في قطاع غزة المحاصر، تتكشّف فصولُ مأساةٍ إنسانية عميقة بعد قرارٍ إسرائيلي بفرض حصارٍ كاملٍ على القطاع لأكثر من ستين يوماً، مانعاً بذلك دخول الغذاء والوقود حتى الأدوية الأساسية، يصف أطباءٌ ومسؤولون صحيون الأوضاع بأنها كارثية، حيث يواجه نحو مليونَي نسمة واقعاً يومياً محفوفاً بالخطر وشبح الموت، خاصة المرضى الذين باتوا عاجزين عن الحصول على العلاج، وبينما تبرّر إسرائيل إجراءاتها بأسباب أمنية، وبضرورة إطلاق سراح الرهائن، تندّد منظمات إنسانية ودول أوروبية بالحصار الكامل؛ باعتباره انتهاكاً للقانون الدولي واستخداماً للمساعدات كأداة سياسية.
يتجلى التأثير المدمّر للحصار بشكلٍ صارخٍ في القطاع الصحي المنهار بالفعل، ويتلقى منير البرش؛ مدير عام وزارة الصحة في غزة، سيلاً من المكالمات اليائسة من أطباءٍ يسألون عن أيّ بصيص أملٍ للعثور على أدوية ضرورية لإنقاذ حياة مرضاهم، حتى المرضى أنفسهم، ممَّن يعانون حالات يمكن علاجُها مثل أمراض القلب أو الفشل الكلوي، يتصلون مباشرة، لا يجدون سوى العجز والإجابة المُرة: لا يوجد دواء، ولا بديل، ويعترف البرش؛ بمرارة: "ليس لديّ أيّ نصيحة يمكنني تقديمها لهم. في معظم الحالات، يموت هؤلاء المرضى". هذا الواقع المرير يسلط الضوء على التكلفة البشرية المباشرة للحصار، وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز".
وتدافع إسرائيل عن موقفها، مؤكدةً أنها لن تتراجع عن إجراءاتها إلا بعد إفراج حركة حماس عن الرهائن الذين ما زالت تحتجزهم، في سياق انهيار وقف إطلاق النار الذي شهدته المنطقة في مارس الماضي، وتزعم سلطات الاحتلال الإسرائيلية بأن حصارها قانوني بموجب القانون الدولي، وتصر على أن قطاع غزة لا يزال يمتلك مخزوناً كافياً من المؤن الأساسية لتلبية احتياجات السكان.
غير أن هذا الادعاء يواجه انتقادات حادّة من قبل منظمات إنسانية دولية ومسؤولين أوروبيين بارزين، ويتهم هؤلاء إسرائيل صراحةً باستخدام المساعدات الإنسانية كأداة سياسية للضغط على "حماس" والسكان المدنيين في غزة، ويذهبون إلى أبعد من ذلك بتحذيرهم الشديد من أن الحصار الكامل الذي تفرضه إسرائيل على القطاع يشكّل انتهاكاً واضحاً للقانون الدولي، مؤكدين على ضرورة تدفق المساعدات دون قيودٍ لإنقاذ الأرواح.
وتتفاقم الظروف الحالية بفعل واقعٍ مريرٍ عاشه سكان القطاع قرابة عقدَيْن من الزمن. فالحصار الكامل الحالي يأتي ليستكمل ويشدّد من قبضة الحصار الجزئي، الذي فرضته إسرائيل على القطاع في عام 2007، وتعني شدّة الحصار الحالي أنه بات يطول كل مناحي الحياة اليومية لنحو مليونَي فلسطيني يعيشون محاصرين داخل هذا الجيب الساحلي الضيق، مما يضاعف من معاناتهم ويقوّض قدرتهم على الصمود.
وفي المحصلة، يعيش قطاع غزة تحت وطأة حصارٍ إسرائيلي شاملٍ يهدّد حياة سكانه ويدفعهم نحو هاوية إنسانية غير مسبوقة، وبينما تتضارب الروايات حول مبررات هذا الحصار ومدى قانونيته، يبقى الواقع الميداني شاهداً على تفاقم المعاناة والعجز المتزايد في مواجهة نقصٍ حادٍ في أبسط مقومات الحياة.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، ومع استمرار إغلاق المعابر أمام المساعدات الضرورية، يبقى السؤال الملّح يطرح نفسه بقوة: إلى متى سيستمر هذا الخناق؟ وما المصير الذي ينتظر نحو مليونَي إنسان باتوا يعيشون بين مطرقة الحصار وسندان الحاجة الماسّة؟