في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يؤرِّخ كتاب "تاريخ الجزائريين في بيت المقدس وفلسطين" لشعبين وبلدين، الجزائر وفلسطين معا، حيث امتزجت فيه دماء الشعبين على ثرى فلسطين الطاهر، كما امتزجت فيه ثقافة البلدين وعاداتهم الاجتماعية.
والدافع لتأليف الكتاب هو "القصور المعرفي" لدى أهل المشرق العربي في الإلمام بتاريخ المغاربة عموما، والجزائريين على وجه الخصوص، وهو قصور يتحمل مسؤوليته كلا الطرفين: المشارقة والمغاربة على حد سواء، فكما يقول الباحث الجزائري فرحات الدراجي: "إن المشارقة لا يعرفون عن المغرب وشؤونه وتاريخه شيئا كثيرا، وقلَّما نجد كتابا للمشارقة عن المغرب سالما من الأخطاء".
كان لا بد من سَبْر أغوار تاريخ الجزائريين في بيت المقدس وفلسطين، قديما وحديثا، وهو يرى أن ما كُتب من الدراسات والأبحاث والأطروحات الجامعية، وما عُقد كذلك من المؤتمرات والملتقيات العلمية حول علاقة الجزائر بفلسطين، كلها تبحث في التاريخ المعاصر لهذه العلاقة، وهي تدور في معظمها حول علاقة الجزائر بالقضية الفلسطينية ومناصرتها لها.
غير أن الكتاب الذي بين أيدينا يختلف في طرحه عن الكتابات السابقة، حيث تطرَّق إلى موضوعات عدَّة لم يُسبق أن طُرحت من قبل، حيث نقرأ في هذا الكتاب حديثا مفصَّلا عن موجات هجرة الجزائريين المتتابعة إلى فلسطين منذ الحروب الصليبية إلى العصر الحديث، ودوافع تلك الهجرات وأسبابها، فيذكر من تلك الأسباب: الجهاد في سبيل الله لتحرير بيت المقدس والمسجد الأقصى من الاحتلال الصليبي، ومنها شد الرحال إلى المسجد الأقصى وزيارته، أو المجاورة في بيت المقدس، أو الهجرة لطلب العلم أو نشره في بيت المقدس، أو الفرار من الاستعمار الفرنسي، إلى غير ذلك من الأسباب.
ونتج عن تلك الهجرات وجود تجمع جزائري كثيف في مدن فلسطين وقراها على امتداد فلسطين، من منطقة الجليل على الحدود السورية واللبنانية في الشمال، إلى قطاع غزة في الجنوب الفلسطيني. بل إنهم أسسوا في الشمال الفلسطيني كثيرا من القرى التي لم تكن مأهولة من قبل، أو كان فيها قلَّة من أهل فلسطين، وقد بلغ عدد تلك القرى 14 قرية، منها: عولم وسَمَخ وكفر سبت وديشوم، وقد عرَّف الكاتب بتلك القرى، وتحدث عن دور أهلها الجزائريين في الحفاظ على الأراضي الفلسطينية والدفاع عنها، إلى أن جرى تهجيرهم منها بعد نكبة عام 1948، مع من هُجِّر مِن أهل فلسطين جميعها.
وينتقل الكتاب بعد ذلك للحديث عن الأوقاف التي وقفها جزائريون في بيت المقدس وفلسطين، والتي انتفع بها عموم المغاربة، وليس الجزائريين فقط، وقد كانت هذه الأوقاف على نوعين: أوقاف علمية ثقافية، مثل زاوية المغاربة وزاوية أبي مدين الغوث، وكلاهما في مدينة القدس. وزاوية الأشراف المغاربة في مدينة الخليل. والنوع الثاني هي الأراضي الزراعية والعقارات السكنية، وهي كثيرة وفي مدن فلسطينية عديدة.
وفي مبحث جريء من مباحث هذا الكتاب تحت عنوان "المهاجرون الجزائريون وصراع الهوية" نقرأ عن المعاناة التي عاشها المهاجرون الجزائريون في فلسطين منذ أواسط القرن الـ19، إبَّان هجرتهم مع الأمير عبد القادر، إذ تنازعتهم مجموعة من الهويات أو الجنسيات، وفي كثير من الأحيان لم يستفيدوا من ذلك كبير فائدة، بل كانت وبالا عليهم، فهم جزائريون ولاء وانتماء، بينما تعدُّهم فرنسا من رعاياها وتابعيها ويحملون جنسيتها، رغم أنها لا تمنحهم حقوق الرعايا الفرنسيين، وهم يعيشون على أرض الدولة العثمانية التي لم تعاملهم معاملة رعاياها كونهم يحملون الجنسية الفرنسية.
ثم أصبحوا في فلسطين تحت حكم الاستعمار البريطاني، الذي سامَهم العذاب مثلهم مثل إخوانهم من أهل فلسطين، إلى أن جرى تهجيرهم بعد نكبة 1948 من المدن والقرى الفلسطينية التي سكنوها أو أنشؤوها، فلجؤوا إلى مخيمات الشتات في الأردن وسوريا ولبنان، فأصبحوا بلا هوية وبلا وطن وبلا مرجعية، إلا من هوية وكالة الغوث ومرجعيتها، إلى أن استرد بعضٌ منهم، وهم قليلون، الجنسية الجزائرية، وعادوا إلى وطنهم الأم، غير أن الغالب منهم ممن بقي في سوريا ولبنان ما زال يعيش حالة الصراع، بل الضياع.
ثم يعرِّج الكتاب على التعريف ببعض أعلام الجزائريين ومشاهيرهم في بيت المقدس وفلسطين، قديما وحديثا، فيذكر منهم العالم الشرعي والمؤرخ والأديب والشاعر والمناضل، على شتى توجهاتهم الفكرية والسياسية، فمنهم صاحب الفكر الإسلامي، ومنهم صاحب الفكر الماركسي أو الليبرالي. وعلى شتَّى منابتهم الجزائرية، فمنهم التلمساني ومنهم البسكري ومنهم الميزابي أو التواتي أو القسنطيني.
وقد سلَّط الكتاب الضوء في هذا الكتاب على كثير من الأعلام الجزائريين الذين ربما كانوا مجهولين عند أهل فلسطين نفسها، وكذلك عند الجزائريين، مثل الشهيدة دلال المغربي، ذات الأصول الجزائرية التلمسانية، فلا تجد من المعلومات عنهم إلا النزر اليسير، رغم تأثيرهم في المشهد الجزائري الفلسطيني، على مختلف صوره الفكرية والعلمية والسياسية والنضالية.
بعد ذلك ينتقل الكتاب إلى الحديث عن الحياة الاجتماعية للجزائريين في فلسطين، ويذكر أنهم حافظوا على هويتهم الاجتماعية بمختلف صورها، على عكس المهاجرين من الجاليات الأخرى، مثل التركمان والبخاريين والعراقيين والمصريين، الذين اندمجوا في المجتمع الفلسطيني، بحيث يصعب التحقق من جذورهم في هذا العصر.
ويذكر الكتاب من مظاهر حفاظ الجزائريين على هويتهم الاجتماعية ذلك الترابط القوي فيما بينهم من خلال الزواج والمصاهرة، أو رعاية القُصَّر غير البالغين والأيتام منهم والوصاية عليهم، وتأسيس الجمعيات الخيرية التي تُعنى بشؤون الجزائريين، وكان من مظاهر الحفاظ على الهوية الجزائرية أيضا الحفاظ على اللهجة الجزائرية واللغة الشاوية والأمازيغية لمن يتكلم بها، كذلك حفاظهم على عاداتهم في الملبس والمأكل، بل إنهم نقلوا بعض ثقافتهم في الأطعمة إلى المجتمع الفلسطيني.
وفي مبحث ذي صلة بالحياة الاجتماعية للجزائريين في بيت المقدس وفلسطين، يتحدث الكتاب عن المهن والوظائف التي عمل بها الجزائريون، والتي كان البعض منها حِكرا عليهم أو على عموم المغاربة دون غيرهم، ويذكر أسماء بعض من تولوا هذه المهن أو الوظائف، منها وظيفة شيخ المغاربة، ويورد الكاتب أسماء العديد من الجزائريين الذين تولوا هذه الوظيفة منذ القرن التاسع الهجري (الـ16 الميلادي) إلى يومنا هذا. ومن الوظائف أيضا النظر على أوقاف المغاربة، ومهنة حراسة الأسواق وسعاية البريد، كذلك الوظائف الشرعية من إفتاء وقضاء، والوظائف العلمية من تعليم ونسخ كتب، إضافة إلى الوظائف الإدارية، ومهن الزراعة وتربية الماشية.
ثم يذكر الكتاب في مبحث خاص "أشرف وظيفة" إن جاز التعبير، تولاها الجزائريون في بيت المقدس وفلسطين، ألا وهي "الجهاد"، ففي مبحث مطوَّل تحت عنوان "جهاد الجزائريين في فلسطين" يذكر إسهامهم المنقطع النظير في ذلك، منذ مشاركتهم في تحرير بيت المقدس مع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، حتى مشاركتهم في الثورات الفلسطينية المتعاقبة في 1927 و1936-1939 و1948 وما بعدها، ومقارعتهم الاستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية، بل وإسهامهم في تأسيس بعض الفصائل الفلسطينية التي كانت النواة الأولى لتأسيس العمل الفدائي الفلسطيني، ويذكر أعلاما بارزين كان لهم إسهام كبير وأيادٍ بيضاء، بل دماء زكية، في ذلك.
ثم يذكر الكتاب أن جهاد الجزائريين الفلسطينيين ونضالهم على أرض فلسطين لم يشغلهم عن النضال في وطنهم الأم، فيتحدث عن إسهامهم في الحركة الوطنية الجزائرية ومناصرتهم لها بالمال والسلاح والرجال، من خلال التواصل مع قيادات الثورة الجزائرية والتنسيق معها، بل إن بعض رموز الجزائريين في فلسطين كان يطوف بالقرى الجزائرية في الشمال الفلسطيني شارحا القضيتين الجزائرية والفلسطينية على حد سواء.
وفي جانب من جوانب علاقة الجزائريين بالقضية الفلسطينية، يتحدث الكتاب عن علاقة الأحزاب الجزائرية بهذه القضية الخالدة، وأن تلك الأحزاب أو الجمعيات، على اختلاف أفكارها وتوجُّهاتها، سواء أكانت إسلامية أم قومية أم يسارية أم علمانية، أوْلت القضية الفلسطينية اهتماما بالغا وخاصا. وكان هذا الاهتمام في مختلف الجوانب، السياسية منها والإعلامية والمالية والعسكرية وغير ذلك. ويذكر من تلك الأحزاب والهيئات الحركة الاستقلالية وحزب الشعب وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وليس بعيدا عن الاهتمام الجزائري بالقضية الفلسطينية، يُفرد الكتاب مبحثا خاصا يتحدث فيه عن القضية الفلسطينية في الدراسات الأكاديمية والجامعية الجزائرية. ومع أنه لم يتعمَّد الاستقصاء والحصر في ذلك، فإنه أورد قرابة 200 عنوان لأطروحات جامعية، كلها تتحدث عن فلسطين وقضيتها، ولا شك أن هناك أضعاف هذه العناوين لم تذكر ولم يصل إليها الكاتب. ومن أجل ذلك فإنه دعا الطلاب والباحثين الجزائريين إلى استقصاء ما كُتب عن فلسطين في الرسائل والأبحاث الأكاديمية العلمية في الجزائر، وعمل دراسة ببليوغرافية وصفية تحليلية لها.
وفي العلاقة بين الجزائر فلسطين، لكن من جانبها الآخر، يتحدث الكتاب عن علاقة الفلسطينيين بالثورة الجزائرية وموقفهم الداعم لها. فكما قال الرئيس الراحل هواري بومدين مقولته الخالدة: "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، فقد قال الراحل أحمد الشقيري، وهو أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية: "نحن مع الجزائر في السراء والضراء، إننا أصدقاء الجزائر في السلم وفي الحرب". وكانت مساندة الفلسطينيين للثورة الجزائرية لأنهم يدركون أن انتصارها انتصار لهم، فقرروا مساندتها بكل ما يملكون، على ما هم فيه من بؤس وضياع واحتلال وتشريد.
وكانت خاتمة الكتاب بالحديث عن يهود الجزائر ووقوفهم مع الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ومع العصابات الصهيونية في فلسطين.
يُذكر أن الكتاب يقع في 270 صفحة، وقد اعتمد الكاتب فيه على عشرات المراجع من كتب وأبحاث ومصادر شفوية، إضافة إلى الصور والسجلات والوثائق المملوكية والعثمانية وغيرها.