آخر الأخبار

كيف حوّل زهران ممداني التعدد اللغوي إلى فعل سياسي فاز بنيويورك؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في فبراير/شباط 2025، أظهر استطلاع لجامعة إيمرسون أن زهران ممداني لا يحظى إلا بـ1% من نوايا التصويت. لقد كان اسمه غريباً على معظم سكان نيويورك، ووجهه غائباً عن الإعلام التقليدي، وحظوظه في سباق تزدحم فيه أسماء لامعة تبدو معدومة.

ولكن في معركته للفوز بمنصب عمدة نيويورك، لم يعتمد ممداني الأساليب التقليدية التي اعتاد عليها السياسيون الأميركيون منذ عقود. فبينما كان منافسوه يكتفون بإلقاء خطبهم بالإنجليزية، كان الشاب الأميركي الأوغندي ذو الأصول الهندية والمسلمة يبني جسوراً لغوية إلى قلب مدينة المهاجرين التي توصف بأنها من الأكثر تنوعاً في العالم.

6 لغات استخدمتها حملة ممداني خلاف الإنجليزية وهي العربية والبنغالية والهندية والأوغندية والإسبانية والأردية، وقد تحولت لخطاب سياسي نجح بمهمته في مدينة يشكل المهاجرون فيها أكثر من ثلث سكانها.

وقد حصد ممداني مليونا و16 ألفا و968 صوتاً (50.4% من الإجمالي) متغلباً على أندرو كومو الحاكم السابق لولاية نيويورك والمدعوم بأكثر من 40 مليون دولار من كبار المتبرعين والشركات الكبرى. أما حملة ممداني، التي اعتمدت على أقل من نصف هذا المبلغ الذي جُمع من صغار المتبرعين، فكان سلاحها الحقيقي برنامجا قريبا من فئات نيويورك السكانية لديه القدرة على التحدث مباشرة إلى قلوب الناس بلغاتهم الأم.

فكيف حدثت هذه القفزة الدراماتيكية؟ الإجابة لا تكمن في الإعلانات التلفزيونية الباهظة أو الملصقات الضخمة في ميدان التايمز، بل في مقاطع فيديو قصيرة بدأت تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يتحدث فيها شاب في سن 34 بلغات لم تعتد المدينة سماعها في خطاباتها السياسية.

مزيج ثقافات يشبه نيويورك

في أحد مقاطع الفيديو التي حققت ملايين المشاهدات، يظهر ممداني يشرح نظام التصويت بالترتيب التفضيلي باستخدام مثال طبق "ميشتي" وهي حلوى الزبادي البنغالية الشهيرة. وفي مقطع آخر، يتحدث بالأردية عن "تضخم أسعار الأكل الحلال" ضارباً مثالاً بـ"صحن الدجاج فوق الأرز الذي كان يُباع بـ5 دولارات، فأصبح اليوم بـ10 دولارات".

إعلان

وفي مقطع ثالث، يناقش بالإسبانية أزمة السكن مع عائلة لاتينية في واشنطن هايتس، وفي رابع يحاور بالبنغالية النائبة شهانا هانيف أول امرأة بنغالية مسلمة تُنتخب لمجلس المدينة.

ولم تكن هذه المقاطع ترجمات لنفس الرسالة فكل فيديو صُمّم ليحمل إشارات ثقافية خاصة بمجتمعه: إشارات إلى أفلام بوليود مع الجاليات الهندية، ومصطلحات دينية إسلامية مع المجتمعات العربية والباكستانية، والحديث عن أوضاع عمال التوصيل مع المهاجرين اللاتينيين. وكان ممداني يفهم أن نيويورك ليست مدينة واحدة، بل عشرات المدن الموازية، لكل منها لغتها وهمومها وطريقتها في فهم العالم، كما تقول الصحفية المقيمة بنيويورك جوانا إنسكو في مقالها بالإنجليزية.

وتشير تقديرات حكومة ولاية نيويورك إلى أن أكثر من 800 لغة تُتحدث في المدينة، وأن حوالي 2.5 مليون نسمة (قرابة ثلث السكان) يواجهون صعوبات في التواصل بالإنجليزية بطلاقة كاملة. ولعقود، ظلّت هذه الملايين على هامش العملية السياسية، لا لأنهم لا يهتمون، بل لأن أحداً لم يتحدث إليهم بطريقة يفهمونها حقاً.

مصدر الصورة ممداني في زيارة للمركز الإسلامي لمنطقة البحر الكاريبي في سان خوان في بورتوريكو (الأوروبية)

وقد فهم ممداني هذه المعادلة باكراً. ويقول في أحد تصريحاته "معظم الحملات تركز على "الناخبين الدائمين" أولئك الذين شاركوا في الانتخابات التمهيدية الثلاثة الأخيرة. لكن هذا النهج يتجاهل جزءاً كبيراً من مدينتنا. أدركنا أننا نستطيع الوصول إليهم إذا تماهوا مع سياساتنا" لكن هذا التماهي لا يحدث عبر الترجمة الآلية أو المترجمين الفوريين، بل عبر التواصل المباشر الذي يحمل نكهة الثقافة واللغة الأصلية.

ولطالما صاغت أميركا نفسها بأسطورة "بوتقة الانصهار" تلك الفكرة الرومانسية التي تقول إن المهاجرين من كل الثقافات يذوبون في هوية أميركية واحدة، متخلّين عن لغاتهم وتقاليدهم في سبيل الاندماج، لكن حملة ممداني كانت إعلاناً صريحاً بأن هذه الأسطورة لم تعد صالحة، حتى وإن كانت يوماً كذلك.

وفي أحد لقاءاته الإعلامية، قال ممداني بوضوح "أجرينا حملة تهدف إلى الوصول إلى كل سكان نيويورك، سواء كنتُ أجيد لغتهم أو كنتُ أبذل جهداً للتواصل معهم. التحالف الذي ظهر يعكس تنوع هذه الأحياء الخمسة". ولم يطلب من الناس أن يتخلوا عن لغاتهم، بل أكّد لهم أن لغاتهم جزء أساسي من هويتهم الأميركية، وأن الديمقراطية تصبح أعمق حين تتحدث بكل هذه الألسنة.

لكن لم تكن اللغة وحدها سبب النجاح، كما يؤكد مونشي بالقول "المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي كان ممتعاً ومنتجاً بشكل جيد ومشوّقاً، لكن الأهم كان مضمونه. لقد منحَنا موضوعاً للنقاش تجاوز ممداني كشخص أو حملته كحدث، وأيقظ وعياً جماعياً".

وأصبح ممداني، الشاب الأوغندي الهندي المولد، المسلم الديانة، أول مسلم يتولى منصب عمدة نيويورك، وأول أميركي من أصول جنوب آسيوية وأوغندية، وأصغر عمدة في تاريخ المدينة الحديث، وثاني اشتراكي ديمقراطي بعد ديفيد دينكنز، وسابع عمدة مهاجر منذ بدء انتخاب العمد بالتصويت الشعبي عام 1834.

مصدر الصورة ميرا ناير رفقة ابنها زهران ممداني عام 2016 (شترستوك)

شغف ممداني باللغات

لكن شغفه باللغات يعود لحقبة سابقة من حياته، ففي صيف 2013، وصل زهران ممداني، الشاب الأوغندي الهندي المقيم في أميركا إلى القاهرة بهدف تعلم العربية، وللمصادفة فقد ارتبطت رحلته مع اللغة بتحولات سياسية قاسية، فلقد وصل قبل 11 يوما من اندلاع الاحتجاجات الشعبية الساعية لعزل الرئيس الراحل محمد مرسي.

إعلان

يُذكر ممداني أنه درس في برنامج العربية في جامعة ميدلبري. ولقد رشح له أحد الأصدقاء إكمال تعلمه للغة في معهد لغات بالقاهرة، فأخذ بنصيحته، والتحق بدورة مكثفة لمدة 6 أسابيع.

وفي مذكراته المنشورة بعنوان "ملتح في القاهرة" في صحيفة جامعته "بودوين أورينت" يحكي ممداني عن تجربته في اكتشاف كيف أمكنه أن يتعامل بالقاهرة. وكأي أجنبي يريد أن يتعلم العربية، فقد حاول أن يختلط بالناس ويتحدث معهم بما تعلمه، يمشي بين الناس محاولا التقاط طرف حديث من أحدهم بكل شغف، لكنه سرعان ما أدرك أنه أشبه بشخصية شكسبيرية تتجول في لندن في القرن الـ21، كما يصف.

وقد فهم ممداني أن هناك نوعين من اللغة العربية، فيقول "في مصر، كما في أي بلد عربي آخر، يتحدث الناس لهجة محلية من العربية تُعرف بالعامية. وهما لغتان، وإن كانتا مرتبطتين بوضوح، إلا أنهما مختلفتان اختلافا ملحوظا".

وكرجل أسمر، شعره أسود، ويحمل اسم مسلم، استقبله الناس بلا مبالاة وهو يسير في الشارع، فقد كان يشبه أغلبية المصرين، في شكلهم ومظهرهم وملابسهم.

الأمر الذي جعله يشعر أنه وصل إلى مجتمع آخر تميزه الامتيازات، ولكن بلون مختلف، فقد لاحظ ممداني مفهوم "النفوذ الاجتماعي" ولكنه قد تغير لونه، أي أنه لم يعد كما عرفه في الغرب، حيث الامتياز "للرجل الأبيض المسيحي" بل أصبح بلون بشرة واسم يشبهه هو نفسه.

وقد شعر أنه يشبه الأغلبية وليس الأقلية للمرة الأولى، وأنه ينتمي بصريا وثقافيا للمجتمع الذي يحيطه مما سهل عليه الحركة واكتشاف المجتمع من حوله دون أن ينظر له على أنه دخيل أو أجنبي، وسمح له كذلك أن يعيش تجربة جديدة من الانتماء والقبول لم يكن يشعر بها في المجتمع الغربي الذي مثل له تجربة التهميش أو الغربة.

مصدر الصورة ممداني يتأمل في مقاله "رمزية اللحية" في المجتمعات (أسوشيتد برس)

ويتأمل ممداني في مقاله "رمزية اللحية" في المجتمعات، وكيف أنها تظل محمله بصور نمطية وأحكام جاهزة أينما وجدت. ففي الولايات المتحدة قد تثير اتهاما ضمنيا بالإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، خصوصا إذا اجتمعت مع عناصر أخرى مثل "مسلم، بني البشرة". أما بالقاهرة، فلها معنى آخر، فتشير اللحية إلى تصنيف سياسي. ويقول إن بعض الأشخاص ظنوه ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين، فقط بسبب لحيته.

ويعبر عن دهشته من عالمية الأحكام المسبقة، فبينما كان يحاول أن يتحدى الصورة النمطية الأميركية، وجد نفسه أمام صور نمطية مختلفة ولكن في العالم العربي.

ويصف ممداني تجربته التي عايشها في ميدان التحرير كـ"عالم من النشوة" والجاذبية الجماهيرية، تلك النشوة التي تولدها الحرية المفاجئة حين يتمكن البسطاء من إسماع أصواتهم بعد حالة من التهميش ويقول "أولئك الذين لم يكن لهم رأي يذكر في توجهات المجتمع، منحوا على الفور فرصة التعبير عن آرائهم".

وانتقد في مقاله النفاق السياسي الأميركي والغربي من الربيع العربي، ولم تدم تجربته بالقاهرة طويلا فقد قلق والداه عليه وألحا بعودته لأوغندا، فرحل ثم أصر على العودة في مناسبة أخرى، وربما كانت تلك التجربة غير المكتملة من تعلم العربية بالقاهرة سببا في لهجته العربية العامية التي مزجت مفردات مصرية وشامية معا.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار