في لحظة تاريخية تُعيد إلى الأذهان أبشع فصول القرن العشرين، أعلنت لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة أن إسرائيل تقوم بإبادة جماعية ممنهجة في غزة، تكشف عن نية إسرائيلية مدروسة لتدمير الشعب الفلسطيني بأكمله، مدعومة بأدلة دامغة من شهود عيان وتحليلات فنية.
خلصت اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق، برئاسة نافي بيلاي – الرئيسة السابقة لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة – إلى أن "الإبادة الجماعية تحدث في غزة وتستمر في الحدوث"، واعتمدت هذه اللجنة على حجم القتل الهائل، ومنع المساعدات الإنسانية، والتهجير القسري، وتدمير عيادات الخصوبة كأدلة رئيسية، والتقرير البالغ 72 صفحة، الذي نُشر بعد تحقيق دام عامين، يُعد أقوى استنتاج أممي حتى الآن، رغم عدم تبنيه الرسمي من قبل المنظمة العالمية، وفقًا لصحيفة "الغارديان" البريطانية.
وأكدت بيلاي القاضية الجنوب إفريقية التي قضت في محكمة الجنائيات الدولية ومحكمة رواندا، أن المسؤولية تقع على السلطات الإسرائيلية في أعلى المستويات، التي نظمت حملة إبادية بنية محددة لتدمير الفلسطينيين في غزة كجماعة، واستندت اللجنة إلى مقابلات مع ضحايا وشهود وأطباء، بالإضافة إلى وثائق مفتوحة المصدر وصور أقمار صناعية، لتثبت ارتكاب أربعة من الأفعال الخمسة للإبادة الجماعية المحددة في اتفاقية 1948، وهذه الاتفاقية، التي ولدت من رماد الهولوكوست النازي، تعرف الإبادة بأنها جرائم "بنية تدمير مجموعة قومية أو إثنية أو دينية، كليًا أو جزئيًا".
وتشمل الأفعال المُثبتة قتل أفراد المجموعة، والتسبب في ضرر جسدي وعقلي خطير، وفرض ظروف حياة تؤدي إلى التدمير الجسدي، ومنع الولادات داخل المجموعة، وأشارت اللجنة إلى أن تصريحات صريحة من مسؤولين إسرائيليين مدنيين وعسكريين، إلى جانب نمط سلوك القوات، يُثبت النية الإبادية، وكدليل، استشهدت برسالة كتبها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للجنود في نوفمبر 2023، مقارنًا عملية غزة بـ"حرب مقدسة للإبادة التامة" في الكتاب المقدس العبري، وهذا التحريض، وفق التقرير، يمتد إلى الرئيس إسحاق هرتسوغ والوزير السابق يوآف غالانت، الذين فشلت السلطات في معاقبتهم.
ومنذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، الذي أسفر عن مقتل 1200 إسرائيلي واختطاف 251 رهينة، قُتل نحو 65 ألف فلسطيني في غزة، وفق إحصاءات وزارة الصحة هناك،ـ وأعلن مراقب الجوع العالمي أن أجزاء من القطاع تعاني مجاعة، وسط قصف مكثف وهجوم بري في غزة، ونُشر التقرير أثناء تصعيد عسكري في المدينة، مما يُبرز استمرارية الانتهاكات.
رفضت وزارة الخارجية الإسرائيلية التقرير "بشكل قاطع"، مطالبة بإلغاء اللجنة، ووصف سفيرها في جنيف، دانيال ميرون، الوثيقة بـ"الافتراء الكاذب المُصنع من وكلاء حماس"، واتهمت إسرائيل اللجنة بالتحيز السياسي، رافضة التعاون معها، ومُستندة إلى "حقها في الدفاع عن النفس"، في الوقت نفسه، تواجه إسرائيل دعوى إبادة أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي، حيث أمرت المحكمة في يناير الماضي بمنع الأفعال الإبادية، وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية في مايو أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
ولم تُصنف الأمم المتحدة الوضع رسميًا كإبادة، لكن ضغوطًا متزايدة تُمارس عليها، في مايو، حث مسؤول الإغاثة الأممي زعماء العالم على "التصرف بحزم لمنع الإبادة"، بينما ندد رئيس حقوق الإنسان بالخطاب الإسرائيلي "الإبادي"، وقالت بيلاي: "عندما أنظر إلى إبادة رواندا، فهي مشابهة جدًا؛ تُجرّد الضحايا من إنسانيتهم، تُسميهم حيوانات، فتقتلهم دون ضمير"، وأضافت أن المجتمع الدولي "لا يمكنه الصمت أمام هذه الحملة الإبادية ضد الفلسطينيين".
ويُعد هذا التقرير نقطة تحول، يُعيد إحياء النقاش حول مسؤولية القادة في جرائم الإبادة، ففي عالم يتسارع فيه النزاع، هل ستكون هذه الوثيقة الشرارة التي تُشعل تحركًا دوليًا حقيقيًا، أم ستظل مجرد صوت في الفراغ؟