آخر الأخبار

تاريخ الحواس يكشف المنسي من روما القديمة.. الروائح الكريهة لعاصمة إمبراطورية

شارك

حين نستحضر روما القديمة، غالبا ما تطفو على سطح خيالنا مشاهد العظمة الصاخبة، مثل هدير الحشود في مدرج الكولوسيوم، صخب المنتدى الروماني، المعابد الشامخة، وجحافل الجيش الروماني بدروعها البراقة. إنها صورة مرئية ومسموعة بامتياز. ولكن ماذا عن حاسة الشم؟ كيف كانت رائحة روما القديمة هل كانت بنفس البهاء البصري؟

هذا هو السؤال الذي يسعى للإجابة عنه حقل بحثي متنامٍ يُعرف بتاريخ الحواس، والذي يحاول إعادة بناء العوالم المفقودة للماضي عبر كل أبعاد التجربة الإنسانية. وبحسب توماس جيه ديريك، زميل الأبحاث في جامعة ماكواري الأسترالية، فإن الإجابة الصادمة والمباشرة هي: "بصراحة، كانت رائحة روما كريهة في كثير من الأحيان".

في مقاله المنشور على منصة "ذا كونفيرذيشن"، يأخذنا ديريك في رحلة شمّية عبر الزمن، مستعينا بالنصوص الأدبية، والبقايا الأثرية، والأدلة البيئية، ليكشف عن المشهد العطري الصاخب لـ"المدينة الخالدة".

مصدر الصورة منظر جوي لمبان سكنية ضيقة ومتلاصقة تُعرف بـ"الإنسولا" (Insulae) في روما القديمة (الجزيرة)

مزيج خانق من الحياة والنفايات

لفهم رائحة أي مدينة قديمة، يجب أن نبدأ من شوارعها. كانت روما مدينة مكتظة، حيث عاش مئات الآلاف من سكانها في مبانٍ سكنية ضيقة ومتلاصقة تُعرف بـ"الإنسولا" (Insulae)، والتي كانت تفتقر في معظمها إلى التهوية وأنظمة الصرف الصحي المناسبة.

وكانت شبكة الصرف الصحي الرومانية الشهيرة، وعلى رأسها "الكلوكا ماكسيما" (Cloaca Maxima)، أشبه بنظام ضخم لتصريف مياه الأمطار والمياه الراكدة من الساحات العامة، ولم تكن مرتبطة بشكل مباشر بمراحيض معظم المنازل. ويوضح ديريك أن أصحاب العقارات كانوا يتجنبون ربط مراحيضهم بالشبكة العامة، ربما خوفا من تسلل القوارض أو ارتداد الروائح الكريهة إلى منازلهم.

لذلك، كانت "قصرية الغرفة" (Chamber pots) وحفر الامتصاص هي الحل الأكثر شيوعا. وكان هناك محترفون متخصصون يجمعون البراز من المراحيض العامة والخاصة لاستخدامه كسماد للأراضي الزراعية، بينما كان البول سلعة ثمينة تُجمع لمعالجة الأقمشة وتبييضها في ورش الصباغة.

إعلان

ولم تقتصر الروائح على النفايات البشرية. بل كانت المدينة أيضا تعج بالحيوانات؛ فالمخابز الرومانية كانت تستخدم طواحين حجرية ضخمة تديرها البغال والحمير. كما كانت قطعان الماشية تُساق عبر الشوارع إلى الأسواق أو المسالخ. هذا المزيج من الحيوانات ونفاياتها كان يغطي أرضيات الشوارع، وهو ما يفسر وجود "أحجار العبور" الكبيرة التي لا تزال تُرى في شوارع بومبي اليوم، والتي كانت تسمح للمشاة بعبور الشوارع دون أن تطأ أقدامهم القذارة.

مصدر الصورة لم يكن الصابون يُستخدم بشكل شائع للنظافة الشخصية، بل كان يُفضل زيت الزيتون الذي يُدهن به الجسد ثم يُكشط باستخدام أداة برونزية مقوسة تُعرف بـ"المكشطة" (شترستوك)

رائحة الموت والجسد

لم يكن التخلص من الجثث، سواء كانت حيوانية أو بشرية، يتم دائما بطريقة منظمة. فاعتمادا على الطبقة الاجتماعية للمتوفى، كان من الشائع ترك الجثث في العراء لتتحلل دون حرق أو دفن لائق، مما يجعل رائحة التحلل جزءا من المشهد اليومي. وفي حادثة شهيرة، يروي المؤرخ سويتونيوس كيف اقتحم كلب مائدة طعام الإمبراطور فسبازيان وهو يحمل في فمه يدا بشرية مقطوعة.

وفي عالم يخلو من منتجات النظافة المعطرة الحديثة، كانت رائحة الجسد البشري طاغية. صحيح أن الأدب الكلاسيكي يحتوي على وصفات لمعاجين الأسنان ومزيلات العرق، لكن العديد من هذه المزيلات كانت تُستخدم عن طريق الفم (بالمضغ أو البلع) لمنع رائحة الإبطين، مثل وصفة لغلي جذر الشوك الذهبي في النبيذ لتحفيز التبول، الذي كان يُعتقد أنه يطرد الرائحة من الجسم.

حتى الحمامات الرومانية العامة، التي تبدو لنا اليوم مثالا على الرفاهية، لم تكن بالضرورة صحية. لم يكن الصابون يُستخدم بشكل شائع للنظافة الشخصية، بل كان يُفضل زيت الزيتون الذي يُدهن به الجسد ثم يُكشط باستخدام أداة برونزية مقوسة تُعرف بـ"المكشطة" (strigil). هذا الخليط من الزيت والعرق والأوساخ كان يُلقى على الأرض أو الجدران، وبما أن الزيت لا يختلط بالماء، فمن المرجح أن أرضيات الحمامات كانت قذرة ولزجة.

مصدر الصورة زجاجات عطر رومانية قديمة من الزجاج المنفوخ تم العثور عليها في قبرص (شترستوك)

عطور الأباطرة

في مقابل هذه الروائح الكريهة، كانت روما أيضا مركزا عالميا للعطور الفاخرة والبخور. ساهم اختراع نفخ الزجاج في أواخر القرن الأول قبل الميلاد في جعل قوارير العطور الزجاجية متاحة بسهولة، وهي اليوم من أكثر المكتشفات الأثرية شيوعا.

وكانت العطور تُصنع بنقع الدهون الحيوانية والزيوت النباتية بروائح الورد، والقرفة، والسوسن، واللبان، والزعفران. وقد حظيت ورود "بايستوم" في جنوب إيطاليا بتقدير خاص، حتى إنه تم التنقيب عن متجر للعطور في المنتدى الروماني لهذه المدينة.

وبفضل القوة التجارية الهائلة للإمبراطورية، كانت التوابل والعطور تصل من أقاصي الأرض، من الهند والمناطق المحيطة بها، وتُخزن في مستودعات ضخمة في قلب روما. وفي مقال حديث نُشر في "مجلة أكسفورد لعلم الآثار"، كتبت الباحثة سيسيلي برونس أن التماثيل القديمة، خاصة تماثيل الآلهة، كانت تُمسح بالزيوت العطرية وتُزين بالأكاليل كجزء من طقوس العبادة.

مصدر الصورة الرومان لم تكن لديهم نفس الحساسية الحديثة تجاه الروائح التي نعتبرها اليوم "كريهة" (شترستوك)

عالم شمي مختلف

كانت المدينة القديمة تفوح بمزيج من النفايات البشرية، ودخان الخشب، والعفن والتحلل، ولحم الجثث المحروقة، وروائح الطهي النفاذة، إلى جانب العطور الغالية والبخور الثمين. قد يبدو هذا المشهد مروعا لنا اليوم، لكن يبدو أن الرومان لم يشتكوا كثيرا.

وكما يقترح المؤرخ نيفيل مورلي، ربما كانت هذه الروائح بالنسبة لهم هي رائحة الوطن، وضجيج الحياة، بل وذروة الحضارة. لقد كانوا يعيشون في عالم شمي مختلف، حيث لم تكن لديهم نفس الحساسية الحديثة تجاه الروائح التي نعتبرها اليوم "كريهة". لفهم روما القديمة، علينا أن نتجاوز ما نراه، وأن نحاول أن نشم ما كانت عليه حقا: مدينة صاخبة، حية، وقذرة ورائعة في آن واحد.

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار