شهدت واشنطن قبل أيام واحدة من أكثر الزيارات تأثيرًا في تاريخ العلاقات السعودية–الأمريكية الحديثة، بعدما التقى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله-، بفخامة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في زيارة وصفتها الصحافة الأمريكية بأنها "إعادة تشكيل للتحالف".
اللافت في المشهد أن أغلب التحليلات الأمريكية اتفقت على أن المكاسب التي خرجت بها السعودية تفوقت – لأول مرة بهذا الوضوح – على ما حصدته واشنطن، وهو توصيف غير مألوف في السرديات الأمريكية. وقد تبنّت ذلك صحف ومؤسسات إعلامية كبرى مثل "واشنطن بوست" و"رويترز" و"Al-Monitor"، في اتفاق نادر يعكس حجم التحول الذي فرضته الرياض على هندسة العلاقة بين البلدين.
باتفاق عالمي: السعودية لم تخرج من هذه الزيارة باتفاقيات ضخمة فقط، بل خرجت بموقع جديد داخل النظام الدولي؛ موقع يعترف عمليًا بأن الرياض أصبحت طرفًا لا يمكن تجاوزه في ملفات الطاقة والتقنية والدفاع وسلاسل الإمداد العالمية، وبأن ما قامت به المملكة خلال السنوات الماضية قد نقلها من دولة إقليمية مؤثرة إلى قوة صاعدة في المعادلة الدولية.
إعادة تعريف الشراكة:
أبرزت "رويترز" في تقرير نُشر بتاريخ 19 نوفمبر 2025م أن الاستثمارات السعودية التي أُعلنت خلال الزيارة تمثل "أكبر التزامات استثمارية أجنبية مباشرة في تاريخ الولايات المتحدة"، حيث تقترب من التريليون دولار، وتشمل قطاعات محورية: الطاقة النووية المدنية، المعادن الحرجة، الذكاء الاصطناعي، البنية التحتية الرقمية، الصناعات المتقدمة، وتوسّع استثمارات صندوق الاستثمارات العامة داخل أمريكا، إضافة إلى تعاون مالي مباشر بين وزارتي الخزانة في البلدين.
هذا الرقم، بحسب "رويترز"، يعادل إعادة هيكلة كاملة لمفهوم الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة، ويمنح الرياض موقعًا غير مسبوق داخل المشهد الاقتصادي الأمريكي، ويجعلها شريكًا في بناء مستقبل الصناعة الأمريكية وليس مجرد مستثمر تقليدي.
وأضافت "Al-Monitor" أن امتداد هذه الالتزامات لعقود طويلة يجعل النفوذ الاقتصادي السعودي داخل الولايات المتحدة نفوذًا مؤثرًا في السياسات الصناعية الأمريكية المقبلة، ويعزّز مكانة السعودية كقطب اقتصادي دولي يمتلك القدرة على التأثير في سلاسل الإمداد العالمية وفي ابتكارات اقتصاد المستقبل.
تحالف أمني غير مسبوق:
في تغطية وُصفت بأنها الأكثر وضوحًا منذ سنوات، كتبت "واشنطن بوست" أن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز عاد "بمكتسبات مذهلة" في الجانب الدفاعي، تشمل الموافقة على شراء 48 مقاتلة F-35 وقرابة 300 دبابة أبرامز، إضافة إلى نقل تقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة، إلى جانب الاعتراف بالسعودية "حليفًا رئيسيًا من خارج الناتو".
وقالت الصحيفة نصًّا: "Saudi Arabia gained more than the U.S. from MBS’s D.C. visit"، وهو تصريح غير معتاد من مؤسسة تحريرية أمريكية كبرى.
وفي سياق متصل، كشفت "رويترز" أن الاتفاق الدفاعي الذي تم توقيعه "يضع السعودية في مركز ثقل خطط البنتاغون تجاه الشرق الأوسط"، وأنه يعيد صياغة توازنات السلاح والتقنية في المنطقة لسنوات طويلة، بينما وصفت "Al-Monitor" مراسم الاستقبال والعرض الجوي في البيت الأبيض بأنها "مراسم دولة"، مؤكدة أن الصفقة تمنح السعودية قدرات جوية لا تضاهيها سوى دول الناتو الأساسية.
حليف عظيم من خارج الناتو:
تؤكد وزارة الخارجية الأمريكية أن منح السعودية صفة "حليف رئيسي من خارج الناتو" يمثل أعلى مستويات الشراكة الأمنية التي تمنحها واشنطن لدولة غير عضوة في الحلف.
وهذا التصنيف يعني – وفق البيانات الأمريكية – منح المملكة ميزات مذهلة مثل:
وصول متقدم للتكنولوجيا العسكرية الأمريكية المتطورة.
تسريع في التعاملات الدفاعية وصفقات التسليح.
حق المشاركة في برامج البحث والتطوير الدفاعي.
مستوى أعلى من التعاون الاستخباراتي.
تسهيلات لوجستية ترتبط بالتموضع وتبادل الدعم العسكري.
ويرى محللون أمريكيون أن دخول السعودية هذه الدائرة "الخاصة" من الحلفاء يعكس اعترافًا أمريكيًا بأن الرياض أصبحت ركيزة للأمن الإقليمي، وأن دورها يتجاوز مفهوم "الشريك التقليدي" إلى "الشريك الاستراتيجي طويل الأمد".
السعودية في قلب ثورة الذكاء الاصطناعي والمعادن الحرجة:
أبرزت "رويترز" أن الاتفاقيات التقنية التي شهدتها الزيارة تدفع بالسعودية إلى قلب سباق الذكاء الاصطناعي الأمريكي، عبر مشاريع تشمل:
بناء حواسيب فائقة.
إنشاء مصانع مرتبطة بصناعة تقنيات الذكاء الاصطناعي.
عقد شراكات مع شركات رائدة مثل NVIDIA.
توطين تقنيات الرقائق المتقدمة.
وقالت "Fortune" و"Al-Monitor" إن السعودية باتت "شريكًا منتجًا لا مستهلكًا"، وإن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وصل إلى واشنطن بأجندة واضحة هدفها تمكين المملكة من موقع لاعب رئيسي في سباق التقنية العالمي.
وفي قطاع المعادن الحرجة، كشفت "رويترز" عن إطلاق شراكة استراتيجية بين البلدين لإنشاء مصفاة متخصصة داخل المملكة، بهدف تعزيز الصناعات الأميركية في مجالات الدفاع والفضاء والإلكترونيات، وتقليل اعتماد واشنطن على سلاسل الإمداد القادمة من آسيا. وقالت "Al-Monitor" إن الخليج، والسعودية تحديدًا، أصبحا جزءًا من المعادلة الصناعية الأمريكية الجديدة.
سمو ولي العهد.. الرمزية الكبرى لزعيم عظيم:
وصفت "واشنطن بوست" حضور صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، بأنه "عودة بثقل سياسي كامل"، مشيرة إلى أن مؤسسات الحكم الأمريكية تعاملت معه كقائد يقود تحولًا استراتيجيًا واسعًا.
وأكدت "Al-Monitor" أن المراسم الاستثنائية التي حظي بها سموه تُمنح عادةً "للدول الكبرى فقط"، وأن مستوى التقدير الرسمي والبروتوكولي يعكس مكانة السعودية الجديدة.
كما لفتت وسائل إعلام أمريكية إلى أن الحضور الرفيع في العشاء الرسمي – من كبار رؤساء الشركات الأمريكية إلى رموز الرياضة العالمية – يؤكد مكانة المملكة كمركز تتقاطع فيه السياسة والاقتصاد والثقافة على مستوى عالمي.
وتجمع التحليلات الأمريكية على أن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز أعاد صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة لتكون شراكة متوازنة وعميقة، تعكس صعود قوة عالمية جديدة، وتُظهر قدرة المملكة على المشاركة الفاعلة في رسم مستقبل الأمن والاقتصاد والتقنية، جنبًا إلى جنب مع واشنطن في واحدة من أهم محطات التحالف السعودي–الأمريكي الممتد.
المصدر:
سبق