في غضون مئة يوم فقط، تمكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ من تحقيق تقدمٍ لافتٍ نحو هدفٍ أعلنه صراحة: نسف النظام الاقتصادي العالمي الذي ساد لعقودٍ طويلة، ففي حملةٍ سريعة ومكثّفة، أقدمت إدارته من واشنطن على إشعال فتيل حربٍ تجارية عالمية غير مسبوقة، ومزّقت معاهدات دولية قائمة؛ بل شكّكت علانيةً في التزام الولايات المتحدة بالدفاع عن حلفائها التقليديين في أوروبا، في تحوُّلٍ جذري هزَّ أركان التحالفات الراسخة.
ولم يقتصر التغيير على السياسات الخارجية فحسب، بل امتد ليشمل تفكيكاً ممنهجاً للبنية التحتية الحكومية الداخلية، التي كانت بمنزلة الذاكرة المؤسّسية والخبرة المتراكمة التي توجّه السياسة الاقتصادية والتجارية الأمريكية على الساحة الدولية، في إشارةٍ واضحة إلى عُمق التحوُّل الذي سعى إليه ترامب.
التغييرات التي أحدثها ترامب كانت عميقة وبالغة الأثر، ومع ذلك، يستمر العالم في الدوران، وتظل مسارات المستقبل مفتوحة على احتمالات متعدّدة، فعلى الساحة السياسية الأمريكية الداخلية، قد تشهد انتخابات منتصف الولاية بعد عامين تآكلاً في الأغلبية الجمهورية داخل الكونغرس، كما أن فترة حكم ترامب الرئاسية مقيدة دستورياً بأربع سنوات وتنتهي برحيله عن البيت الأبيض، وهذا الواقع يفتح الباب لتساؤلٍ محوري: هل يمكن لرئيس أمريكي قادم أن يتولى السلطة ويلغي ببساطة ما قامت به إدارة ترامب؟ وفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
وعلى الرغم من أن هذه المرحلة لا تزال مبكرةً نسبياً لتقييم الأثر الكامل، يتفق عديدٌ من المؤرخين وعلماء السياسة على أن بعض التغييرات الحاسمة التي أحدثها السيد ترامب؛ قد تكون صعبةً للغاية؛ إن لم تكن مستحيلة، على التراجع عنها بالكامل.
وأحد أبرز هذه التغييرات هو التآكل الكبير في الثقة بالولايات المتحدة كشريكٍ موثوقٍ به وقائدٍ للنظام العالمي، وهذه الثقة لم تُبنَ بين عشية وضحاها، بل استغرقت أجيالاً من العمل الدبلوماسي، والالتزام بالمعاهدات، وتقديم الدعم للأصدقاء والحلفاء لبنائها وترسيخها، وعندما تتخذ واشنطن خطوات أحادية الجانب، أو تتخلى عن التزامات سابقة، فإنها تقوّض هذه الثقة التي تُعد رأسمالاً إستراتيجياً لا يُقدّر بثمن، ويصبح ترميمها عملية شاقة وطويلة الأمد.
علاوة على ذلك، فإن الظروف التي مكّنت صعود حركة "جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى" التي قادها ترامب لا تزال قائمة، ومن المتوقع أن تستمر حتى بعد رحيله عن المشهد السياسي المباشر، ويشير إيان غولدين؛ أستاذ العولمة والتنمية في جامعة أكسفورد، إلى أن "قاعدة جعل أمريكا عظيمة وجي. دي. فانس سيبقون موجودين بعد فترة طويلة من رحيل ترامب".
تتمثل هذه الظروف بالأساس في اتساع فجوات عدم المساواة الاقتصادية داخل الولايات المتحدة، والشعور المتزايد بانعدام الأمن الاقتصادي لدى شرائح واسعة من السكان الذين يرون أن العولمة والترتيبات التجارية القائمة لم تعد تخدم مصالحهم، وما دامت هذه المشكلات الهيكلية قائمة، فإنها توفّر بيئة خصبة لظهور شخصيات أو حركات أخرى تتبنى خطاباً مشابهاً لخطاب ترامب؛ المناهض للمؤسسة والنظام العالمي.
بالنسبة لبقية العالم، لا يزال هناك قلقٌ حقيقيٌّ وملموسٌ من أن المستقبل قد يحمل في طياته ظهور "ترامب آخر"، وهذا القلق لا ينبع فقط من احتمال تكرار السياسات نفسها؛ بل أيضاً من إدراك أن أسس النظام العالمي قد اهتزت، وأن العودة إلى الوضع السابق ليست أمراً مسلماً به، لقد كشفت الحقبة الماضية عن نقاط ضعفٍ في بنية الحوكمة العالمية وعن وجود قوى داخلية في الدول الكبرى يمكن أن تسعى إلى تغيير المسار بشكلٍ جذري.
وتبقى التساؤلات حول قدرة النظام العالمي على استعادة توازنه وثقة الدول الأعضاء به أمراً معلقاً على ميزان الزمن وتطورات الأحداث، فهل يمكن فعلاً محو بصمة الاضطراب الاقتصادي والجيوسياسي التي خلفتها هذه الحقبة؟