في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في لحظة جيوسياسية شديدة التعقيد، استقبل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نيودلهي بأعلى درجات الحفاوة، واصفاً إياه بالصديق، في زيارة تُعد الأولى لبوتين إلى الهند منذ أربع سنوات، وأبرز محطة في مسار العلاقات الثنائية منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
ومع تصريح بوتين بأن "لروسيا والهند علاقات كبيرة في المجال العسكري التقني"، بدا واضحاً أن موسكو تراهن على نيودلهي كشريك استراتيجي قادر على كسر العزلة الغربية وتوسيع مسارات التعاون في التكنولوجيا المتقدمة والطاقة والتجارة.
فلطالما كانت الهند أكبر مشترٍ للمنظومات العسكرية الروسية منذ عقود، من المقاتلات "سوخوي" والدبابات "تي-90" إلى منظومة الدفاع الجوي "S-400".
وخلال المحادثات الأخيرة، أكد بوتين استمرار الثقة بين البلدين في هذا المجال، مشيراً إلى مشاريع مشتركة تشمل الطيران والفضاء والذكاء الاصطناعي.
كما أعلن وزير الدفاع الروسي أندريه بيلوسوف في اجتماعات منفصلة، استعداد موسكو لدعم الهند في "تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية"، في إشارة إلى مبادرة مودي "صُنع في الهند" التي تهدف لخفض الاعتماد على الواردات.
ومنذ فرض العقوبات الأوروبية على روسيا عام 2022، أصبحت الهند ثاني أكبر مشتر للنفط الروسي بعد الصين، ما منح موسكو منفذاً حيوياً لأسواق بديلة. ويهدف الجانبان إلى رفع حجم التجارة الثنائية إلى 100 مليار دولار بحلول 2030، مع مساعٍ روسية لزيادة وارداتها من السلع الهندية لتعديل الميزان التجاري المختل بفعل واردات الطاقة.
وتتضمن الاتفاقات المتوقع إعلانها مشاريع جديدة، منها شراكة بين شركات هندية ومجموعة "أورالتشم" الروسية لإنشاء مصنع أسمدة داخل روسيا، إضافة إلى سعي مصرفي "غازبروم بنك" "ألفا بنك" لتوسيع حضورهما داخل النظام المالي الهندي لدعم التبادل التجاري.
وتأتي زيارة بوتين في وقت حساس بالنسبة للهند، حيث تخوض مفاوضات تجارية مع الولايات المتحدة لخفض الرسوم العقابية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب مشتريات نيودلهي من النفط الروسي.
والهند، التي لم تُدن موسكو رسمياً في الحرب الأوكرانية، تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين تحالفها التاريخي مع روسيا وشراكتها الاستراتيجية متنامية الأهمية مع واشنطن. ويصف محللون هذا الموقف بأنه "معضلة الهند"، حيث إن التقدم نحو طرف قد يُغضب الآخر.
فرغم الضغوط الغربية، تؤكد نيودلهي أن تعاملها مع موسكو لا يتجاوز القواعد الدولية، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يواصلون استيراد ما قيمته مليارات الدولارات من الطاقة الروسية.
ويحمل التقارب الروسي–الهندي الذي ظهر بوضوح في قمة نيودلهي تداعيات مهمة على أسواق الطاقة العالمية والتوازنات الجيوسياسية في آسيا. فمن جهة، ترسل الزيارة رسالة بأن روسيا، رغم العقوبات الغربية، لا تزال قادرة على إيجاد أسواق نفطية ضخمة وبديلة، وأن الهند -ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم- لن تتخلى بسهولة عن الخام الروسي منخفض التكلفة.
ما يعني عملياً استمرار كسر سقوف الأسعار التي حاولت الدول الغربية فرضها، إلى جانب تعزيز دور العملات المحلية في تجارة النفط، وهو ما يقلّل تدريجياً من هيمنة الدولار في التبادلات الطاقوية الآسيوية.
أما على مستوى التوازنات الإقليمية، فتمنح القمة موسكو موطئ قدم أكثر رسوخاً داخل جنوب آسيا، خصوصاً في ظل التوتر الهندي–الصيني. فالتعاون الدفاعي المتجدد بين روسيا والهند يوفر لنيودلهي هامشاً استراتيجياً أوسع في مواجهة بكين، دون الارتهان الكامل للولايات المتحدة.
في المقابل، تستفيد موسكو من إظهار أنها ليست معزولة في آسيا، وأن لديها شريكاً اقتصادياً ودفاعياً ضخماً يمكنه موازنة النفوذ الصيني ضمن شراكة "بريكس" الأوسع.
كما يشير خبراء إلى أن إعادة توجيه النفط الروسي إلى آسيا عبر الهند قد تُعيد تشكيل خريطة سلاسل الإمداد العالمية للطاقة، وتجعل المحيط الهندي مركزاً متصاعد الأهمية في تجارة الهيدروكربونات. وإذا ما اكتمل مشروع المصارف الروسية العاملة في الهند والتسويات بالروبل والروبية، فقد يشهد الشرق تحوّلاً أكبر في بنية النظام المالي الموازي للغرب.
وفي مستهل القمة، قال مودي لبوتين: "الهند ليست محايدة... موقفنا هو السلام، وندعم كل مبادرة تحقق ذلك". ورد بوتين شاكراً اهتمام الهند بجهود التسوية، وكاشفاً أنه أطلع مودي على الخطوات التي تناقشها موسكو مع شركاء من بينهم الولايات المتحدة.
وبتأكيد بوتين أن "فرص التعاون تتوسع مع نمو اقتصادي البلدين"، فإن القمة تعكس رغبة مشتركة في إعادة صياغة العلاقات لتعكس موازين القوى الجديدة في عالم يتجه نحو تعددية قطبية. ومع تصاعد المنافسة بين واشنطن وبكين وموسكو، تبدو الهند اليوم شريكاً مركزياً لكل الأطراف، فيما تستفيد روسيا من علاقة تُعد من أكثر علاقاتها الدولية استقراراً.
وفي المحصلة، لا يمكن النظر إلى القمة باعتبارها مجرد تعزيز للعلاقات الثنائية، بل هي حجر إضافي في بناء نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، تلعب فيه الهند دور "الميزان" بين واشنطن وموسكو، وتستثمر فيه روسيا ثقلها الطاقوي والعسكري لاستعادة نفوذها في آسيا.
المصدر:
العربيّة