آخر الأخبار

النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة

شارك

غزة- يعيد الأدب الغزي، في ظل الإبادة المستمرة منذ عامين، حضوره كصرخة إنسانية شاملة، وكأدب نزوح وموت يومي، وأدب رمزي يتجاوز حدود الزمان والمكان. وفي كل ذلك، يبقى النص الأدبي الغزي وثيقة حية تصر على تثبيت الحكاية الفلسطينية في وجه المحو والنسيان.

فلم تعد النصوص الشعرية والكتابات الأدبية تصاغ من بين الورود والأغصان، ولا من شرفات المنازل وإطلالاتها الخلابة، بل أصبحت تسرد من بين الخيام وفوق الركام، ومن تفاصيل الحرب والدمار والموت والفقر والغلاء.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 المترجم يحيى مختار: رحلة أكثر من 30 كتابًا للأدب الصيني بنبض عربي
* list 2 of 2 تأثير الدومينو في رواية "فْراري" للسورية ريم بزال end of list

ومع بروز معاناة النزوح المتكرر، وما لازمه من مآسٍ في التنقل والسير لمسافات طويلة تحت القصف، والبحث عن مأوى وماء وغذاء، والنوم في المدارس أو الشوارع، يطل الوجه الإنساني العاري عبر السرد الذي يضيء تفاصيل الحياة اليومية في النزوح.

وفي ظل التدمير واسع النطاق في غزة، والتشرد المستمر، يصبح الأدب مساحة للألم والمعاناة الفردية والجماعية، ووسيلة لتثبيت البقاء في مواجهة الاقتلاع.

مصدر الصورة يسري الغول يقول في كتابه "نزحت تحت ألم الفاجعة من مدينتي التي تشبه العنقاء" (الجزيرة)

بين النزوح والمكان الغائب

يصف يسري الغول، وهو كاتب وقاص، معاناته مع النزوح قائلا للجزيرة نت: "نعيش في حاضر مأزوم بين خيمة أو مدرسة مؤقتة، وبين حلم مستمر بالعودة إلى البيت المفقود. هذا التوتر يولد نصوصا وكتابات تمزج بين الحنين إلى المكان والوعي المرير باستحالة استعادته قريبا".

"في قصصنا وكتاباتنا التوثيقية، نروي حكايات مشتركة عن رحلة البحث عن مكان آمن، والتضامن بين العائلات، والمواقف الإنسانية البسيطة وسط الخراب. هذه الحكايات تربط تجاربنا الأدبية الفردية بخيط واحد من المعاناة والأمل".

وأضاف: "كانت مفرداتنا السابقة تتحدث عن مفتاح البيت، الشجرة، وثيقة الطابو، والطريق، والبحر كرموز للعودة. أما اليوم، فقد برزت صور جديدة لمفرداتنا: النزوح، الخيمة، الأنقاض، الجثث تحت الركام، والهاتف الذي ينقل النداء الأخير".

إعلان

وفي شهاداته التي صدرت ضمن يوميات "نزوح نحو الشمال: سيرة الجوع والوجع"، يوثق الغول ألم النزوح قائلا: "عزيزي القارئ، أدعوك أن تذهب نحو النافذة أو الشرفة، تأمل البيوت الملاصقة لبيتك، الشوارع بأزقتها وتفرعاتها، الأشجار الباسقة، أعمدة الإنارة، الإشارات الضوئية، خط المشاة، الإعلانات، السيارات.. ركز جيدا في تفاصيل الأشياء هناك، ثم عد إلى شقتك/غرفتك، وأعط عينيك فرصة للتأمل.. وقبل كل أشيائك كأنك تراها للمرة الأخيرة".

مصدر الصورة عبد الله تايه: النزوح مرارة في الحلق لا تزول، ووجع في الذاكرة لا تمحوه السنين (الجزيرة)

وجع في الحلق والذاكرة

وكتب الأديب والروائي عبد الله تايه في وصف رحلته مع النزوح إلى الجنوب: "لعدة أيام لم أوفق في العثور على عربة تنقلني مع أسرتي، وحين وجدنا عربة خرجنا يوم الأحد الساعة العاشرة مساء لنصل يوم الاثنين مساء. 24 ساعة في طريق طوله 20 كيلومترا، يزدحم بكل خلق الله والعربات على اختلاف أشكالها وأحجامها، كأن القيامة قد قامت. شمس تحرق وجوهنا، وغصة تملأ النفس والروح. ولم نجد ما أشاعه الإعلام من توفر الخيام والماء والدواء والغذاء، بل وجدنا من تفضل علينا بضمنا إلى عائلته".

وأضاف: "النزوح مرارة في الحلق لا تزول، ووجع في الذاكرة لا تمحوه السنين، ونقمة تلاحق كل الأزقة والشوارع والنفوس من الأبرياء. إن رحلتنا الأخيرة في النزوح لن يمحوها أي نهر مقدس، ولا أية خيمة من ذهب".

وقال للجزيرة نت: "إن كتاباتنا التي كانت حول الحياة والحرية والسلام، لم توفر لنا حطبا لإنضاج طعام أطفالنا، ولا خيمة تسترنا من قسوة الشمس. سيمضي العمر كيفما اتفق، لكن كل نزوح هو بناء جدار للكراهية، ونحن لم نعتد في كتاباتنا على الكراهية ولا نحترمها، لأننا حضاريون نبحث عن الحياة والأمل".

مصدر الصورة أعمال الكاتب الساخر "أكرم الصوراني" (الجزيرة)

اقتلاع وجودي ونزوح للروح

"لقد فقدت نسختي القديمة من نفسي، تركت أكرم الصوراني في غزة، وبعد نزوح سابع إلى دير البلح حصلت على النسخة الجديدة مني: أكرم الديراوي". بهذه الكلمات المفعمة بالمرارة، يفتتح الكاتب الفلسطيني الساخر أكرم الصوراني شهادته عن النزوح في الحرب المستمرة، كاشفا للجزيرة نت كيف تحول النزوح من مجرد انتقال جغرافي إلى اقتلاع وجودي، ومن تجربة جماعية إلى جرح فردي.

وقال: "قبل الحرب كنت أظن أنني متخم بالهموم والمشاكل، لكنني اكتشفت بعد الحرب أنني كنت أكثر سعادة وراحة وطمأنينة. في الحرب فقط أدركت معنى راحة البال ومعنى قهر الرجال".

وفي أحد نصوصه الساخرة كتب: "شويت للأولاد نصف كيلو عزة، وسلقنا بضع حبات كرامة، وتحلينا بالصبر والصمود. الغريب أننا نمنا جميعا جائعين ولم يشبع أحد. يبدو أن أعراض حمى النزوح ستلازمنا العمر كله، ويبدو أن هذا الوقت هو آخر عهدنا بالبيت.. هي إذن قيامة النزوح، أو هو إذن نزوح الروح".

وفي لحظة وداع قاسية كتب: "انهارت أماني، وبدأنا ندرك جميعا أن كل شيء ينهار حتى طال روح الدار. صارحتني وهي تبلع دموعها: بنفع أطلب منك آخر طلب؟ بعد ما تنزل الأغراض خليني أظل شوي، حابة أمشي في البيت وأشبع منه لآخر مرة". إنها ليلة وداع موجعة للزمان والمكان، لذاكرة الحارة، وأصوات الجيران، وقطع الذكريات المتناثرة على الجدران.

إعلان

الصوراني، وهو واحد من آلاف النازحين، يكتب بلغة مشبعة بالمفارقات بين "نصف كيلو عزة" و"حبة كرامة"، وبين "أشبع منه لآخر مرة"، ليحول المأساة إلى نص أدبي ساخر وموجع يختزل معنى الفقدان والانكسار، بل معنى "نزوح الروح" كما يسميه.

مصدر الصورة شجاع الصفدي: نازح وصفٌ ثقيل على القلب، يطحن رغبة المرء في الحياة (مواقع التواصل)

أقل من خيمة وأكثر من خيبة

ودون الكاتب والشاعر شجاع الصفدي من خلال نصوصه مأساته مع النزوح: "في صندوق الشاحنة، وبين أكوام من الأكياس وما يشبه الحقائب، يقبع الكاتب شاردا. كان لديه بعض الوقت ليجمع ما تيسر من أشيائه الضرورية وبعض الكتب، ثم يرحل تاركا بيت العمر بكل ما فيه من تفاصيل".

"هنا تنتظرك أقل من خيمة، وأكثر من خيبة. تنظر حولك وكأنك أمام لوحة سوريالية تجسد المأساة؛ كل شيء جامد. ينشغل الرجال بمطارقهم، يدكون الأرض بأوتاد خيامهم، والنساء يتفقدن المكان الغامض، يملؤهن القلق من ليل يأتي في العراء، وبعضهن يجلسن في زاوية مظلمة يبكين قهرهن وخساراتهن الفادحة".

وقال للجزيرة نت: "لطالما كان وصف (لاجئ) مؤذيا للنفس منذ نكبة 48، وقد استجد لنا لقب (نازح)، وصف ثقيل على القلب، يطحن رغبة المرء في الحياة. يتعامل الغزيون معه كأنه وصمة دامية على أرواحهم، هؤلاء الذين كانت لهم بيوت عامرة بالدفء والحب والخير، لاحقتهم وصمة النزوح بعد أن فقدوا كل شيء: بيوتهم وممتلكاتهم وأعمالهم. لم تترك آلة البطش شيئا إلا ونالت منه".

وأضاف: "ماذا يعني الوصول بعد الرحيل من غزة مجبرا نحو الجنوب؟ هذا ما يدور في ذهن المرء طوال الطريق التي تستغرق ساعات طوال، بينما في الوضع الطبيعي، قبل المقتلة، يمكن قطعها خلال ربع ساعة على الأكثر".

"كل شيء في الخيمة بلا غد. أنت عار تماما أمام عوامل الطبيعة والزمن، وما تكتبه لتصف البداية يتلاشى كلما غرست في قلبك أوتاد خيمتك الحادة. إنك تحمل مطرقة وأوتادا تغرزها في قلبك، وبينما تنتظر الصباح لتنشغل بمختلف أنواع الشقاء، تداوي الكمد بالذكريات، وتحدث الهواء: هل تذكر حين كان لنا بيت؟".

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار