاداً علنياً للشعب السوداني جراء انحرافهم عن برنامج الثورة حينما فوضهم الشعب للحكم، فارتضوا شراكة الدم، وفعلوا كل ما يمكن أن يجهض الثورة بالشراكة مع اللجنة الأمنية للنظام السابق التي سمت نفسها المكون العسكري”.
ورأى كرار أن “هذا التاريخ حاضر وقريب ومن الصعب أن تدعي ’تقدم‘ تمثيل الشعب، ولن يفوضها الثوار مرة أخرى، والتناقضات داخلها ستجعل حكومة المنفى مجرد مناورة سياسية، لن تصمد أمام أطماع بعض القوى داخل ’تقدم‘ نفسها. وعليه يمكن أن يقال لـ’تقدم‘ التي تبحث عن ثغرة تنفذ بها للحكم حتى بمشاركة الانقلابيين ومجرمي الحرب أنه فات الأوان”، وختم عضو اللجنة المركزية بالحزب الشيوعي السوداني “من خلال بعض تصريحات قادة ’تقدم‘، ربما كانت فكرتها عن حكومة المنفى إيجاد غطاء سياسي مزيف لإدخال قوات عسكرية دولية بحجة حماية المدنيين، والصعود للحكم على صهوة احتلال عسكري خارجي مثلما حدث في العراق بعد الغزو الأميركي”.
معضلة الشرعية
ووفقاً للرأي السائد في الأدبيات القانونية، فإن حكومة المنفى ليست موضوعاً للقانون الدولي، خصوصاً أنها لا تمارس سيطرة فعلية على المواطنين السودانيين وعلى الأرض، ولكنها يمكن أن تلعب دور الجهاز التمثيلي للدولة، ويمكن للدول الأخرى الاعتراف بها باعتبارها ممثلة للإرادة الوطنية، سواء أكانت ديمقراطية أم لا، إذ إن ممارسة الحكم ليست معياراً لشرعيتها، ولذلك فإن “تقدم” لا تستطيع أن تقنع غيرها بالاعتراف بالحكومة التي ستشكلها لمجرد أنها قوى ديمقراطية، وإنما يمكنها التركيز على تحقيق المعايير الدنيا لوضع الحكومة المنصوص عليها في القانون الدولي.
وحتى لو تعللت “تقدم” بالانتهاكات الحاصلة في الحرب، فإن ذلك لا يمنحها حق الاعتراف بها، وهناك سابقة قضائية معروفة، وهي أن المجلس العسكري الحاكم في ميانمار، كان ارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ولكن ذلك لم يدفع أية دولة للاعتراف بحكومة “الائتلاف الوطني لاتحاد بورما” في المنفى، التي شكلها ممثلون برلمانيون منتخبون في الـ18 من ديسمبر (كانون الأول) 1990، بعد أن رفض المجلس العسكري تسليم السلطة إلى أون سان سو تشي التي فاز حزبها المعارض (الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية) بالانتخابات الوطنية عام 1990″.
اندبندنت عربية