في أطراف مدينة كوستي، جنوب الخرطوم، ولاية النيل الأبيض، حيث تمتد مخيمات النزوح كجروح مفتوحة في الجغرافيا والذاكرة، تتقاطع معاناة الحرب مع تفاصيل الحياة اليومية، لتنتج قصصا إنسانية قاسية، أبطالها نساء حملن على عاتقهن أدوارا مضاعفة: إنقاذ الأرواح، وحماية التعليم، وسد فراغ الرعاية الصحية في ظل شح الإمكانيات وغياب الدعم.
منى شرف الدين محمد، قابلة مجتمعية ونازحة من منطقة جبل الداير منذ نحو عامين، تحولت خيم النزوح بالنسبة لها إلى غرف ولادة طارئة، وإلى ساحات مواجهة يومية مع الخطر. تقول منى للجزيرة مباشر، إنها تتعامل مع حالات ولادة معقدة في ظروف بالغة الصعوبة، حيث تفتقر النساء الحوامل لأبسط مقومات الاستعداد الصحي والمادي.
وتستعيد منى موقفا كاد ينتهي بكارثة، حين رافقت امرأة في ولادتها الأولى، ورفض المستشفى التدخل قبل توفير الدم والرسوم، إلى أن تدخل أحد المتطوعين في اللحظات الأخيرة وأنقذ الموقف.
وتضيف بحزن أن بعض النساء يجبرن على الولادة دون تخدير، فقط لأنهن لا يملكن تكلفة العلاج، في مشهد يلخص حجم القسوة التي فرضتها الحرب على الأمهات.
وعلى بعد أمتار من غرف الولادة المؤقتة، تخوض سمية إبراهيم عبد الله معركة مختلفة، عنوانها إنقاذ التعليم من الانهيار. سمية، معلمة للمرحلتين الابتدائية والمتوسطة، كانت قبل الحرب مديرة لمدرسة خاصة في الخرطوم، قبل أن تدفعها ظروف النزوح إلى مخيم "قوز السلام" في كوستي.
داخل المخيم، قررت سمية ومعها عدد من المعلمين التطوع لتعليم الأطفال النازحين الذين انقطعت بهم السبل الدراسية، فأنشؤوا فصولا بدائية لمحاولة تعويض ما فاتهم. لكنّ الطريق لم يكن سهلا، فالعقبات كثيرة: لا مبان مهيأة، ولا سبورات، ولا كتب، ولا مقاعد.
تقول سمية إن الطالب بالكاد يستطيع توفير قلم ودفتر واحد، في حين يفتقر المعلمون لأدنى الوسائل التعليمية التي تمكنهم من أداء رسالتهم. ومع ذلك، تصر على الاستمرار، معتبرة أن التعليم في هذه الظروف ليس مجرد دراسة، بل خط دفاع أخير لحماية مستقبل الأطفال من الضياع.
أما روعة عامر محمود، النازحة من الخرطوم وطالبة التمريض بجامعة الرباط الوطني، فقد فرضت الحرب توقفا قسريا في مسيرتها الجامعية لعام كامل. اليوم تحاول روعة استكمال امتحاناتها عبر الإنترنت، متشبثة بحلم لم تطفئه الحرب.
وخلال وجودها في كوستي، تلقت تدريبا عمليا في المستشفى التعليمي ومستشفى الشرطة، واكتسبت مهارات تمريضية متعددة، من تركيب المحاليل الوريدية إلى إعطاء الحقن والأدوية. وبسبب بعد المركز الصحي عن المخيم، قررت أن تضع ما تعلمته في خدمة أهلها، فتقدم الإسعافات الأولية والرعاية التمريضية للنازحين كعمل إنساني تطوعي.
وتقول روعة إن الناس يقصدونها في كل الأوقات، حتى في ساعات متأخرة من الليل، بحثا عن مساعدة طبية قد تكون بسيطة، لكنها بالنسبة لهم مسألة حياة أو موت.
وبين قابلة تحارب النزيف، ومعلمة تقاوم الجهل، وطالبة تمريض تسد ثغرة العلاج، تتجسد صورة الصمود الإنساني في مخيمات كوستي. قصص لا تتصدر العناوين السياسية، لكنها تكشف الوجه الحقيقي للحرب، حيث تتحول النساء إلى خطوط دفاع أخيرة في معركة البقاء، وتبقى الإنسانية، رغم كل شيء، حاضرة في أكثر الظروف قسوة.
المصدر:
الجزيرة