في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- في زقاق صغير بين ركام البيوت في جباليا شمال قطاع غزة ، كان محمد حجازي ذو السبعة أعوام يعيش يومه الأجمل منذ عودته من النزوح القاسي في جنوب القطاع، أعاد والده ترميم ما استطاع من جدران المنزل المدمر، وسمح له أن يركض أخيرًا في أزقة حارته وبين أصدقائه.
لكن، لم يخطر على باله أن كمينا قاتلا على هيئة قنبلة إسرائيلية مزروعة بين الركام سيحيل حياته لقطع من الليل المظلم، بعد أن حملها الطفل وهو يلهو ويحاول اكتشافها بين يديه الصغيرتين، قبل أن تنفجر في وجهه، دون أن يدري أنها ستُطفئ النور في عينيه.
على وقع صرخات الأطفال هرع أبو محمد ليجد ابنه غارقا في دمائه، ينزف الدم من عينيه، ممددًا بلا حراك، "علمت فورًا أن عينيه أصيبتا، وقعت على الأرض، وفقدت الشعور بكل شيء"، يصف الأب للجزيرة نت تلك اللحظات الصعبة حابسا دموعه في عينيه.
وفي مستشفى العيون التخصصي، جاء التشخيص الطبي قاسيا "العين اليمنى يجب استئصالها فورًا، أما اليسرى فهناك أمل ضئيل لا يتجاوز خيط نور بأنها قد تُبقي على جزء من بصر محمد، بشرط التدخل الجراحي العاجل".
لكنها جراحات معقدة ليست متوفرة في المدينة المحاصرة، وكي لا يتبدد أمل الطفل بالإبصار يحتاج أن يخرج من غزة لإجراء عمليات في شبكية وقرنية العين، يعلّق الأب "أخبرني الأطباء أن الوقت الذي يمر ليس في صالحنا".
منذ يوم الإصابة، توقف أبو محمد عن عمله، وبات يكرّس كل لحظة لابنه الذي فقد قدرته على المشي دون أن يتعكز عليه، كما أنه لا يزال يطلب النزول إلى الشارع حين يسمع صوت أصدقائه يلهون، وعند نزوله يجلس بالقرب منهم محاولا التفاعل مع أصواتهم.
وبينما يهمون بالعودة للمنزل، يسأل دائما "بابا، من أخذ عيوني؟ ليش مش شايف غير سواد؟"، فيجيبه الأب متمسكا بقشة الأمل ومهونا عليه "غطيناهم مؤقتا، بس نسافر هتشوف يابا بإذن الله".
في حي الشجاعية، كانت راوية وادي تستلقي على أرض الخيمة وتستعد للنوم حين اخترقت رصاصة طائرة " كواد كابتر " المسيّرة قماش الخيمة، واستقرت في عينها اليسرى.
بعد أن أسعِفت إلى مستشفى العيون، كانت راوية تسمع همسات من حولها، نحيبًا مكتومًا وعبارات مترددة، دون أن يخبرها أحد بما ستؤول إليه، لكنها التقطت كلمات الأطباء بالإنجليزية، ففهمت المعنى فورًا، لقد خسرت عينها اليسرى، وسيتم إفراغها لتظل جفونها مطبقة إلى الأبد.
لم يمنح الاحتلال المصابة متسعا للتشافي أو استيعاب الواقع الجديد الذي قادها إليه، فبعد مغادرتها المشفى بيومين أجبرتها القذائف على النزوح من جديد، لتحمل ضمادها وألمها وتسوق أطفالها وخيمتها إلى ساحة مدرسة في حي الدرج، وتبدأ حياة بظلمات متراكبة لا تشبه شيئا مما قبلها.
هناك، وجدناها تعجن المعكرونة بيديها، فالجوع أيضا قضَّ مضاجع الأمهات اللواتي ابتكرن بديلًا لسد قرقرة بطون أبنائهن، لكن الجوع لم يكن فزعها الوحيد، ففي كل مرة يُسمع فيها إطلاق نار، يُهرع أطفالها ليغطّوا وجوههم بالوسائد، كأنهم يحتمون من ذاكرة الرصاصة أكثر من الرصاصة ذاتها.
تقول راوية للجزيرة نت "أنا متوترة طيلة الوقت، لا أستوعب ما أنا فيه، أشعر أنني مرهقة دائما، حياتي انقلبت رأسا على عقب، ولا أرى فيها سوى الظلمة، بكل ما تحمله من معنى".
وتعود راوية بذاكرتها لذلك اليوم، تحمل في يدها الرصاصة التي أحالت حياتها سوادا تحدق فيها بعمى جديد، لكنها تقول دون تردد "الحمد لله أنها أصابتني أنا ولم تصب أحدا من أطفالي الذين كانوا بجواري نائمين على أرض الخيمة".
يروي الفاقدون أبصارهم أو جزءًا منها مآسيهم، لكن المدير العام لمستشفى العيون في غزة، الدكتور عبد السلام صباح، يحمل رواية أوسع وأشدّ فتكا، إذ يقول للجزيرة نت "فقدان البصر في غزة لا يرتبط فقط بشظايا الحرب، بل أيضا بغياب القدرة على العلاج".
فمنذ الشهر الأول للعدوان، استهدف الاحتلال مستشفى العيون في مدينة غزة، المركز الأهم لعلاج إصابات البصر في القطاع، حيث دمر جنود الاحتلال الأجهزة الدقيقة فيه فتوقفت الخدمات، ووجدت الكوادر الطبية نفسها بلا أدوات.
"قمنا بإعادة افتتاح المستشفى جزئيا بأدنى حد ممكن من الإمكانات، لكن لم نكن نتوقع هذا الطوفان من الحالات"، يقول صباح، متحدثًا عن آلاف المرضى الذين توقفت رعايتهم لعدة أشهر.
حتى اليوم، يقدّر صباح أن أكثر من 1500 فلسطيني فقدوا أبصارهم منذ بداية الحرب، إما بسبب إصابات مباشرة، أو نتيجة مضاعفات مزمنة كان من الممكن تداركها لو توفرت العناية.
كما يحذر من فقدان أكثر من 4 آلاف مريض آخرين أبصارهم خلال الأشهر القليلة القادمة إذا لم يتلقوا الرعاية والعلاج اللازمين، خاصة مع غيابٍ كامل لأجهزة الليزر الضرورية لعلاج الاعتلال الشبكي، والنزيف الداخلي، وضغط العين.
ولا تخوض الكوادر الطبية المتبقية في غزة حربًا ضد العمى فحسب، بل إنها تحارب الوقت والمستحيل معا، حيث ينتظر أكثر من 1200 مريض في قائمةٍ طويلةٍ التدخل الجراحي اللازم، في حين لا تمتلك المشافي مواد كافية إلا لإجراء 200 عملية جراحية فقط.
تجولت الجزيرة نت في أروقة مستشفى العيون، الذي تشيع فيها رائحة العدوان، فالدمار هنا لم يكن وليد صدفة، ولا أثر قذيفة طائشة، فقد بدا واضحًا أن الرصاص جاء بدقة، وأنه أُطلق من مسافة صفر. جهاز تلو الآخر، أُعطب بعناية فائقة، رصاص في قلب الشاشات، وفي منتصف لوحات التحكم.
يقول تامر المدني، مدير المخازن في مستشفى العيون للجزيرة نت، وهو يمرر أصابعه على حواف المعدن المعطوب "انتظرنا وصول هذه الأجهزة لسنوات طويلة، كانت بمثابة حلم، وهي باهظة الثمن، وصلت قبل الحرب بثلاثة أشهر فقط، والآن؟ لا يمكن إصلاح أي منها".
يصمت قليلًا قبل أن يتابع "هذا إتلاف مقصود، عن سبق إصرار وترصّد، ليس الهدف منه التخريب فقط، بل تحييد حياة الآلاف من الغزيين ليعيشوا في ظلام دامس دون أن نتمكن من إنقاذهم".