في خطوة مثيرة للجدل وغير مسبوقة منذ اندلاع الحرب السورية، انسحب الجيش السوري من محافظة السويداء، تاركا زمام الأمن في يد فصائل درزية محلية.
هذا الانسحاب لم يمر مرور الكرام، بل أثار موجة من التساؤلات حول مستقبل الحكم في سوريا، وإمكانية الانتقال من النموذج المركزي إلى نظام فيدرالي فعلي، تحت ضغط الوقائع السياسية والعسكرية المتغيرة.
فبينما وصفت بعض التحليلات المشهد بأنه "هدنة مؤقتة"، رأى آخرون أنه مقدمة لتقسيم ناعم، يفرضه الواقع الميداني والهندسة الإقليمية الجديدة التي تلوّح بها تل أبيب وتواكبها تحركات على الأرض.
السويداء خارج سيطرة الجيش.. حدث غير مسبوق
مع خروج القوات السورية من السويداء، دخلت المحافظة في مرحلة جديدة، يصفها المراقبون بأنها انتقالية ولكن حاسمة.
وباتت الفصائل المحلية المسؤولة فعليا عن الأمن، في مشهد يعكس انفصالا جزئيا عن الدولة المركزية في دمشق، ويطرح إشكالية كبرى حول سلطة القانون ووحدة القرار.
وتشير مشاهد ما بعد الانسحاب إلى "هدوء هش"، كما وصفه شهود من داخل المحافظة، في ظل بقاء السلاح بأيدي الفصائل، وتعدد الولاءات، واستمرار الغليان الشعبي بعد موجة من التجاوزات التي وُصفت بالكارثية، بحسب روايات محلية.
نتنياهو يرسم خريطة جديدة من الجولان إلى السويداء
في خضم هذه التحولات، دخل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على خط الأحداث، بتصريحات أثارت زوبعة من الردود، حين تحدث عن منطقة "منزوعة السلاح" تمتد من الجولان المحتل إلى السويداء.
وأكد أن "وقف إطلاق النار في الجنوب السوري انتُزع بالقوة"، ما يثير أسئلة مشروعة حول مدى انخراط إسرائيل في صياغة مشهد الجنوب السوري الجديد، وهل باتت تل أبيب طرفا غير مباشر في رسم خرائط النفوذ داخل سوريا ما بعد الحرب؟
خطاب الدولة: بين الإنكار وتحميل إسرائيل المسؤولية
الرئيس السوري أحمد الشرع حرص، في خطاباته الأخيرة، على تصوير ما جرى على أنه مؤامرة خارجية تستهدف وحدة سوريا.
واتهم الشرع إسرائيل صراحة بـ"خلق الفتن"، مبررا انسحاب الجيش بأنه خيار استراتيجي لحقن الدماء وقطع الطريق أمام التصعيد، وموضحا أن دمشق كانت أمام خياري الحرب أو التهدئة.
لكن هذا الخطاب الرسمي لم يكن كافيا لتهدئة الأصوات المعارضة من داخل السويداء نفسها، ولا من الطائفة الدرزية التي تمثّل العمق المجتمعي الأبرز في المنطقة.
السلطة والفخ الإسرائيلي
الدكتور فايز قنطار، الأكاديمي والباحث السياسي، قدّم رؤية نقدية للمشهد خلال مداخلته في برنامج "التاسعة" على "سكاي نيوز عربية"، معتبرا أن السلطة السورية ارتكبت "غلطة استراتيجية فادحة"، وأنها سقطت في "فخ نصبه نتنياهو منذ اليوم الأول لوصول الشرع إلى القصر الجمهوري".
وقال قنطار: "نتنياهو أعلن منذ البداية أنه ممنوع دخول القوات العسكرية إلى الجنوب، ونسّق مع إدارة الشرع لتفادي أي تصعيد، لكن حدث خلل واضح في هذا التنسيق، فوجد أهل السويداء أنفسهم فجأة أمام ترسانة عسكرية ضخمة تتوجه إلى بيوتهم، في وقت تقف فيه الدولة مكتوفة الأيدي أمام الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة".
وأضاف: "كيف يمكن لدولة تزعم السيادة أن تُحاصر محافظة بأكملها وتهاجم سكانها، بينما لا ترد على الصواريخ التي تستهدف سيادتها من الخارج؟ هذا المشهد لا يبني وطنا".
هل تعافت السلطة من إرث الأسد؟
قنطار لم يتوقف عند المشهد العسكري، بل توجه إلى البنية السياسية الجديدة للدولة، متهما الإدارة الحالية بأنها "ديكتاتورية"، تعيد إنتاج نموذج النظام السابق، ولكن دون عقد اجتماعي يضمن الشراكة والمواطنة.
وحول ذلك قال قنطار: "أين المثقفون السوريون؟ أين نخب البلاد؟ لماذا يتم إقصاؤهم؟ هذه السلطة لا تريد شراكة أحد، وتتغذى على خطاب طائفي منذ أشهر، يحرض ضد المسيحيين والدروز والعلويين. هذا المسار لا يبني دولة، بل يفتح باب الفوضى الطائفية".
وشدد قنطار على رفضه القاطع لأي اتهام للسويداء بأنها أداة بيد إسرائيل، موضحا: "هذا ظلم تاريخي. السويداء قدمت الشهداء في كل الحروب، ورفضت الهوية الإسرائيلية منذ نصف قرن. نحن نرفض أي علاقة بإسرائيل، لكننا في الوقت نفسه نرفض أن تُستباح كرامة أهلنا من قبل الدولة التي يجب أن تحمينا".
معابر مع الأردن أم مع مناطق "قسد"؟
من أبرز النقاط الجدلية التي ظهرت في سياق الحديث عن مستقبل الجنوب السوري، كانت الدعوات التي أطلقتها بعض الفصائل لفتح معابر مع مناطق سيطرة الأكراد (قوات سوريا الديمقراطية – قسد).
لكن قنطار رفض هذا المطلب بشدة، موضحا أن "السويداء لا تطلب اتصالا خاصا مع مناطق كردية، بل تطالب منذ عقود بفتح معبر مع الأردن، وهو مطلب اقتصادي وإنساني واجتماعي مشروع".
هل تتجه سوريا نحو الفيدرالية؟
في خضم هذه التطورات، يبرز السؤال الجوهري الذي يتردد بقوة في الأوساط السورية والدولية: هل لا تزال مركزية الحكم ممكنة في سوريا ما بعد الحرب؟ أم أن الفيدرالية باتت النموذج الوحيد القابل للحياة؟
تشير الوقائع على الأرض إلى أن النظام المركزي الذي حكم سوريا لعقود يتآكل تدريجيا تحت وطأة الاستقطابات الطائفية، وتعدد السلطات الأمنية، وانهيار الثقة الشعبية.
وبينما يطالب الأكراد بإدارة ذاتية شمال البلاد، ويُترك الجنوب في يد الفصائل المحلية، وتتنامى الدعوات للتمثيل المحلي في الساحل، يبدو أن البلاد تدخل في مسار "فيدرالية بحكم الواقع"، حتى لو لم تُعلن رسميا.
وتتحدث بعض الأطراف عن "اتفاق أيار" كفرصة لإعادة دمج السويداء في إطار الدولة السورية، وتفعيل المؤسسات الرسمية وإعادة بناء الثقة.
إلا أنه من جهة أخرى، تخشى جهات عدة أن يكون ما جرى مقدمة لتقسيم ناعم، أو لخلق مناطق نفوذ منفصلة بغطاء من الهدن المؤقتة.
قنطار عبّر عن هذا القلق بوضوح، بقوله: "هذه السلطة غير مؤهلة لبناء وطن. لا يمكن ترميم سوريا عبر الدماء والانتهاكات. لا بدّ من حوار شامل، وعقد اجتماعي جديد يشارك فيه الجميع، وإلا سنبقى ندور في دوامة النزاع إلى ما لا نهاية".
لحظة مفصلية في مسار سوريا
ما يحدث اليوم في السويداء ليس حدثا معزولا، فهو جزء من لوحة أكبر يعاد رسمها بصمت، تُختبر فيها حدود السلطة المركزية، ويُفرَض من خلالها واقع جديد يشبه الفيدرالية، سواء قبلت دمشق أو رفضت.
ويبقى السؤال معلّقا: هل تكون السويداء نموذجا لحكم محلي داخل دولة موحدة، أم شرارة تفتح الطريق أمام انقسامات أوسع؟.
الجواب مرهون بقدرة الدولة السورية على احتواء الموقف، وإعادة بناء الثقة مع المكونات المحلية، قبل أن يتكرس الانفصال كأمر واقع لا رجعة فيه.