في قفزة استباقية لاحتواء تداعيات الحرب الأوكرانية المستعرة، اجتمع قادة أوروبا في لندن تحت ضغط الزمن لصُنع تاريخٍ جديد، وبينما تتصاعد المخاوف من تحوُّل الصراع إلى أزمة عالمية لا تُحمد عقباها، أعلن الزعماء خُطة سلامٍ طموحة تهدف إلى كسر الجمود العسكري وإعادة الأمل في حل دبلوماسي، لكن التحدّي الأكبر يكمُن في إقناع واشنطن، بقيادة الرئيس دونالد ترامب المُتقلب، بالانضمام إلى هذه المبادرة قبل فوات الأوان.
واجتمع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي؛ مع نظيره البريطاني كير ستارمر؛ والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؛ وقادة من 15 دولة أوروبية في قمة طارئة نادرة، لم تكن اللقاءات الرسمية هي الوحيدة التي لفتت الانتباه؛ فزيارة زيلينسكي المفاجئة إلى مقر إقامة الملك تشارلز في شرق إنجلترا أكّدت عُمق التحالف البريطاني-الأوكراني، بينما حاول الأوروبيون طمأنة كييف بعدم التخلي عنها رغم التقلبات الأمريكية، وفقاً لـ"رويترز".
وكشف الرئيس الفرنسي ماكرون؛ النقاب عن خطة السلام الأوروبية التي ترتكز على وقف إطلاق نار جزئي لمدة شهر، يستثني القتال البري، لكنه يجمّد الهجمات الجوية والبحرية، وتهدف الفكرة إلى إيجاد مساحة للتفاوض، مع إشارات إلى احتمال نشر قوات أوروبية كـ"درع وقائية" إذا نجحت المفاوضات، لكن التفاصيل ما زالت غامضة، خاصة فيما يتعلق بضمانات تنفيذ الاتفاق وردود الفعل الروسية.
وأكّدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين؛ أن زيادة الإنفاق الدفاعي أصبحت ضرورة حتمية. لم تكن كلماتها مجرد شعارات؛ فالقارة العجوز تسعى لتحويل أوكرانيا إلى "قنفذ فولاذي" -مصطلح استُخدم خلال الحرب الباردة لوصف دولٍ يصعب اجتياحها- عبر تعزيز القدرات العسكرية وتكديس الذخائر. بريطانيا، التي زادت إنفاقها الدفاعي أخيراً، تُظهر حماساً لقيادة هذا التحوُّل، بينما تواجه دولٌ أُخرى ضغوطاً اقتصادية قد تُعيق التزامها.
ورغم الغياب الأمريكي عن القمة، إلا أن شبح ترامب طغى على كل النقاشات. إدارة البيت الأبيض الجديدة، التي قلبت سياسات بايدن رأساً على عقب، ترفض اليوم التعهد بدعم أوكرانيا دون شروط. تصريحات ترامب الأخيرة على منصة "سوشال تروث" -حيث وصف الأوروبيين بـ"الضعفاء" وطالبهم بتحمُّل تبعات حمايتهم الذاتية- تُظهر أن الطريق إلى واشنطن مليءٌ بالشوك.
ولم تكن موسكو بعيدة عن المشهد، فقد هاجم وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف؛ المبادرة الأوروبية ووصفها بـ"المُهينة"، مُتهماً أوروبا بمحاولة إطالة أمد الحرب، وفي المقابل، أشاد لافروف بترامب ووصف نهجه بـ"العقلاني"، في إشارة إلى أن الكرملين يرى في الرئيس الأمريكي حليفاً محتملاً قد يُعيد رسم خريطة التحالفات العالمية.
ورفض الرئيس الأوكراني أيَّ تنازلات إقليمية، مؤكداً أن "الحدود ليست سلعة قابلة للمساومة"، ورغم تصريحاته المطمئنة للداعمين الأوروبيين، فإن زيلينسكي يواجه معضلة وجودية: كيف يُوازن بين رفض التنازلات وإقناع ترامب، الذي يرى في الصراع "مضيعة للموارد الأمريكية"؟ إجابته جاءت واضحة: "الدبلوماسية ستنجح فقط إذا وقف العالم كله خلف أوكرانيا".
والخطة الأوروبية، وإن كانت خطوةً غير مسبوقة، تبقى حبراً على ورق دون ضمانات أمريكية، والأسئلة المُعلَّقة أكثر من الإجابات: هل ستوافق واشنطن على تقديم الغطاء الجوي والاستخبارات المطلوبة؟ هل ستلتزم الدول الأوروبية بزيادة الإنفاق الدفاعي وسط أزماتها الداخلية؟ والأهم: هل سينجح زيلينسكي في تحويل "قنفذه الفولاذي" إلى حصنٍ منيع؟
ويبقى التحدّي الأكبر هو إقناع ترامب بأن السلام في أوكرانيا ليس مجرد قضية أوروبية؛ بل اختبارٌ مصيري لمستقبل النظام العالمي.. فهل سينجح الأوروبيون في كسب هذه المعركة الدبلوماسية قبل أن تتحوَّل الحرب إلى حريقٍ لا يُخمَد؟