تخلف ثلاثة رجال من المسلمين عن الخروج في غزوة تبوك، ولكن رغم فداحة الذنب وعظمته تجاوز الله عنهم وغفر لهم صنيعهم، لأنهم كانوا صادقين مع أنفسهم ومع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لم يخادعوه ولم يأتوا بأعذار كاذبة، بل صدقوا واعترفوا بتخلفهم، ولجؤوا إلى الله تائبين مستغفرين فتاب الله عليهم .
وقوله عز وجل: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا، أي خلفوا عن غزوة تبوك، وقيل: خلفوا أي: أرجئ أمر توبتهم، وهؤلاء الثلاثة هم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، كلهم من الأنصار.
وفي رواية متواترة بكتب الحديث، قال كعب: غزا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة، حين طابت الثمار، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجهز المسلمون معه، ولم أتجهز وأقول في نفسي سألحق بهم حتى إذا خرجوا ظننت أني مدركهم، وليتني فعلت، فلما انفرط الأمر، أصبحت وحدي بالمدينة لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق - أي مشهورا به - أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء، فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعًا من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب (أفكر في عذر غير صحيح)، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل (رفضت أي عذر كاذب)، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه.
فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك .
فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلومونني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع وهلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة .
ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتبنا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي .
ويقول كعب: بينما أنا في هذا الحال إذ جاءت رسالة من ملك غسان (النصراني) يقول لي: الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك، قلت: هذا من البلاء (اختبار لإيماني) أيضًا، فحرقت الرسالة، فلما مضت أربعون ليلة إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي فقلت لها: الحقي بأهلك، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً.
فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة، قال كعب: فما أنعم الله عليّ بنعمة بعد الإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، والله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني.
ونزل في توبة الثلاثة قوله تعالى: "وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)" (سورة التوبة).
وهكذا أزاح الله هذه الغشاوة المحزنة عن هؤلاء النفر الثلاثة، بعدما كادوا يقعون في الهلاك بسبب تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضاقت عليهم الأرض رغم رحابتها، وضاقت عليهم أنفسهم، فعلموا أن الملجأ من الله لا يتم إلا بالعودة إليه، فاستجاب الله لهم، وغفر زلتهم.
وهكذا تعلمنا القصة أن القعود عن الجهاد عند استنفار ولي الأمر يعد إثمًا كبيرًا في الإسلام تجب التوبة منه، تعامل الصحابة مع أمر النبي صلي الله عليه وسلم، وتنفيذهم له، حتى ولو كان الأمر يتعلق بأقاربهم، وظهر ذلك في مقاطعة الرجال الثلاثة وحتى اعتزال النساء، أيضا يظهر ولاء الصحابة الصادق لله، فرغم فداحة الحادثة وصعوبة المقاطعة لم يفكر كعب بن مالك في اللحاق بالكافرين ولم يلتفت إلى عرضهم .
أما أهم قيمة نتعلمها فهي الصدق، وكيف أن الصدق هدى الثلاثة إلى البر ورضوان الله، اللهم ارزقنا الصدق، واحشرنا مع الصديقين.