بعد سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، بدأ مصطلح "الفلول" ينتشر بين السوريين وفي الفضاء الإلكتروني داخل البلاد وخارجها.
برز هذا المصطلح، إلى جانب ألفاظ مشابهة، في العالم العربي عقب الانتفاضات الشعبية والثورات التي شهدتها المنطقة قبل نحو 15 عامًا، حيث استُخدم لوصف القوى المرتبطة بالأنظمة السابقة.
إلا أن استخدامه اليوم في سوريا يأخذ أبعاداً أكثر تعقيداً، إذ يُعاد توظيفه في سياق مختلف، يعكس موازين القوى الجديدة والتحولات السياسية الجارية
في مصر، ارتبط مصطلح "الفلول" بالحراك الذي أعقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حيث استُخدم للإشارة إلى المسؤولين والشخصيات العامة المنتمية للنظام السابق أو الداعمين له.
يقول الدكتور بشير عبد الفتاح، رئيس تحرير مجلة الديمقراطية والباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إن المصطلح برز بعد الحراك الجماهيري عام 2011، متأثرا بالثورة التونسية، وكان يُستخدم لوصف "العناصر المرتبطة بالنظام السابق والتي تحاول العودة إلى المشهد السياسي أو التكيف مع التغيرات الحاصلة".
ويضيف عبد الفتاح: "في البداية، كان المصطلح سياسياً، نشأ في الشارع ثم انتقل تدريجياً إلى وسائل الإعلام، حيث أصبح يُطلق على كل من كان له صلة بالنظام السابق ويسعى إلى البقاء في المشهد، محاولاً إظهار نفسه كمناصر للثورة، وكأنه رجل لكل العصور.
مع انتشار المصطلح، تبنّته جهات رسمية، حيث ورد في بيان صادر عن المجلس العسكري المصري – الذي تولى الحكم خلال المرحلة الانتقالية بعد سقوط مبارك – في أبريل/نيسان 2011، لوصف رجل أعمال مقرب من النظام السابق بأنه من "فلول الحزب الوطني".
كما استخدمته جماعة الإخوان المسلمين في خطابها عند الحديث عن الأزمات والتوترات التي شهدتها البلاد بعد الإطاحة بحسني مبارك، وخلال فترة حكم محمد مرسي، المنتمي إلى الجماعة.
وسرعان ما أصبح المصطلح جزءا من الخطاب السياسي، وأداة لإقصاء المنافسين. خلال الانتخابات التي أعقبت الثورة، كان مجرد وصف مرشح بأنه من "الفلول" كفيلاً بإضعاف فرصه، بغض النظر عن دوره الفعلي في النظام السابق.
يقول عبد الفتاح: "في الفترات الانتخابية، انتعش مصطلح 'الفلول'، وتم استخدامه كسلاح سياسي ضد كل من حاول الترشح وكان له ارتباط بالنظام السابق، سواء كان ذلك الارتباط مباشراً أو غير مباشر".
لكن مع مرور الوقت، تغيّرت الديناميكيات السياسية، وتراجع تأثير المصطلح، إذ بدأت بعض القوى السياسية تعيد النظر في تحالفاتها، خاصة مع تصاعد نفوذ التيارات الإسلامية.
مع استمرار الفراغ السياسي الناتج عن سقوط النظام، واجهت القوى الثورية صعوبة في إيجاد بدائل فاعلة لشغل المناصب السياسية والإدارية، مما دفعها إلى إعادة النظر في موقفها تجاه بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق.
ويشرح عبد الفتاح هذه التحولات قائلاً: "الفلول لم يكونوا فئة واحدة، بل يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: نخبة مركزية، وهم صناع القرار الرئيسيون في النظام السابق، ونخبة محيطية، لم يكن لهم دور مباشر في القرارات السياسية الكبرى، ولم يتورطوا في قضايا فساد أو انتهاكات جسيمة".
ومع غياب الكوادر السياسية القادرة على إدارة المرحلة الانتقالية، بدأت بعض الشخصيات المصنفة ضمن "النخبة المحيطية" في العودة إلى المشهد، وساهمت في تشكيل الحكومات الجديدة، مما أدى إلى تراجع استخدام المصطلح.
لكن المتغير الأكبر كان تصاعد الخلافات بين الإسلاميين والقوى المدنية، حيث أصبح هناك استقطاب حاد بين من يريد دولة إسلامية ومن يسعى لدولة مدنية.
في هذا السياق، وجد بعض من كانوا يُصنفون كـ"فلول" أنفسهم في موقع جديد، فانضموا إلى المعسكر المدني في مواجهة الإسلاميين.
يقول عبد الفتاح: "مع تزايد نفوذ الإسلاميين، لم يعد مفهوم الفلول تهمة بحد ذاته، بل بدأ البعض يفتخر به، حيث تحول إلى هوية جديدة مرتبطة بالدفاع عن الدولة المدنية ضد الإسلاميين".
بلغ هذا التحول ذروته في عام 2013، مع اندماج أطراف متعددة في مشهد سياسي جديد، خصوصاً مع تصاعد المعارضة لحكم الإخوان المسلمين. وفي ذلك الوقت، انتشر وسم "إحنا آسفين يا ريس"، حيث بدأ بعض المصريين ينظرون إلى فترة مبارك بشكل أكثر إيجابية مقارنة بحكم مرسي
عندما سقط نظام معمر القذافي عام 2011، لم يكن التغيير سياسياً فقط، بل امتد أيضاً إلى اللغة التي بدأت تعكس موازين القوى الجديدة.
يقول الكاتب والمسرحي الليبي منصور بوشناف في مقابلة مع بي بي سي عربي إن مصطلح "طحالب" بدأ في التداول مباشرة بعد الثورة لوصف عناصر نظام القذافي، الذي ارتبط حكمه باللون الأخضر. كان كل رمز رسمي في ليبيا في عهد القذافي يحمل هذا اللون، بدءاً من العلم وصولاً إلى الكتاب الأخضر.
ويُوضح بوشناف أن أحد الناشطين الليبيين أطلق المصطلح عبر منشور على فيسبوك، وسرعان ما انتشر ليصبح جزءاً من الخطاب السياسي السائد. ويضيف أن اختيار هذه الكلمة لم يكن عشوائياً، فهي تحمل دلالات اللزوجة والنمو في الأماكن العفنة، في إشارة إلى استمرار تأثير أنصار النظام السابق في المشهد الجديد.
بحسب بوشناف، فإن المصطلح جاء كرد فعل مباشر على وصف القذافي للمعارضين بـ"الجرذان"، حيث انقسمت ليبيا إلى معسكرين لغويين: من جهة أنصار الثورة الذين أطلقوا على خصومهم اسم "الطحالب"، ومن جهة أخرى النظام الذي استخدم "الجرذان" لوصف الثوار.
ويبدو أن العنف الذي شهدته ليبيا منذ الأيام الأولى للثورة أسهم في انتشار هذه المصطلحات، إذ كان رد القذافي على المظاهرات باستخدام السلاح، مما أدى إلى تصاعد النزاع المسلح بشكل سريع، وجعل لغة الصراع أكثر حدة.
بوشناف، الذي اعتُقل من قبل نظام معمر القذافي بسبب آرائه وكتاباته المعارضة، يشير إلى أنه ومع تصاعد الصراعات الداخلية والانقسامات بعد عام 2014، بدأت بعض الجهات في الشرق والجنوب الليبي تستعين بأفراد من النظام السابق.
لم تعد "الطحالب" مجرد تهمة، بل تحولت إلى هوية سياسية، حيث بات البعض يعتبر عودة هؤلاء جزءاً من مصالحة مع الماضي، خاصة مع شعور الليبيين بخيبة أمل تجاه نتائج الثورة.
تماماً كما حدث في مصر مع مصطلح "الفلول"، الذي كان في البداية وسيلة لعزل بقايا نظام حسني مبارك، لكنه فقد حدّته تدريجياً، شهدت ليبيا تحوّلاً مشابهاً.
يوضح بوشناف أن بعضا من تم تصنيفهم كـ"طحالب" عادوا إلى المشهد السياسي، وأصبح لديهم شرعية سياسية واجتماعية، خاصة مع تغيّر أولويات الصراع في البلاد.
اليوم، لم يعد المصطلح حاضراً كما كان في السنوات الأولى، إذ دخلت ليبيا في صراعات جديدة، وحلّ مصطلح "الأزلام" محلّه، وهو تعبير مستعار من سوريا للإشارة إلى أتباع النظام السابق.
على عكس مصر، حيث فقد مصطلح "الفلول" حدته، بدأ استخدامه في سوريا مؤخراً، لكنه جاء في سياق مختلف بعض الشيء. فرغم أن الانتفاضة الشعبية في سوريا بدأت قبل نحو 14 عاماً، إلا أن الإطاحة بالأسد لم تحدث إلا قبل أشهر، ما جعل مصطلح "الفلول" يظهر كوافد جديد على لغة السياسة والشارع في البلاد، وارتبط بشخصيات أو مجموعات كانت محسوبة على النظام السابق، خاصة في المجالين العسكري والأمني.
انتشر هذا المصطلح بكثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في الخطاب الرسمي. إذ دعا رئيس المرحلة الانتقالية في سوريا، أحمد الشرع، من وصفهم بـ"فلول النظام السابق" إلى تسليم أنفسهم وأسلحتهم قبل "فوات الأوان"، مشيراً إلى أن هذه "الفلول" سعت لاختبار سوريا الجديدة "التي يجهلونها".
وتوعد الشرع بالاستمرار في "ملاحقة فلول النظام السابق" وتقديمهم للمحاكمة، والاستمرار في حصر السلاح في يد الدولة.
كما استخدمت وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا" المصطلح في تغطيتها لتطورات الساحل السوري.
"هي كلمة أمنية تشرعن العنف"، كما تصفها الأكاديمية والباحثة السورية الدكتورة رهف الدغلي في مقابلة مع بي بي سي عربي، وتضيف: "أنا كسورية لم أسمع كلمة 'فلول' في سوريا من قبل، وأعتقد أن السوريين استعاروا هذه الكلمة من المصريين بسبب التشابه في الخلفيات الإسلامية السياسية بين من أطلقوا مصطلح 'الفلول' في مصر ومن يستعملونه اليوم في سوريا".
وتوضح الدغلي، التي تركز في أبحاثها على قضايا القومية والطائفية وبناء الهوية في سياقات الأنظمة السلطوية، مع اهتمام خاص بالشأن السوري، أن المصطلح لم يكن متداولاً في سوريا خلال السنوات الأولى من النزاع، لكنه ظهر في الساحل السوري مؤخراً مع إعادة ترتيب القوى السياسية والعسكرية.
بلهجتها السورية، تقول الدغلي لبي بي سي عربي: "أي حدا اليوم بسوريا بتقول عنه فلول، يعني حقه رصاصة"، مشيرة إلى أن "المصطلح لم يعد مجرد توصيف سياسي، بل قد يكون مرتبطاً بتبرير ممارسات عنيفة ضد بعض الفئات".
في مصر، كان يمكن لمن يُطلق عليه لقب "فلول" أن يعود للحياة السياسية، لكن في سوريا، فإن الكلمة قد تعني التصفية الجسدية، كما توضح الدغلي: "هذا المصطلح يُستخدم الآن للتعبئة ضد أي شخص كان جزءاً من النظام السابق، خاصة من حمل السلاح، لكنه يمتد أحياناً ليشمل حتى المدنيين الذين لم يندمجوا في النظام الجديد".
في السابق، كان مصطلح "الشبيحة" هو الأكثر انتشاراً لوصف المؤيدين للنظام، لكن هذا المصطلح لم يكن محدداً، وكان يشمل كل من يدعم الأسد، سواء بالكلام أو بالسلاح.
أما اليوم، فقد أصبح "الفلول" توصيفاً أكثر خطورة، يشرعن العنف ضد فئة محددة بوضوح: عسكريون سابقون في الأجهزة الأمنية مثل الفرقة الرابعة، ميليشيات كانت تقاتل إلى جانب النظام، ومدنيون محسوبون على النظام ولم يتكيفوا مع الوضع الجديد.
تقول الدغلي: "في ظل العنف الذي شهدته سوريا، فإن استخدام هذه المصطلحات بشكل غير محسوب قد يؤدي إلى موجات جديدة من القتل والانتقام".
قبل الحديث عن كيفية التعامل مع "الفلول" في سوريا، تشدد الدغلي على ضرورة ضبط المصطلحات؛ وهو لا يقل أهمية عن الحزم الأمني والعسكري، وتؤكد أن الأمرين مترابطين. فبناء العدالة لا يتم فقط من خلال عملية سياسية أو قضائية طويلة للمحاسبة، إنما أيضاً على الصعيد المصطلحي الذي يعزز بناء هوية جامعة للسوريين.
للتعامل مع هؤلاء بعدل، تعتقد الدغلي أن السوريين يجب أن يتوصلوا إلى اتفاق على من هو المجرم وكيف يجب معاقبته وما هي الجرائم التي ارتكبها. ويجب أن تكون العقوبات محقة والأحكام صادرة عن القضاء السوري. ولكن قبل ذلك، يجب مساعدة القضاء في إجراءات شفافة وعلنية من خلال لجان قضائية تراقب عملية المحاسبة.
"العدالة الانتقالية التصالحية" هي ما تراه الباحثة المختصة بالشأن السوري في ختام حديثها مع بي بي سي عربي حلاً مناسباً، معتبرة أن هذا الحل إذا ترافق مع محاسبة عادلة للمرتكبين، سيكون خطوة أولى في طريق الوصول إلى الصلح المجتمعي، وبالتالي الحفاظ على السلم الأهلي في سوريا.
رغم أن مصطلح "الفلول" تراجع في مصر مع تطور المشهد السياسي، إلا أنه بدأ يأخذ أشكالاً جديدة في سوريا، حيث يبدو أنه يستخدم ضمن سياق أمني أكثر من كونه أداة سياسية.
يؤكد عبد الفتاح أن المصطلحات السياسية تتغير وفقاً للسياقات الزمنية والمكانية، قائلاً: "في مصر، انتهى استخدام المصطلح مع إعادة تشكل التحالفات السياسية، لكن في سوريا، لا يزال في مرحلة التبلور، وقد يتغير مع تطور الوضع هناك".
تتفق الدغلي مع هذا الطرح، مشددة على أن "المصطلحات في حالات النزاع ليست مجرد كلمات، بل تصبح أدوات تعكس توازنات القوى وتُستخدم لتحديد من هو داخل المشهد ومن هو خارجه".
والسؤال اليوم: هل سيسلك مصطلح "الفلول" في سوريا نفس المسار الذي اتخذه في مصر، حيث تراجع استخدامه مع تغير موازين القوى؟ أم أنه سيستمر كأداة لتحديد الاصطفافات السياسية والأمنية في المرحلة المقبلة؟