في خطوة استباقية لضمان استمرار الدعم الأمريكي لحلف شمال الأطلسي "الناتو"، سارع القادة الأوروبيون خلال قمة لاهاي الأخيرة إلى تقديم تعهدات غير مسبوقة بزيادة الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه الوعود، التي جاءت في سياق رغبة ملحة لاسترضاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب وتبديد مخاوفه بشأن الالتزام بالدفاع المشترك، تضع دول القارة العجوز أمام تحديات مالية ضخمة، فبينما يرى البعض في هذا التوجه ضرورة ملحة لمواجهة التوترات المتزايدة مع روسيا، يؤكد خبراء الاقتصاد أن معظم الدول الأوروبية لا تملك القدرة على تحمل هذا العبء المالي الكبير، مما سيجبرها على خيارات صعبة تتراوح بين التضحيات في الميزانيات الوطنية أو اللجوء إلى "محاسبة إبداعية" لإعادة توجيه الإنفاق القائم.
ويشير الخبراء إلى أن تحقيق هدف إنفاق 5% على الدفاع يكاد يكون مستحيلًا بالنسبة لمعظم الدول الأوروبية، ويرى غونترام وولف، الزميل البارز في مركز "بروغل" الفكري، أن هذا الهدف لا يمكن بلوغه، ويوضح أن الدول المثقلة بالديون لا تستطيع إصدار المزيد منها، مما يعني ضرورة اتخاذ خيارات صعبة للغاية في الميزانية، تتضمن إما زيادات ضريبية باهظة أو تخفيضات كبيرة في الإنفاق العام، وفقًا لـ"رويترز".
ونجحت قمة لاهاي في تحقيق هدفها السياسي المتمثل في كسب تأييد ترامب، الذي أكد التزام الولايات المتحدة بدعم حلفائها الأوروبيين "طوال الطريق"، مبددًا بذلك المخاوف بشأن التزامه ببند الدفاع المشترك في الناتو. ومع ذلك، فإن التركيز المفرط على هدف الـ 5% قد أبعد النقاش عن كيفية استخدام الميزانيات العسكرية الحالية بشكل أكثر كفاءة، على سبيل المثال من خلال الاتفاق على المشتريات المشتركة بين الحكومات الوطنية، وهو أمر حيوي لتعزيز الأمن الأوروبي في ظل تصاعد التوترات مع روسيا.
وأثقلت هذه التعهدات كاهل الدول الأوروبية، باستثناء ألمانيا التي تتمتع بوضع مالي قوي بفضل سنوات من التقشف، للوصول إلى عتبة الـ 5%، سيتعين على دول الاتحاد الأوروبي، التي تجاوزت ديونها بالفعل 80% من الناتج، أن تضاعف ما يقرب من ثلاثة أضعاف مبلغ الـ 325 مليار يورو الذي أنفقته على الدفاع العام الماضي ليصبح أكثر من 900 مليار يورو.
أما بريطانيا، التي لا تنتمي للاتحاد الأوروبي وتبلغ ديونها 100% من الناتج وتدفع بالفعل في خدمة الديون أكثر من أي بند إنفاق آخر باستثناء الصحة، ستحتاج إلى 30 مليار جنيه إسترليني إضافية، ويحذر نيك ويتني من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية من أن الخاسرين المحتملين ليسوا فقط الأجيال القادمة التي ستُثقل بديون ضخمة، بل مجتمعات اليوم أيضًا، ويضيف أن الشعوب الساخطة، التي لم يتعاف شعورها بالرفاهية الاقتصادية من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، ستصبح على الأرجح فريسة أسهل للسياسيين الشعبويين أو القوميين الذين يزدادون قوة في جميع أنحاء أوروبا.
ويثور التساؤل عما إذا كانت الدول ستزيد حصصها الدفاعية عن طريق تقليص بضعة مليارات هنا وهناك من مجالات أخرى، أو ما إذا كانت المجالات الكبيرة مثل المعاشات التقاعدية ستتعرض لضربة كبيرة، ومع مغادرة القادة لقمة لاهاي، ستأخذ المحادثات الوطنية حول الدفاع منحى مختلفًا تمامًا عما كانت عليه قبل الاجتماع. ينقسم هدف الـ 5% إلى 3.5% للإنفاق على الدفاع "الأساسي" - القوات والأسلحة - و 1.5% على الإجراءات المتعلقة بالدفاع مثل تكييف الطرق والجسور للتعامل مع المركبات العسكرية.
ومن المرجح أن تكون هناك مرونة كبيرة لإدراج بنود الإنفاق القائمة ضمن الفئة الثانية، ففي فرنسا، على سبيل المثال، هناك نقاش حول إمكانية إدراج أفراد الدرك الذين يقومون بدوريات في الطرق الريفية، والذين هم رسميًا جزء من وزارة الدفاع ولكن تكاليف تشغيلهم الحالية تقع خارج حساب التكلفة الدفاعية، كما أن المواعيد النهائية الطويلة التي تم تحديدها لتحقيق الهدف - التي تصل في بعض الحالات إلى عقد من الزمان - تتيح فرصة للتملص من تلك التعهدات مع تحول الأضواء السياسية إلى قضايا أخرى، فهل ستنجح أوروبا في الموازنة بين متطلبات الدفاع ورفاهية مواطنيها؟