تشهد منطقة الشرق الأوسط حاليًا واحدة من أكثر اللحظات اشتعالًا منذ سنوات، مع اندلاع مواجهة جوية مباشرة بين إيران وإسرائيل، تجاوزت حدود التهديدات والتصريحات إلى عمليات حربية مكتملة الأركان. ومن موقع متخصص في الاستراتيجية العسكرية، يتضح أن هذا التصعيد لم يعد مجرد رسائل بالنيران، بل إعادة تشكيل لميزان الردع بين قوتين تخوضان حربًا معلنة فوق السماء، ومحسوبة على الأرض.
الأسئلة الأهم: هل تتوقف إسرائيل عند أهدافها؟ وهل لدى طهران أوراق لم تُكشف بعد؟ وما مدى المشاركة الأمريكية فعليًا؟ ومتى قد تتدخل واشنطن لإيقاف التصعيد؟
بدأت المواجهة قبل أيام، حين أطلقت إسرائيل عملية جوية واسعة النطاق سُمّيت ميدانيًا باسم (الأسد الصاعد)، شاركت فيها قرابة 200 طائرة مقاتلة من طراز F‑35I، وُصفت بأنها الأعنف والأكثر تنسيقًا في تاريخ الصراع غير المباشر بين الطرفين.
استهدفت العملية نحو مئة موقع عسكري ونووي داخل إيران، بما في ذلك منشآت في نطنز وفردو وأصفهان. وتمّت الضربات بالتوازي مع عمليات تخريب وتفجير نفّذتها وحدات تابعة للموساد داخل العمق الإيراني، مستخدمة طائرات مسيّرة انتحارية وتقنيات إلكترونية متقدمة.
ووفقًا لتقرير نشرته وكالة AP الأمريكية، فقد دمّرت إسرائيل جزءًا كبيرًا من البنية الدفاعية الإيرانية، بما في ذلك رادارات، ومنصات دفاع جوي، وشبكات القيادة والسيطرة، إضافة إلى مراكز أبحاث نووية ومخازن مواد مشعة في أطراف أصفهان.
ويُقال إن العملية دمجت بين القدرات السيبرانية والاستخباراتية الجوية، في استعراض نوعي لقدرة إسرائيل على العمل في العمق الإيراني دون اعتراض فعلي يُذكر.
كما أكدت صحيفة فايننشال تايمز أن إسرائيل تمكنت، عبر عمليات دقيقة، من تحييد قادة بارزين في الحرس الثوري وغيره من القطاعات، ونجحت في تصفيتهم، ما أحدث حالة ارتباك حادة داخل الهرم العسكري الإيراني. وتضيف الصحيفة أن هذه الضربات الموجّهة كشفت عن اختراق كبير للمنظومة الاستخباراتية الإيرانية.
في المقابل، لم تتأخر إيران كثيرًا في الرد، حيث بدأت بشن ما أطلقت عليه (عملية الوعد الصادق 3)، والتي تضمنت إطلاق مئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة على أهداف عسكرية ومدنية داخل إسرائيل.
ورغم زعم إسرائيل أن نسبة الاعتراض تجاوزت 90٪، إلا أن بعض الصواريخ نجحت في الوصول إلى تل أبيب، والناصرة، وبات يام، وأسفرت عن مقتل مدنيين، إضافة إلى عشرات الإصابات.
هذا فيما رأت صحيفة (بيزنس إنسايدر) في تحليل مطوّل أن الضربة الإيرانية لم تكن بغرض الإضرار الفعلي، بقدر ما كانت تهدف إلى ترميم صورة الردع الإيراني، في أعقاب الخسائر الكبيرة التي تكبدتها منشآتها النووية والدفاعية.
وفقًا لتقرير نشرته CNN Business Arabic في 14 يونيو 2025، فإن إسرائيل أنفقت نحو 46.5 مليار دولار على ميزانيتها العسكرية لعام 2024، بزيادة سنوية بلغت 65٪ عن 2023، مما يجعلها ثاني أعلى نسبة إنفاق عسكري.
بينما تحتل إيران المركز الـ34 عالميًا بميزانية تقارب 7.9 مليار دولار، بعد تراجع بنسبة 10٪ مقابل العام السابق بسبب تضخم العقوبات.
وتعكس هذه الفجوة الكبيرة قدرة إسرائيل على الاستثمار بشكل أكبر في القدرات التكنولوجية، مثل القبة الحديدية، والصواريخ التكتيكية، والطائرات المتطورة، والدفاعات متعددة الطبقات.
بينما تعتمد إيران على حجم أكبر من الأفراد (حوالي 600 ألف في الجيش النظامي + 200 ألف في الحرس الثوري)، ومخزون صواريخ قديمة وطائرات مسيّرة منتجة محليًا مثل "شاهد"، لكن دون التحديث النوعي الذي تعتمده تل أبيب.
هذا الفارق في الإنفاق يفسر بدرجة كبيرة تفوق إسرائيل في الدفاع الجوي، والقدرة على الاعتراض والسيطرة، وهو ما ظهر بشكل واضح خلال اعتراض معظم الصواريخ والطائرات الإيرانية قبل أن تطال مواقع حيوية في أراضيها.
تؤكد المعلومات المتقاطعة أن إسرائيل لم تكتفِ بالجبهة الإيرانية، بل وسّعت من نطاق الضربات الجوية لتشمل أهدافًا في صنعاء والأراضي الحوثية ردًا على محاولة حوثية لاستهدافها.
هذه القدرة على المحاربة في عدة جبهات في وقت واحد، استحضر لدى بعض المراقبين أنها تعود لتقديم الولايات المتحدة دعمًا استخباراتيًا وعسكريًا متقدمًا لإسرائيل، يشمل التزويد بصور أقمار صناعية فورية، وبيانات من طائرات تجسس إلكتروني، وربما توجيه إلكتروني لضربات دقيقة.
بالإضافة إلى معلومات غير مؤكدة بأن هناك غرف عمليات مشتركة في إسرائيل تضم خبراء أمريكيين ضمن وفد استشاري دائم.
وحتى كتابة هذا التقرير، والحرب مستمرة، إلا أن الحديث عن ختام هذه المواجهة لا يزال غامضًا، ولكن السيناريوهات المتاحة تضيق مع كل ضربة جديدة.
* اتفاق غير معلن على وقف إطلاق النار بعد إيصال رسائل القوة، وهو مرهون بمدى تقبل الطرفين للخسائر.
* تصعيد تدريجي تتوسع فيه رقعة الحرب نحو لبنان وسوريا وغزة والخليج، ما قد يحوّل الصراع إلى حرب إقليمية.
* دخول عنصر دولي مباشر (كالأمريكي أو الروسي أو الصيني أو جميعها)، يحوّل الصراع إلى مواجهة قد تنذر بكارثة إقليمية.
السؤال الرئيسي: هل يمكن لإسرائيل التوقف فور تحقيق أهدافها؟
تبدو الإجابة في ضوء التقارير الدولية أنها مستبعدة.
فقد أشارت تقارير دولية، صادرة عن جهات مثل Foreign Policy، إلى أن إسرائيل ستستمر "طالما استدعى الأمر"، وضرورة تحييد التهديد الإيراني النووي، مما يشير إلى أن تحقيق أهداف تكتيكية لا يعني بالضرورة نهاية العمليات الجوية.
من ناحية أخرى، أكد تقرير لمركز Stratfor، نُشر بتاريخ 14 يونيو 2025، أن إسرائيل لن تتوقف حتى تضمن تدمير قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم لأقل من 20٪، مما يعني ارتباط وقف الحرب بتحقيق أهداف استراتيجية واضحة، وليس مجرد رسائل ردع مؤقتة.
ويرى المراقبون أن السيناريوهات لا تزال مفتوحة حتى الساعة، ويبدو بوضوح أن الجهات القادرة على إيقاف الصراع، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لا تزال تراقب المسار، وربما تنتظر وصوله إلى نقطة معينة.
وكان الرئيس الأمريكي قد تحدث أمس عن خطة مصالحة لوقف الحرب، مشابهة لما حصل بين الهند وباكستان. لكن هل وصل الوضع فعلًا إلى نقطة التدخل؟
وهل على إسرائيل أن تواصل حتى تحقق أهدافها الكاملة؟ وهل ستقبل إيران توقيت التوقف إذا كانت الخسارة من نصيبها؟
ترجّح تقارير وتحليلات دولية أن إيران ما زالت تملك مفاجآت قادرة على إرباك حسابات إسرائيل.
وفي هذه اللحظة، لا يبدو أن أحد الطرفين مستعد للتهدئة الكاملة، كما أن الوسطاء الدوليين لا يمتلكون القدرة على فرض مسار مختلف.
بل إن استمرار العمليات قد يفتح الباب لمعادلات ردع جديدة في الشرق الأوسط، تتجاوز طهران وتل أبيب إلى ساحات أوسع.
فمن يحدد شروط الخروج من هذا الجحيم الذي يهدد المنطقة؟
الأرجح – بخلاف واشنطن – لا أحد يمتلك هذا الامتياز حتى الآن.