درج العلماء والمحققون من سدنة اللغة والأدب على التعامل مع "الشاهد النحوي" من خلال الوقوف عند "محلِّه"، فإن هم تجاوزوا تلك النقطة لم تخرج بهم أودية البسط والاستطراد عن حدود "النص"؛ تخريجا، أو عزوا، أو شرحا، أو تحقيقا، أو جمعا، في حيز التبويب ومجال التأليف.
ويعرف "الشاهد" بأنه: الدليل الذي يعتمد عليه في الأخذ بقاعدة ما – وإثباتها – ورفض أخرى، أو هو: الدليل الذي يعتمد عليه اللغوي في قبول ظاهرة صوتية، أو صرفية، أو نحوية، أو دلالية، ورفض ظاهرة أخرى وعدم إقرارها.
ومن التعريفين يتضح أن دور "الشواهد النحوية" الركين هو التأصيل للقواعد اللغوية التي بنيت عليها العربية. وربما جر ذيل الشاهد النحوي معنى مستملحا، أو ساق معلومة ثقافية مباشرة، أو حمل إمتاعا ومؤانسة، أو هدى إلى خيط إحالة أدبي يسفر عنه البيت التالي حين تسلط عليه أضواء الشرح السياقي، أو يجليه الشطر المجاور الخارج عن "محل الشاهد"!
وقد اعتمد النحاة القدماء ثلاثة مصادر أساسية استقوا منها الشواهد واعتمدوا عليها في تقرير القواعد والأحكام الصرفية والنحوية، وهي – على التوالي، حسب القوة والصحة، لا وفق الإجماع والترتيب المدرسي النحوي:
وعلى آثار النحويين سار اللغويون والمعجميون في اعتماد "شواهد النحو" أدلة إثبات لإقرار الألفاظ اللغوية والأخذ بها. وقد أرست العناية بجمع الشواهد النحوية على شواطئ التصنيف المعجمي؛ من خلال جمع وترتيب الشواهد الشعرية المتداولة في كتب النحو وشروحها ومراجع اللغة العربية.
على أن صاحبنا الدكتور تياه الحسن تعامل مع شواهد النحو التراثية من زاوية عصرية مختلفة، من خلال "إسقاطها" على أحداث ومستجدات الساحة العالمية: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، ورياضيا، وذلك عبر حسابه على فضاء التواصل الاجتماعي (من خلال منشورات منجّمة على الفيسبوك).
فأودع الشاهد النحوي والإسقاط التنزيلي متن "التدوينة"، وأثبت التخريج والشرح في هامش "التعليق" تحتها.
وقد حدثني الدكتور تياه – في لقاء تحضيري بين يدي هذه السطور – أن فكرة تنزيل الشواهد النحوية على المشهد العام العالمي عموما والمحلي الوطني خصوصا جاءت عرضا، خبط مزاج، من غير برمجة ولا منهاج. ولعل من أعراض تلك "المزاجية" اضطراب نشر الشواهد، وغياب انتظامها تحت خط دورية منضبط، ثم انقطاعها وتوقفها عند الشاهد رقم 1160 (حتى كتابة هذه المادة).
وقد كتب تياه أول شواهده الإسقاطية يوم 2011/9/7م (إبان الثورة الليبية)، من وحي صورة للزعيم الراحل معمر القذافي، بدا فيها العقيد وهو ينظر شزرا، في مشهد استحضر بين يديه تياه الشاهد النحوي رقم 1:
يقلب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينا له حولاءَ بادٍ عيوبها
اكتفى حينها بوضع "صورة تخدم البيت"، قبل أن يلتمس منه أحد المعلقين تخريج البيت وعزوه وتحديد "محل الشاهد" فيه، فاستجاب لالتماسه، واعتمدها في قادم الشواهد الإسقاطية: أن يورد الشاهد النحوي (الشعري غالبا)، ويربطه بسياق الاستحضار من خلال تعليق تتنازعه – عادة – ثنائية الطرافة والمفارقة، تبعا للموجب والإطار.
وكذلك فعل مع آخر شواهده، الذي علق به على خبر الإفراج عن الأسيرة الفلسطينية خالدة جرّار – في صفقة تبادل الأسرى (طوفان الأحرار) – مستحضرا الشاهد النحوي:
فردّ شُعورهنّ السّود بيضا
وردّ وجوههن البيض سودا
في إشارة إلى ما فعلته سجون الاحتلال "الإسرائيلي" بالمناضلة الفلسطينية المحررة، مقابل ما فعله الحدَثان بنِسوة آل حَرب بن أمية بن عبد شمس. مرفقا صورتين لخالدة: أولاهما في بداية الأسر، وثانيتهما عند لحظة استقبالها الشعبي مسرّحة، وقد طابقت الصورتان وجه التحول في البيت.
على سنن المصنفين الأوائل، كانت للدكتور تياه "مصطلحات" مطردة اعتمدها مع تقدم سلسلة شواهده، واتجاهها نحو النشر المواكب لأحداث الساحة السياسية الدولية.
فكانت له تسميات ابتدعها لصناع القرار في واشنطن وموسكو وبيونغ يانغ ولندن. فأطلق وصف "الأغم" على الرئيس الأمريكي السابق/الحالي دونالد ترمب، وأطلق "الأنزع" (والأجلح) على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و"الأقزع" على رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون. وهي أوصاف أقامها الدكتور تياه مقام أسماء العلم الشخصي، وقد استوحاها من امتداد الشعر وانحساره وعدم تسويته في القص، كما هي حال الرؤساء الثلاثة.
ولما تولى بوريس جونسون رئاسة الوزراء في بريطانيا اشتق له اسما من صفة شعر رأسه، فكان يلقبه "الأشعث"، وأجراها له مجرى الاسم!
ولعل من تمام الفائدة التوقف عند تلك التسميات في معناها المعجمي:
وكنت قد استأذنت الأستاذ الدكتور -منذ بضع سنين- في إخراج "شواهده الإسقاطية" في قالب فني يجمع بين المقطع الفيديوي والصوت القرائي. فلما أذن لي انتقيت منها متفرقات أغلبها كتبه مواكبة لأحداث ومواقف من المشهد السياسي العالمي والإقليمي والمحلي. وقد تقبل حضرة الدكتور عملي الإخراجي -في أوانه- وسماه "حشو اللوزينج"، وحرر "شهادة تزكية" ذكر فيها -عفا الله عنه- أن ما قمت به من إخراج وقراءة (يجعل المادة أهم وأجمل من أصل المنشورات). ثم استدرك -في إمتاع ومؤانسة- فاستطرد أن "حشو اللوزينج" يضرب مثلا للشيء يكون حشوه أجود من قشره وأفضل؛ وذلك أن حشو اللوزينج خير منه، فيشبه به الحشو في الكلام يستغني عنه وهو أحسن منه. وساق أمثلة شعرية من التراث الأدبي العربي.
ولقد ذهب بي وقع ثنائه كل مذهب؛ إحساسا بالإنجاز، ولولا أن تذكرت أن الفرع بعض حسنات الأصل، لأخذتني الحميا بالغرور، ولكنه تواضع الأستاذ لتلميذه، وتشجيعه إياه في ثوب اعتراف وقالب إجازة!
رغم استئثار "الحدث السياسي" وما تحته من مواقف وتداعيات بالنصيب الأوفى، تنوعت مواضيع و"مجالات" شواهد تياه الإسقاطية، بين النوادر الثقافية، والشوارد الاجتماعية، والاقتصادية، والرياضية، والفوائد العامة. فما هو إلا أن تتفاعل الصورة -أو المشهد- في واعيته حتى تنقدح في ذهنه إشارة الاستحضار، ليجيل خاطر الربط والإسقاط، فينقل وحي ذلك التفاعل في ساعة استجابة غير مقيدة بتوقيت معين، ولا دورية ثابتة، ولا موضوع ناظم.
ومن ذلك ما أقامته في ذهنه صورة لحركة بهلوانية، في عرض لألعاب القوى، ضمن أولمبياد رياضي عالمي، فأوحى إليه المنظر "العجائبي" بالشاهد النحوي رقم 757:
لئن كان من جنّ لأبرح طارقا * وإن يك إنسا ما كها الإنس تَفعل!
"تقول الموسوعة الحرة ويكيبيديا: الألعاب الأولمبية -أو الأولمبياد- حدث رياضي دولي يشمل الألعاب الرياضية الصيفية والشتوية، يشارك فيه الرياضيون من كلا الجنسين في المنافسات المختلفة ويمثلون دولا مختلفة. أقول -ولا قول لي-: بعض هذه الألعاب التي يشارك فيها الرياضيون من كلا الجنسين تستلزم حركات وملابس خارجة عن المألوف بشريا…"
ثم انتقل إلى خانة "التعليق"، فكتب عازيا وشارحا ومحيلا، هذا البيت للشنفرى الأزدي، من قصيدته المشهورة التي تقدم ذكرها وذكر قائلها في شواهد سابقة من هذه السلسلة؛ وقبله:
فلم يك إلا نبأة ثم هومت * فقلنا: قطاة ريع أم ريع أجدل؟!
وهو من شواهد التوشيح، وخزانة الأدب، وهمع الهوامع، وأوضح المسالك… الشاهد فيه قوله: "ما كها" حيث دخلت الكاف على الضمير، وهو شاذ.
وما رووا من نحو "رُبَّه فتى" نَزْر، كذا "كها" ونحوه أتى] ا.هـ
وإنما أثبتُّ التعليق هنا لأسقطه في النماذج التالية، اكتفاء به، في سياق عرض طريقة صاحب الشواهد الإسقاطية في "التخريج" والإحالة.
وربما استوقفه الموقف الطريف، فساق له شاهدا نحويا؛ كما حدث مع إشاعة وفاة الرئيس النيجيري السابق محمد بخاري، واستقدام شخص يشبهه للإيهام بأنه ما زال على قيد الحياة، فأنشأ تياه شاهد النحو رقم 1022:
رُبّ مَن أنضجت غيظا قلبَه * قد تمنى لي موتا لم يُطَع
الرئيس النيجيري محمد بخاري نافيا مزاعم المعارضة في بلاده التي قالت إنه توفي، وإن سودانيا شبيها به حل محله.
بخاري قال: "من ترونه أنا بشحمي ولحمي، وسأحتفل قريبا بعيد ميلادي السادس والسبعين، وسأظل قويا"، وأضاف: "الكثير من الناس كانوا يتمنون موتي أثناء تدهور حالتي الصحية، وسيزدادون غضبا لأني سأترشح للانتخابات القادمة في فبراير/شباط المقبل".
وقد ينقدح في ذهنه الشاهد فيورده في سياق تتنازعه الإثارة والطرافة، كما في الشاهد النحوي رقم 1125:
أعاذل قولي ما هويت فأوّبي * كثيرًا أرى أمسى لديك ذنوبي
مارك زوكربيرغ مالك "فيسبوك" مخاطبا فرانسيس هاوجين الموظفة السابقة في إمبراطوريته الإعلامية.
هاوجين اتهمت مؤسستها السابقة ورئيسها بجملة من الاتهامات الخطيرة، وذكرت -في جلسة استماع خاصة للجنة حماية المستهلك بالكونغرس الأمريكي- أن الشركة تغلب جانب الربح المادي على سلامة المجتمع، وتمارس الاحتكار، وتساهم في نشر الكراهية، وتغذي النعرات الانفصالية.
ومن نوادر السياسة ما ورد في الشاهد النحوي رقم 987:
نزلتم منزل الأضياف منا * فعجّلنا القِرى أنْ تَشتمونا!
بوريس جونسون وزير خارجية بريطانيا السابق (ورئيس الوزراء فيما بعد) مخاطبا الصحفيين المتجمهرين أمام منزله، حيث خرج إليهم في زيه المنزلي، حاملا أكوابا من الشاي وبعض علب الحليب، معتذرا عن التأخر عنهم بقوله: لما علمت أنكم تتجمهرون أمام منزلي قدمت لأحضر لكم واجب الضيافة، بوصفكم ضيوفا عندي، وليس لدي ما أقوله لكم.
"الأشعث" رفض التعليق على تصريحاته الأخيرة المسيئة والمثيرة للجدل بشأن البرقع الإسلامي، التي شبه فيها المنقبات بلصوص البنوك!!..
قال ابن منظور -شارحا معنى "الأشعث": والشعث، المغبر الرأس، المنتف الشعر، الجاف الذي لم يدهن؛ وقال الزوزني -شارحا معنى البيت-: يقول، نزلتم منزلة الأضياف فعجلنا قراكم كراهية أن تشتمونا ولكي لا تشتمونا.
قلت -ولا قول لي-: شرع الله الحجاب صونا لمحاسن أزواج النبي ﷺ وبناته ونساء المؤمنين، وفيه لغير من شرع لهن ستر لمساوئ وعيوب الشعث والقرع والقزع!
المتابع لتصريحات "أشعث لندن" و"أغم واشنطن" و"أجلح موسكو" و"أقزع بيونغ يانغ"، يتمسك بما كان أبو الطيب المتنبي يعتقده من أن "الرؤوس مقر النهى"، ويدرك أن تصوره المعارض لذلك حالة عارضة فقط.
ولما أعلن الرئيس الأمريكي السابق/الحالي دونالد ترمب خطة "صفقة القرن"، جاء "رد" صاحبنا مسطورا في الشاهد رقم 1096:
كما خُطّ الكتابُ بكفّ يوما * يهوديّ يقارب أو يزيل
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية معلقا على "خطة ترمب" التي أعلن عنها يوم أمس، والتي روج لها باعتبارها "صفقة القرن".
هنية اعتبر أن "خطة كوشنير" لا تختلف عن "وعد بلفور"، ولا فرق بينهما إلا من الناحية الزمنية فقط.
وقد نال خلفه جو بايدن نصيبه من الإسقاط الاستشهادي في سياق الموقف الغربي -عموما- والأمريكي -خصوصا- من الحرب الروسية الأوكرانية، فجاء الشاهد رقم 1127:
قلتَ إني كأنت ثُمّة لمّا * شَبّت الحربُ خُضتُها وكعَعتا
الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي مخاطبا نظيره الأمريكي جو بايدن.
الرئيس الأوكراني تلقى وعود الدعم والمساندة من الأمريكيين وحلفائهم قبل أيام قليلة من بدء الغزو الروسي لبلاده، لكنه الآن يواجه الروس ويخوض الحرب معهم منفردا.
وكما وسعت الشواهد الإسقاطية أحداث الساحة العالمية، لم تضق عن الشأن الوطني (الموريتاني)، كما في الشاهد رقم 828:
طال ليلي وبت كالمجنون * واعترتني الهموم بالماطرون
رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز بعد رفض مجلس الشيوخ لمقترحه القاضي بمراجعة الدستور الوطني.
طال ليل الرئيس واعترته الهموم في قصره لأول مرة بسبب مجلس الشيوخ وقراره غير المتوقع، وقصر ليل المعارضين واحتفلوا في الشوارع لأول مرة!
ومن الفواصل الاقتصادية اللطيفة الشاهد النحوي رقم 129:
داينت أروى والديون تُقضى * فمطلت بعضا وأدّت بعضا
يا ليت أروى إذ لوتك القرضا * جادت بقَرضٍ فشكرت القرضا
في النشرة الاقتصادية: "صرح رئيس الوزراء اليوناني أنطونيوس ساماراس أنه أقنع المستشارة الألمانية بالإفراج عن الدفعة الثانية من المساعدات التي قرر الاتحاد الأوروبي تقديمها لاقتصاد بلاده، وكلف المستشارة بمتابعة ملفها في اجتماعه الأخير."
مثلما علمنا اليونانيون الدروس الأولى في مبادئ الفلسفة والطب، يحاولون -مع حلفائهم الأوروبيين- تقديم درس -بالشرح الممل- في مادة الاقتصاد السياسي. غير أن معلمنا مكدى!
الأوروبيون يقدمون -في كل اجتماعاتهم المخصصة لمتابعة الأزمة- مساعدات بشروط وعلى أسس علمية، تمكن اليونانيين من الاستمرار بفعالية في "منطقة اليورو"، وتمكن اقتصادهم من التعافي على المدى البعيد، مما يؤثر على حياتهم على المدى القصير.. هذه المساعدات يفرج عنها على دفعات في كل اجتماع!
مما تقدم يتبين أن شواهد تياه نفخت روح الإسقاط الأدبي اللطيف في جسد الشاهد النحوي، وأفاضت عليه من ماء الأسلوب التحريري البديع. فأخرجت المادة العلمية "الخام" مصنعة، وبعثتها من مرقد مناسبتها السياقي، مجددة "صلاحيتها" بما يناسب حركة العصر ويلامس يوميات الواقع المعيش، وفي ذلك خدمة تراثية جليلة ومتعة ثقافية رائقة!
ــــــــــــــــــــــــ
د.تيّاه الحسن: كاتب، ومدقق لغوي، أستاذ التطبيقات النحوية في مركز تكوين العلماء، نواكشوط/موريتانيا.