شهدت إيران خلال هذا الشهر هجمات سيبرانية غير مسبوقة، استهدفت شل نظامها المالي الحيوي وقطعت أوصالها عن العالم، في عملية نُفّذت بخفاء تام، فبينما كانت طهران تتصدى للضربات العسكرية الجوية الأمريكية والإسرائيلية على منشآتها النووية، كانت ساحة معركة جديدة تتبلور في الخفاء: البنية التحتية المالية التي تُبقي إيران متصلة بالشبكة العالمية، حيث كشف مسؤولون إسرائيليون ومصادر مطلعة لصحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية أن السلطات الإسرائيلية، بالتعاون مع مجموعة قرصنة موالية لها تُدعى "الخطاف المفترس" استهدفت المؤسسات المالية التي يعتمد عليها الإيرانيون لتحويل الأموال والتملص من الحصار الاقتصادي الذي تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي خطوة هزت أركان النظام المصرفي الإيراني، أعلنت مجموعة "الخطاف المفترس"، التي تعمل بسرية تامة وتوثّق عملياتها على منصة اكس، مسؤوليتها عن شلّ بنك "سبه" الحكومي الإيراني الأسبوع الماضي، وهذا البنك، الذي يُعدّ شريانًا حيويًا للقوات المسلحة الإيرانية ويسهل مدفوعاتهم للموردين الأجانب، تعرض لهجوم عطّل بشكل كامل خدماته المصرفية عبر الإنترنت وأجهزة الصراف الآلي، وهو ما أكدته وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، ولم يكتفِ القراصنة بذلك، بل اخترقوا أيضًا منصة نوبيتكس، أكبر بورصة للعملات المشفرة في إيران، التي تُستخدم على نطاق واسع من قِبل المواطنين لتحويل الأموال إلى خارج البلاد، ووفقًا لبيان صادر عن البورصة، فقد تمكن المهاجمون من سحب نحو 100 مليون دولار من الأموال، مما اضطر المنصة إلى الإغلاق الفوري.
وفي أعقاب هذه الهجمات المدمرة، سارعت الحكومة الإيرانية إلى اتخاذ إجراءات صارمة، حيث قطعت جزءًا كبيرًا من أنشطة الإنترنت في البلاد لمنع أي هجمات إضافية وكبح جماح المعارضة الداخلية، وتم حجب المواقع الإلكترونية غير الإيرانية، وصدرت تحذيرات للمواطنين من استخدام الهواتف الأجنبية أو منصات المراسلة، بدعوى أنها قد تجمع بيانات حساسة مثل الصوت والموقع لصالح الجواسيس الإسرائيليين، كما مُنع المسؤولون الحكوميون من استخدام أجهزة الكمبيوتر المحمولة والساعات الذكية، في محاولة لتعزيز الأمن السيبراني.
وأكدت مجموعة "الخطاف المفترس" أن الهدف الرئيسي من الهجومين كان استهداف "شرايين الحياة المالية" لـ الحرس الثوري، الذي يُعد الفصيل الأقوى داخل الجيش الإيراني ويُسيطر على قطاعات واسعة من الاقتصاد. وقد أطلقت المجموعة نداءً عاجلاً عبر منصة اكس، حثت فيه "شعب إيران النبيل على سحب أمواله قبل فوات الأوان"، وحتى اللحظة، لا تزال الشركتان المستهدفتان تعانيان من آثار الهجوم، فقد أعلنت نوبيتكس أنها تواجه تحديات كبيرة في استعادة خدماتها، وتأمل في استئناف التداول خلال الأسبوع المقبل، بينما يشكو بعض مستخدمي بنك سبه من عدم تلقيهم ودائعهم عبر الإنترنت حتى الآن.
وعلى الرغم من أن مجموعة "الخطاف المفترس" لم تعلن صراحة عن أي ارتباط بالسلطات الإسرائيلية، إلا أن خبراء الأمن السيبراني يرون في أسلوبها وتكتيكاتها علامات تشير إلى دعم حكومي، ويشير ديدي لافيد الرئيس التنفيذي لشركة "سايفرز" المتخصصة في الأمن السيبراني ومقرها تل أبيب، إلى أن "تطور المجموعة واختيارها للأهداف ورسائلها الجيوسياسية تتطابق مع سمات الجهات الفاعلة السيبرانية التي تدعمها الدول الموالية لإسرائيل"، وتتزامن هذه الهجمات مع وضع اقتصادي حرج في إيران، التي تعاني بالفعل من وطأة العقوبات الأمريكية التي تحظر شراء نفطها والتعامل مع بنوكها، مما جعلها تعتمد بشكل كبير على عدد محدود من الشركاء التجاريين، أبرزهم الصين، ووفقًا لبيانات البنك الدولي، يتجاوز معدل التضخم السنوي في إيران 40%، بينما يؤدي النزوح المستمر للعمالة الماهرة إلى خنق النمو الاقتصادي للبلاد.
وعلى الرغم من تأكيد إسرائيل هدنة مع إيران، يتوقع خبراء الأمن السيبراني والمسؤولون الإسرائيليون استمرار الحرب السيبرانية، ويرى لافيد أن "إسرائيل على الأرجح ستواصل شن هجمات سيبرانية دقيقة ضد مراكز قوة النظام"، من جانبهم، أكد مسؤولون في المكتب الوطني الإسرائيلي لمكافحة تمويل الإرهاب أن إسرائيل تستهدف بشكل عام البنية التحتية الاقتصادية التي تمكن إيران من تمويل جيشها ووكلائها، وقد فرضت عقوبات في وقت سابق من هذا الشهر على البنك المركزي الإيراني وبنوك أخرى يستخدمها الحرس الثوري.
وردت مجموعات القرصنة الموالية لإيران بشن هجمات على مواقع الحكومة الإسرائيلية باستخدام أساليب حجب الخدمة، حيث تهدف هذه الهجمات إلى إغراق أجهزة الكمبيوتر التي توجه حركة الإنترنت بفيض هائل من الطلبات، كما أرسلت رسائل تصيد للمواطنين الإسرائيليين في محاولة لاختراق هواتفهم، ومع ذلك، أفادت المديرية الوطنية الإسرائيلية للأمن السيبراني بأن الهجمات السيبرانية الإيرانية لم تتسبب في أضرار ملموسة خلال الأسابيع الأخيرة.
وتنامى شعور بالارتياب والقلق بين الإيرانيين مع تصاعد الهجمات، سواء المادية أو السيبرانية، ويعكس محمد قربانيان، وهو صراف عملات مقيم في طهران فُرضت عليه عقوبات أمريكية قبل سنوات بزعم مساعدته للقراصنة الإيرانيين، هذا الشعور بقوله: "من الأفضل قطع الإنترنت، فإسرائيل تستطيع رؤية كل شيء"، وتُظهر هذه الهجمات السيبرانية، التي عطلت مدفوعات حساسة كرواتب المتقاعدين العسكريين، الاعتماد المتزايد على العملات المشفرة في إيران كوسيلة للتحايل على العقوبات الدولية، خاصةً مع استخدام منصات مثل نوبيتكس التي تُسهّل تحويل الريال الإيراني إلى عملات مستقرة كـ "تيثر"، ومن ثم إلى عملات أجنبية أخرى، فهل ستُجبر هذه الهجمات إيران على إعادة تقييم استراتيجيتها الرقمية والأمنية؟