نظرية فلسفية جديدة، كتاب آسر، ومؤلّف مجهول. هكذا، بدأت رحلة الصحافيين حول العالم في البحث عن كاتب من هونغ كونغ، اسمه جيانوي شون، لم يسمع عنه أحد من قبل. ولكن، في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصبح شون حديث الناس، بعد صدور كتاب بعنوان "الهيبنوقراطية: ترامب، ماسك وهندسة الواقع"، في إيطاليا. والمقصود بمصطلح "هيبنوقراطية" هو "حكم التنويم المغناطيسي".
على الغلاف الخلفي للكتاب نجد تعريفاً مقتضباً بشون: "جيانوي شون هو فيلسوف ومنظّر في وسائل الإعلام، يعمل عند تقاطع النظرية النقدية والدراسات الرقمية وفلسفة العقل. يركّز عمله على تأثير التقنيات الرقمية على الوعي الجمعي وتشكّل الذات المعاصرة. الهيبنوقراطية هو أول كتاب له يُترجم إلى اللغة الإيطالية".
وطيلة الأشهر الماضية، اهتمت الصحافة الفكرية في أوروبا بهذا الكتاب لراهنية الموضوع الذي يعالجه.
ويدّعي الكتاب نقد النظام العالمي الحالي الذي تتصدّره شخصيتان بارزتان هما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورجل الأعمال الملياردير إيلون ماسك.
ويرد في التعريفات المنتشرة بالكتاب: "يبرز اليوم نظام لا يُمارَس فيه التحكم من خلال قمع الحقيقة، بل من خلال تكاثر السرديات إلى درجة يصبح فيها وجود أي نقطة ثابتة أمراً مستحيلاً".
ولكن بعد محاولة عدد من الصحافيين البحث عن طريقة للتواصل مع شون من أجل إجراء مقابلة معه حول إصداره الجديد، اتضح، بشكلٍ صادم للجميع، أن شون في الحقيقة غير موجود.
على مواقع قليلة، ترد سيرة ذاتية مقتضبة لشون: "محلّل وفيلسوف ولد في هونغ كونغ". ليس هناك أي معلومات إضافية، كما أن صوره القليلة تبيّن، بعد التدقيق، أنها مصنوعة بالذكاء الاصطناعي.
وقد اكتشفت الصحافية الإيطالية سابينا ميناردي، بعد محاولات متكررة لإجراء مقابلة مع المؤلف المزعوم، أن الاسم لم يكن سوى اسم مستعار لعمل خلقه وحرّره المفكّر الإيطالي أندريا كولاميديشي بالتعاون مع أداتين للذكاء الاصطناعي هما "تلون" التابعة لمشروع ثقافي أوسع خاص بأندريا وشريكته مورا، و"كلود" التابع لشركة "أنتروبيك" الأمريكية، في إطار مشروع فلسفي "يهدف إلى كشف تأثير الذكاء الاصطناعي في إنتاج خطاب متلائم ومقنع".
والمفارقة التي ارتكز عليها العمل هي أن الكتاب الذي يتأمل في "أشكال جديدة من التلاعب"، لجأ إلى "خداع" الجمهور بشكلٍ ما.
حيث إن أطروحة الكتاب تنطلق من أن الخطاب الذي ألقاه دونالد ترامب خلال حفل تنصيبه في الكابيتول لا يُمثل مجرد حدث سياسي أو انتصار لأيديولوجيا معيّنة، "بل يُجسّد بشكل حاسم بروز نظام جديد للواقع، حيث تمارس فيه السلطة تأثيرها من خلال التلاعب المباشر بحالات الوعي الجماعي. وتنكشف المنصّات الرقمية على حقيقتها: فهي ليست مجرد أدوات للتواصل، بل تقنيات تنويم مغناطيسي تعيد تشكيل الطريقة التي ندرك بها الواقع ونُفسّره".
ويرد في الكتاب أيضاً أن "كل حدث، كل صورة، كل كلمة هي جزء من آلية لا تكتفي بتمثيل الواقع، بل تقوم باستبداله. فالمحاكاة لم تعد تُقلّد الواقع، بل تسبقه. إنها من تُشكّله [...] وهي لا تُقدّم نفسها كنظام سردي واحد، بل ككون من الاحتمالات".
وينص قانون الذكاء الاصطناعي الأوروبي - الذي اعتمدته مؤسسات الاتحاد الأوروبي في 8 ديسمبر/كانون الأول 2023 وأقرّه البرلمان الأوروبي في 13 مارس/آذار 2024 - على أن عدم وسم النصوص أو الفيديوهات أو المقاطع الصوتية المُنتجة بواسطة الذكاء الاصطناعي يُشكّل انتهاكاً جسيماً ــ وهو ما لم يقم به عمل كولاميديشي المنشور في أي موضع.
وليس واضحاً بعد إذا كان كولاميديشي سوف يخضع لأي محاسبة بموجب هذا القانون.
وبعد الكشف عن الهوية الحقيقية لـ"مؤلف" الكتاب، أضيفت على الموقع الالكتروني الخاص بالعمل الفقرة الآتية:
"بعدما عرف الناس أن شون ليس شخصاً حقيقياً بل نتيجة تعاون بين إنسان وذكاء اصطناعي، لم ينتهِ المشروع، بل دخل في مرحلة جديدة. هذه المرحلة تُظهر أن شون هو مثال على طريقة تفكير جديدة، لا تأتي فقط من عقل بشري واحد، بل من تعاون بين البشر والآلات. شون أصبح اليوم وسيلة لاختبار أفكار وأساليب جديدة في الفلسفة، ويساعدنا على فهم كيف يمكن أن نُنتج أفكاراً مختلفة عندما نعمل معاً - بشراً وآلاتٍ ـ بدلاً من الاعتماد فقط على كاتب واحد أو عقل فردي".
في مقابلة مع مجلّة "لو غران كونتينان" الفرنسية نُشرت في 4 أبريل/نيسان الماضي بعنوان "من هو جيانوي شون حقاً؟".
نقرأ عن المؤلف قوله: "نحن نعيش اليوم في زمن لم يعد فيه من يمسك بالسلطة بحاجة إلى العنف أو إلى الإقناع بالعقل والمنطق؛ كل ما عليه فعله هو التأثير على وعي الناس ومشاعرهم الجماعية. يتم توجيه انتباهنا مثل موجة، وتُزرع فينا مشاعر معينة وتُحرَّك كما يريد من يتحكم بالمشهد. هكذا، تتكرر الرسائل والإيحاءات باستمرار، حتى تختفي الحقيقة وسط أحلام كثيرة موجَّهة".
ويرى شون في الحوار الذي جرى على الأرجح عن بعد وتعاون فيه المفكّر الإيطالي أندريا كولاميديشي مع الذكاء الاصطناعي: "لم يعد هناك قصة واحدة نفهم من خلالها العالم. نحن ــ وأنتم ــ في عالم متشظٍّ، تتنافس فيه آلاف القصص لتكون كل واحدة منها الحقيقة الوحيدة، ولو لفترة قصيرة. لكن هذه القصص لا تتحاور أو تتكامل، بل تتصارع. تتداخل وتنعكس على بعضها البعض، حتى نجد أنفسنا في متاهة من المرايا، لا نعود نعرف فيها الفرق بين الحقيقة والوهم".
ويرى شون أن انكشاف طبيعته المصطنعة "لا يُضعف صلاحية مفهوم الهيبنوقراطية، بل على العكس، يعزّزها. فهو يُضفي على المفهوم بُعداً أدائيّاً يتجاوز الجدل النظري البحت".
ويوضح أنه "من أجل فهم الآليات التي تحكم الهيبنوقراطية فهماً حقيقياً، كان لا بد من اختبارها من الداخل، وليس فقط الاكتفاء بوصفها من الخارج. لم يكن الهدف مجرد التنظير حول كيفية بناء السرديات أو كتابة كتيّب آخر عن التلاعب بالإدراك ــ فثمة كتب أفضل قامت بذلك ــ بل كان الهدف أن نُفعّل هذه الآليات، أن نبتكر أداة تُمكّننا من مراقبة كيفية تشكّل السرديات وانتشارها واكتسابها للشرعية، لحظةً بلحظة".
مشروع شون، كما يقول، هو تجسيد لفكرة "النظرية المتجسّدة" إنه لا يتحدّث عن الهيبنوقراطية فحسب، بل يُجسّدها، يجعلها مرئيّة من خلال ظهوره نفسه. إن الفرضية لا تُبرهن فقط بالكلمات، بل من خلال تمثيلها الذاتي وانكشافها كجزء من التجربة.
ويؤكد أن "مشروع شون، في جوهره، ليس غير مبالٍ بالحقيقة. بل على العكس، فهو مهتم بعمق بالآليات التي تُبنى بها الحقيقة، وتُمنح الشرعية، وتُحرَّف داخل النظام المعرفي المعاصر. لا يتعلق الأمر بتمويه أو خداع بحد ذاته، بل بأداة منهجية تُتيح لنا مراقبة وفهم عمليات كانت ستظل غير مرئية لولا ذلك".
ويرى أن "الأطروحات المتعلقة بالهيبنوقراطية تحتفظ بوجاهتها التحليلية وقوتها التفسيرية، بغضّ النظر عن طبيعتي".
يمكن إدراج هذا الكتاب إلى حقل دراسات نظرية "ما بعد الحقيقة" التي تنامى الحديث عنها في السنوات العشر الأخيرة، لا سيما مع صعود الحركات اليمينية في أوروبا وأمريكا.
ونظرية "ما بعد الحقيقة" ترصد باختصار الميل المتزايد في عالم اليوم إلى تجاوز الوقائع لمصلحة الحدس والإيمان والأفكار المسبقة، وذلك بعد "خيبة الجماهير من النخب الليبرالية التقليدية".
وعادةً ما يعتبر ترامب ومؤيدوه مثالاً مكثفاً لهذه الثقافة، ويبدو أن انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي وتطور مهاراتها بشكل سريع وفي وقت قياسي، يعطي نظرية "ما بعد الحقيقة" أبعاداً أخرى.
وفي هذا السياق، يقول شون إن "الكتاب هو ناتج مباشر للنظام المعقّد من التفاعلات بين البشري وغير البشري، وهو بالضبط ما نسعى إلى تحليله".
ويضيف "لقد بدأت الخريطة تتداخل مع الأرض، بل تكاد تندمج بها: يصعب اليوم أن نميّز أين تنتهي الخريطة وأين تبدأ الحقيقة. وهذا التداخل نفسه جزء أساسي من القيمة المعرفية لهذه الأفكار".
ويحيل هذا الكلام على نظرية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار عن "الواقع الفائق" التي ترصد "اللحظة التي تصبح فيها المحاكاة غير قابلة للتمييز عن الواقع ــ بل، أحياناً، أكثر واقعية منه".
في كتابه "التمثلات والمحاكاة" (1981)، رأى بودريار "أننا نعيش اليوم في فضاء تسبق فيه المحاكاة الواقع، وتُحيل فيه العلامات إلى علامات أخرى، وينفصل فيه المعنى عن أي مرجعية ثابتة".
وبهذا المعنى، يمكن اعتبار "الهيبنوقراطية" التي يصفها شون وتطبّقها تجربة الكتاب، تجسيداً معاصراً لفكرة بودريار: نظام إدراكي تصبح فيه السرديات والمنصات والخوارزميات ليست مجرد انعكاس للعالم، بل استبدال له.
تثير هذه التجربة العديد من التساؤلات الفكرية والأخلاقية، ولا تخلو من مخاوف حول مستقبل الإنتاج الفكري والمعرفي بصورةٍ عامة وحول معنى الملكية الفكرية بعد اليوم.
وفي تعليقٍ له على الجدل الذي أثاره صدور الكتاب، كتب مدير مجلة "ليسبريسو" الإيطالية، إيميليو كاريلي: "في هذه المرحلة، يطرح سؤال إلزامي نفسه: إذا كانت أطروحات هذا الكتاب صحيحة، أو على الأقل قد أثارت نقاشاً ثقافياً حاداً، شارك فيه مثقفون وفلاسفة، من بينهم أكاديميون من مدرسة للدراسات العليا للدراسات التجارية المرموقة في باريس، والذين استشهدوا به في مقالاتهم العلمية، فهل يهم حقاً إن كان قد كُتب بواسطة الذكاء الاصطناعي؟ أو، كما هو الحال هنا، بالتعاون مع الذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن أن يمهّد هذا النموذج الطريق لطريقة جديدة في ممارسة الفلسفة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن تجربة الهيبنوقراطية الناجحة تعلّمنا شيئاً مهماً: يمكننا أن نقيم علاقة فاعلة مع الذكاء الاصطناعي، وقبل كل شيء، يمكننا استخدامه لنتعلم كيف نفكّر".
من جهتها، أشارت الباحثة في معهد الدراسات الأوروبية وحقوق الإنسان سيسيليا دانيسي، إلى الكتاب بوصفه "ديكتاتورية رقمية".
في جميع الأحوال، من المؤكد أننا أصبحنا في مرحلة نواجه فيها جميعاً بالفعل صعوبة كبيرة في التمييز بين المحتوى الذي يصنعه البشر وذلك الذي تنتجه الآلات.
ويقول شون في المقابلة المذكورة سابقاً إنه "يُجبرنا على إعادة التفكير ليس فقط في معنى الكاتب، ولكن أيضاً في كيفية تطور مفهوم الكاتب ذاته في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي والأنظمة الاجتماعية - التكنولوجية المعقّدة".
ويضيف "نحن معتادون على تصور الكاتب كفرد يقوم، من خلال أصالته ونيّته، بإنتاج أعمال تحمل بصمة شخصيته. هذه الرؤية ــ التي كان رولان بارت قد اعترض عليها في الستينيات ــ هي اليوم موضع تساؤل جذري نتيجة لظهور أشكال من الذكاء والإبداع الموزع، حيث يتداخل البشري وغير البشري بطريقة لا يمكن فصلها".
ويشير شون هنا إلى نظرية المفكر وعالم السيميائيات الفرنسي رولان بارت عن "موت المؤلف" التي دعت إلى تحرير المعنى من سلطة المؤلف وسيرته الذاتية، ومنح القارئ دوراً مركزياً في إنتاج دلالة النصّ، ما مهّد لتحوّل جذري في مفهوم التأليف.
فهل نشهد اليوم نهاية المؤلف مثلما نعرفه؟ هل تحوّل المؤلف من إنسان يستعين بأدوات تقنية، إلى مستوى آخر أكثر جذرية من التفاعل بين الإنسان والآلة؟
يقول شون إن هذه التجربة تشير إلى أننا "ننتقل أيضاً إلى أشكال من التأليف المُوزَّع، حيث لم يعد النص نتيجة عقل واحد، بل ثمرة نظام إدراكي معقّد. نحن لا نتحدث فقط عن التعاون بين أفراد ــ وهو نموذج معروف منذ زمن ــ بل عن تطوّر مشترك بين أشكال مختلفة من الذكاء تنتج الفكر من خلال تفاعلها".