في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
واشنطن- رغم انشغال واشنطن العلني بالحرب في غزة وتداعياتها الإقليمية، فإن قرارها الصامت بتعليق طلعات المراقبة الجوية وتفتيش الأنفاق في شبه جزيرة سيناء يثير انتقادات حادة من الجانب الإسرائيلي، الذي اعتبر ذلك "انتهاكا خطيرا" لمعاهدة السلام "كامب ديفيد" الموقعة عام 1979 بين إسرائيل ومصر.
ففي المنطقة التي لم تهدأ فيها الشكوك منذ توقيع المعاهدة، مثّل الدور الأميركي ضمانة ميدانية لالتزامات لا تملك القاهرة وتل أبيب آلية ثنائية موثوقة لمراقبتها.
ومع غياب هذه الرقابة الدولية اليوم، يجد الحلفاء الثلاثة أنفسهم أمام فجوة أمنية غير معلنة، تتقاطع فيها حسابات السيادة المصرية في المنطقة، وهواجس إسرائيل من التهديدات الحدودية، وميل الإدارة الأميركية إلى تقليص وجودها العسكري في الشرق الأوسط.
منذ اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، توقفت واشنطن عن تنفيذ طلعات المراقبة الجوية وعمليات تفتيش الأنفاق التي كانت تنفذها ضمن مهام قوة المراقبة المتعددة الجنسيات في سيناء. ورغم أنها جزء من التزاماتها بموجب اتفاقية كامب ديفيد ، فإن التعليق لم يُعلن عنه رسميا، ولم تقدم وزارة الدفاع أو الخارجية الأميركية مبررات.
وتتهم تل أبيب القاهرة باتخاذ إجراءات أحادية تقوّض روح الاتفاق، إذ تكشف تقارير إسرائيلية عن أن مصر رفضت السماح لمفتشي القوة بتفتيش أنفاق يجري بناؤها في سيناء، وتشتبه في أنها قد تُستخدم لتخزين كميات كبيرة من الأسلحة الموجهة ضدها.
ويرى الخبير الإستراتيجي جودت بهجت -الباحث بمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا بجامعة الدفاع الوطني التابعة للبنتاغون- أن تعليق الرقابة الأميركية لا يمثل مفاجأة، بل يعكس ما وصفه بالتحول المستمر في السياسة الأميركية التي تعطي الأولوية للداخل وتبتعد تدريجيا عن التزامات المراقبة العسكرية المباشرة في الشرق الأوسط.
وأضاف للجزيرة نت أن الإدارة الأميركية الحالية -مثل سابقاتها- باتت تفضل الانخراط غير المباشر، وتقيّم تكلفة البقاء العسكري في مواقع ليست ضمن أولويات الأمن القومي العاجل، معتبرا أن ما جرى في سيناء هو مثال عملي على هذا التوجه، خاصة أن واشنطن تعتبر أن التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي قادر -في الحد الأدنى- على إدارة الوضع ميدانيا دون تدخل مباشر.
من جانبه، قلّل الخبير العسكري المصري العميد سمير راغب من أهمية القرار الأميركي، معتبرا أنه يأتي في سياق تطور طبيعي في أدوات المراقبة المتبعة منذ سنوات، وليس خروجا عن روح اتفاقية السلام.
وأوضح للجزيرة نت أن التحول نحو تقنيات المراقبة غير البشرية بدأ منذ عهد وزير الدفاع الأميركي السابق آشتون كارتر عام 2016، الذي بدأ مع الجانبين المصري والإسرائيلي تخفيض عدد القوات الأميركية المشاركة في قوة المراقبة لصالح وسائل تكنولوجيا أكثر تطورا.
تقرير رصدي: تعزيزات إسرائيلية قرب الحدود المصرية – مايو 2025
شهدت الحدود المصرية – الإسرائيلية خلال الشهور الأخيرة تحولات ملحوظة في طبيعة الانتشار العسكري الإسرائيلي، تم رصدها وتوثيقها بصريًا من قبل مصادر خاصه لمؤسسة سيناء لحقوق الإنسان، وتشمل هذه التحركات زيادة استخدام الوسائل… pic.twitter.com/h3cbK8NzT1
— Sinai for Human Rights (@Sinaifhr) May 2, 2025
وأشار راغب إلى أن القاهرة لم تكن لديها ممانعة حقيقية تجاه هذا التوجه، لا سيما أن التنسيق العسكري مع إسرائيل بشأن انتشار القوات في المنطقة (ج) -وهي المنطقة الأقرب للحدود مع إسرائيل والتي يُقيَّد فيها الوجود العسكري المصري بموجب المعاهدة- كان يجري بموافقة الطرفين، وفي إطار "مواجهة الإرهاب" وإنفاذ القانون بعد عام 2011.
وأضاف "حتى عمليات انتشار مدرعات أو وحدات ثقيلة في سيناء كانت تتم بتفاهم مباشر مع إسرائيل وبتنسيق مع الولايات المتحدة".
وبشأن تعليق الطيران بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يرى أن الأولوية الأميركية انتقلت إلى ملفات أكثر إلحاحا مثل الحرب في غزة والمفاوضات المرتبطة بها، مرجحا أن الوجود العسكري الإسرائيلي الكثيف على الحدود مع القطاع، خاصة في ممر فيلادلفيا ، جعل المراقبة الأميركية غير ضرورية من منظور واشنطن. ولفت إلى أن كلفة الطلعات الجوية وتراجع الجدوى السياسية من استمرارها أسهما في اتخاذ القرار.
أعجبني:
– اتفاقية "كامب ديفيد" بتنص على عدم وجود قوات مسلحة #مصرية 🇪🇬في نطاق المنطقة ج واللي كان مسموح ليه بالتواجد كانت قوات الشرطة المدنية فقط، والمنطقة ب اللي بتبعد عن الحدود تقريبا 100 كم كان ممنوع دخول سلاح ثقيل فيه.
النهارده وفي اللحظة اللي بكلمك فيها القوات المسلحة… pic.twitter.com/H1W7J6yLYe
— EslAm OthmAn🦅🇪🇬 (@Esll7970Gladii) September 5, 2024
ووفقا له، لا ترى القاهرة تأثيرا إستراتيجيا فعليا لهذا التعليق ما دام التنسيق الأمني مع إسرائيل قائما، وأن الخروقات الميدانية تبقى من الجانب الإسرائيلي في المقام الأول. وأضاف أن إسرائيل باتت تبدي قلقا مفرطا تجاه أي تطور عسكري مصري، حتى لو تم بالتنسيق، وهو ما يعكس نوعا من الهواجس المزمنة التي لا تؤثر حتى الآن على استقرار المعاهدة، ولا تنذر بأكثر من احتمال تصعيد كلامي ودبلوماسي في أقصى الحالات.
في المقابل، عبّرت تل أبيب عن قلق متصاعد إزاء القرار، ونقلت صحيفة "يسرائيل هيوم" عن مسؤولين أمنيين قولهم إن غياب الرقابة الأميركية يفتح الباب أمام توسع مصري غير مراقب في شمال سيناء، ويمنع القوة المتعددة الجنسيات من التحقق ميدانيا من شبكة أنفاق يجري تشييدها في المنطقة.
وتنظر إسرائيل إلى تلك الأنفاق على أنها مصدر تهديد محتمل، ليس فقط لأنها قد تُستخدم مستقبلا في تهريب أسلحة من غزة أو إليها، بل لأنها "تخرق مفهوم الشفافية العسكرية الذي يفترض أن تضمنه الرقابة الأميركية". وأشارت مصادر إسرائيلية إلى أن مصر اتخذت الأشهر الماضية خطوات عسكرية أحادية، من بينها نشر وحدات مدرعة قرب رفح، وإخطار الجانب الإسرائيلي بعد التنفيذ، وهو ما اعتُبر تجاوزا لآلية التنسيق المنصوص عليها في معاهدة السلام.
وخلال زيارة وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى تل أبيب مطلع 2025، أثار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب ل لمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- المسألة بشكل مباشر، مطالبا بضرورة استئناف المراقبة، حسب ما ذكرته تقارير عبرية. واعتُبر هذا الطرح محاولة لإعادة ترتيب الأولويات في العلاقة الثلاثية، وللتذكير بأن أمن سيناء "جزء من التوازنات التي لا يجوز العبث بها"، كما صرّح بذلك مسؤول إسرائيلي للصحافة الإسرائيلية.
يأتي صمت واشنطن بشأن هذه الخطوة في وقت يزداد فيه انخراطها في إدارة الأزمة المتفجرة في غزة، حيث تبدو أولوياتها الدبلوماسية والأمنية مشدودة نحو مسارات التهدئة والوساطات، وسط ضغوط داخلية متزايدة تتعلق بالانتخابات المقبلة وسقف الإنفاق الخارجي.
لكن هذا التوجه ليس وليد اليوم، فقد سبق لإدارة الرئيس دونالد ترامب -خلال ولايته الأولى- أن درست بجدية تقليص أو حتى إنهاء الدور الأميركي في قوة سيناء، ضمن مراجعة أوسع للمهام العسكرية التي تعتبرها واشنطن "عبئا" أو غير مرتبطة بمصالحها الحيوية.
وفي عام 2018، تبنى البنتاغون إستراتيجية جديدة تركز على مواجهة القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والتخلي عن المهام الإرثية التي فقدت قيمتها العملية في نظر صانعي القرار. وقد عبّر رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، مارك ميلي، عن هذا التوجه صراحة بقوله "لدينا أمور كثيرة تراكمت على مدى 30 عاما. خذ سيناء مثلا، هل لا يزال نشر قواتنا هناك مهمة مبررة؟ إذا كان الجواب لا، وفق الإستراتيجية الجديدة، فعلينا إلغاؤها".
ويفسّر محللون الصمت الأميركي الرسمي بشأن وقف الرقابة الجوية على أنه محسوب، ويحمل ضمنيا رسالة مفادها أن الأولوية الراهنة ليست في مراقبة اتفاقية عمرها 46 عاما، بل في إدارة تداعيات حرب غزة وتثبيت التوازنات العسكرية في ساحتها.