يعتبر حي الشيخ مقصود في مدينة حلب، الممتد على مساحة نحو 4000 متر من أكبر أحياء المدينة ويمثل بوابة إلى معظم أحيائها المهمة، غير أنه لا يزال يخضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية الكردية "قسد" وذراعها العسكري "وحدات حماية الشعب" صحبة حي الأشرفية وجزء من حي بني زيد، وهي تمتنع حتى اللحظة عن الاستجابة لسلطة الدولة الجديدة رغم المحاولات الحثيثة، التي جرت لدمج هذه القوى داخل بنيان المؤسسات الرسمية، فبموجب اتفاق في أبريل/ نيسان الماضي، كان من المفترض أن تشرع القوات الكردية في الانسحاب.
نتيجة لذلك الوضع الهش، كادت الأمور تنفجر في غير ما مناسبة، آخرها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي عقب تدمير نفق للوحدات الكردية في المنطقة، مما تسبب في اندلاع اشتباكات أوقفها اتفاق سريع لوقف إطلاق النار برعاية أميركية، قبل أن يبلغ التصعيد محطته الأخيرة (22 ديسمبر/ كانون الأول) حين اندلعت اشتباكات عنيفة بدأت بانسحاب عناصر "قسد" فجأة من الحواجز المشتركة ومبادرتهم بإطلاق النار على القوات الحكومية، وفق رواية الحكومة السورية التي تنفيها "قسد" متهمة القوات الحكومية ببدء الهجوم.
سرعان ما خرجت الأمور عن السيطرة وزادت حدة الاشتباكات لتشمل أسلحة متوسطة وثقيلة، من بينها قذائف هاون ودبابات، سقط بعضها في مناطق مأهولة بالسكان. والنتيجة هي مقتل 4 مدنيين وإصابة آخرين بجروح متفاوتة، بينهم اثنان من المسعفين التابعين للدفاع المدني السوري، إثر تعرّض سيارة إسعاف لإطلاق نار مباشر أثناء محاولتها إخلاء المصابين، وذلك قبل أن تتدخل الولايات المتحدة مجددا لاحتواء الموقف والدفع باتجاه وقف إطلاق النار.
أتت هذه المعارك في توقيت حيوي للغاية، ففي اليوم نفسه، حلّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في دمشق صحبة وزير الدفاع ورئيس الاستخبارات لإجراء محادثات دبلوماسية تهدف إلى تثبيت اتفاق العاشر من مارس/ آذار 2025 الذي ينص على دمج القوات الكردية في الجيش الوطني السوري الجديد بحلول نهاية العام.
غير أن الحكومة السورية وجدت نفسها في خضم نزاع متصاعد، شابه بعض التعنت من قسد حول كيفية تحقيق هذا الدمج وشروطه. تريد دمشق وضع تلك القوات والموارد والأراضي تحت سيطرتها ضمن مشروعها لتوحيد الأمة السورية، وهو ما تعارضه "قسد" ضمنيا رافضة التخلي عن نزعتها الانفصالية وهيكل قيادتها الموحد الذي ترى أنه وسيلتها للنفوذ والضغط.
لا يقتصر المشهد المتوتر في حلب وشمال شرق البلاد على كونه مجرد مناوشات ميدانية معتادة، بل يمثل أول اصطدام حقيقي ومباشر بين شرعية الدولة الوليدة وبين سلطة الأمر الواقع التي رسختها سنوات الحرب. وهنا يكمن جوهر "الاختبار الأصعب" الذي يواجه سوريا الجديدة؛ فمصير العلاقة مع "قسد" لن يحدد فقط شكل الخارطة العسكرية لعام 2026، بل سيرسم ملامح الهوية السياسية للدولة برمتها. هل ستكون سوريا موحدة مركزية كما يطمح الرئيس الشرع وحلفاؤه في أنقرة، أم ستنزلق نحو نموذج فدرالي رخو تسعى له أطراف إقليمية لإضعاف الانتقال في سوريا، أو ربما تقسيم فعلي تحلم به إسرائيل؟
ومع دخول عام 2026، تضيق مساحات المناورة وتتلاشى الحلول الوسطى التي كانت مقبولة زمن الحرب أو في الأشهر الأولى بعد سقوط الأسد. فالعام المقبل هو الموعد النهائي لحسم تناقضات استمرت لعقد ونصف، حيث يقف الجميع أمام استحقاقات لا تقبل التأجيل، إما اندماج كامل يعيد للدولة احتكارها للقوة، وإما صدام مفتوح قد يعيد خلط الأوراق الإقليمية من جديد، وهو ما يضع دمشق و"قسد" أمام سيناريوهات مصيرية لا مفر منها.
لفهم دلالة الاشتباكات الأخيرة، لا بد من استيعاب التحولات الجذرية التي سبقتها. ففي الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، انهار نظام الأسد، الذي حكم سوريا أكثر من 5 عقود ودخلت المعارضة التي تهيمن عليها هيئة تحرير الشام إلى العاصمة دمشق وأُعلن قائد الهيئة أحمد الشرع رئيسا انتقاليا للبلاد.
لكن رحيل الأسد وحده لم يكن كافيا لحل المشكلات المتفاقمة التي رسخها نظامه، وأبرزها التوترات الحاصلة عند بعض المكونات، وتنازع السيطرة على الأراضي بين العديد من الفصائل المتحاربة وأبرزها قوات سوريا الديمقراطية، التي لم تكن أي ولاء للحكومة السورية الجديدة.
على مدار سنوات الثورة والحرب في سوريا، تمكنت قوات سوريا الديمقراطية من ترسيخ نفسها في الشمال السوري مستفيدة أولا من "تجاهل" النظام السوري الذي أراد استخدامها لتطويق الحراك الثوري (رغم دعم معظم الأكراد للثورة في البداية)، ولاحقا من دعم الولايات المتحدة لها كفرس رهان في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ومع رحيل الأسد، ووصول الرئيس الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تغيرت الرؤية الأميركية، وباتت تركز أكثر على استقرار سوريا مع إبداء استجابة للمخاوف التركية من التهديدات على حدودها الجنوبية، حيث أوكل ترامب لمبعوثه الخاص إلى سوريا توماس براك مهمة الإشراف على مفاوضات بين قسد والحكومة السورية الجديدة.
نتيجة لذلك، وفي العاشر من مارس/آذار 2025، وقّع الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي اتفاقا تاريخيا برعاية أميركية. كانت بنود الاتفاق واضحة من حيث المبدأ، وأهمها دمج قوات سوريا الديمقراطية في مؤسسات الدولة السورية، ووضع المعابر الحدودية والمطارات وحقول النفط في الشمال الشرقي تحت سيطرة الحكومة المركزية، مع الاعتراف الدستوري بالحقوق السياسية والثقافية للأكراد. وحُدّد الموعد النهائي لإتمام الدمج بنهاية العام الحالي 2025، أي بعد زهاء 9 أشهر على توقيع الاتفاق.
ولكن كما العادة فإن الشيطان يكمن في التفاصيل التي تلبست بالكثير من الغموض، مما فتح الباب على مصراعيه أمام تفسيرات متباينة لبنود الاتفاق، وشكوك بشأن جدية التنفيذ وتوقيته.
على الجانب الكردي، تصر قيادات "قسد" على انضمام قوات سوريا الديمقراطية إلى الجيش السوري ككتلة موحدة، مع الحفاظ على هيكلها التنظيمي المتميز، وهرميتها القيادية، وهويتها الخاصة ضمن الجيش الوطني الجديد.
يعد هذا المطلب أشبه بتأسيس جيش داخل الجيش وهو نابع من قناعة عبدي والقيادة الكردية أنه بمجرد تشتت مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية كأفراد في مختلف مستويات الجيش السوري، ستفقد القوات الكردية نفوذها وقدرتها على المساومة السياسية.
أما الحكومة السورية، فتتمسك بدمج مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية في وحدات الجيش النظامي تحت القيادة الكاملة لوزارة الدفاع، على أن يخضع توزيعهم وانتشارهم لسلطة الدولة، دون ممانعة لمنح الأكراد حصة في المناصب العسكرية القيادية. من وجهة نظر دمشق، يتوافق هذا النهج مع هدفها لتوحيد الشعب السوري في حقبة ما بعد الأسد، ويمنع ترسيخ مراكز قوة متنافسة كما يعيد تأكيد احتكار الدولة الجديدة للقوة.
ولكن بحلول ديسمبر/كانون الأول، قدمت دمشق تنازلا تكتيكيا قبلت خلاله إعادة تنظيم عشرات الآلاف من مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية في 3 فرق رئيسية وألوية أصغر، مما يسمح بالحفاظ على قدر من تماسك الوحدات الكردية مع خضوعها في الوقت نفسه لسيطرة وإشراف الجيش والحكومة. ويمثل هذا تحولا كبيرا عن المطالب السابقة بدمج الوحدات الكردية كأفراد، لكن ليس من الواضح ما إذا كان كافيا لإرضاء الأكراد الذين يعتقدون أنه لا يمنحهم ما يكفي من الاستقلالية.
يتجاوز الخلاف بين الحكومة السورية و"قسد" مسألة توحيد الجيش نحو قضية لا تقل أهمية وتتعلق بحقول وعائدات النفط، حيث تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على حوالي 70% من احتياطيات النفط والغاز المؤكدة في سوريا، الواقعة داخل مناطق سيطرتها في غالبية أراضي محافظتي الحسكة والرقة والأراضي الواقع على الضفة الشرقية لنهر الفرات في محافظة دير الزور.
وتشير التقديرات إلى أن هذه الحقول تنتج 14 ألف برميل يوميا فقط في الوقت الراهن (وهي حصة ضئيلة مقارنة بمستويات الإنتاج التاريخية قبل الحرب)، إلا أن عائداتها توفّر للإدارة الكردية الإيرادات اللازمة لتمويل الحكم والمجهود العسكري في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وبصفتها كيان غير شرعي، تقوم قوات سوريا الديمقراطية بتصدير النفط من خلال مسارات تهريب غير مستقرة ما يحد من إيراداتها، هذا بخلاف افتقارها إلى رأس المال والتكنولوجيا والاعتراف القانوني اللازم لإعادة تأهيل البنية التحتية المتضررة. إدراكا لهذا المأزق وافقت قسد في فبراير/شباط 2025 على بدء توريد 5 آلاف برميل من النفط يوميا إلى مصفاة الحكومة المركزية في حمص، في خطوة تهدف إلى إظهار التعاون.
أما بالنسبة للحكومة السورية والرئيس أحمد الشرع، فإن إخضاع كامل البنية التحتية للطاقة لسيطرة الدولة هو أمر لا يقبل المساومة، ليس فقط لأنه دليل على السيادة، ولكن الأهم لأنه شرط أساسي لجذب المستثمرين الجادين. وقد أبدى فاعلون خليجيون اهتماما بإعادة تأهيل مصافي النفط في حمص وبانياس، بينما سعت دمشق إلى استقطاب شركات أميركية مثل كونوكو فيليبس ونوفاتيرا إنرجي لتطوير حقول الغاز، إلى جانب إجرائها محادثات استكشافية مع شيفرون حول فرص التنقيب البحري. ولن تتحقق أي من هذه الاستثمارات بالكامل إذا بقيت الحقول الرئيسية وخطوط الأنابيب والمعابر الحدودية خاضعة لسلطة قانونية متنازع عليها.
في هذا الملف تحديدا، تدرك "قسد" أهمية الشرعية التي تتمتع بها الحكومة السورية حاليا، لكنها ترغب في استخدام سيطرتها للتفاوض على صيغة لتقاسم العائدات بدعوى تعويض المنطقة عن "سنوات التهميش" في ظل حكم الأسد. في المقابل، تُصر دمشق على أن ثروة النفط ملك للدولة السورية، ويجب تخصيصها وفقا للأولويات الوطنية التي تحددها الحكومة في دمشق.
يتجاوز هذا الشق من النزاع الجوانب الاقتصادية الظاهرة، فمن دون تدفق الموارد المالية الذي توفره عائدات النفط، لا تستطيع قوات سوريا الديمقراطية الحفاظ على فعالية جهازها العسكري، وما تمنحه من دعم وتمويل لمؤيديها في المناطق التي تسيطر عليها، أو حتى مقاومة أي ضغوط من الحكومة السورية. الأهم من ذلك، أن كلتا القضيتين السابقتين -دمج الأكراد في الجيش والسيطرة على النفط- ترتبطان بشكل وثيق بالرؤية النهائية التي تراها الدولة السورية الجديدة للمستقبل.
فقد دعت الفصائل السياسية الكردية في أكثر من مناسبة إلى "الفدرالية"، وهي نظام لا مركزي يتمتع فيه شمال شرق سوريا بإدارة منتخبة خاصة وقوات أمنية مستقلة وموارد اقتصادية، مع بقائه جزءا من سوريا في نموذج شبيه بما يتمتع به الأكراد في إقليم كردستان العراق، حيث تحتفظ أربيل بحكومتها الخاصة، بينما تتمتع بغداد بالسيادة على السياسة الخارجية والدفاعية والاقتصادية العامة.
يسمح ذلك التصور لـ"قسد" باستمرار السيطرة على مناطق نفوذها في شمال وشرق سوريا تحت إطار "الإدارة الديمقراطية المستقلة لشمال وشرق سوريا"، وهو هيكل الحكم الذي أسسه الأكراد السوريون عام 2018.
أما الحكومة السورية فترفض صراحة النظام الفدرالي، ويصفونه بأنه تهديد لوحدة سوريا وسلامة أراضيها. لا ينبع هذا الموقف فقط من التزام ثوري يتصور سوريا دولة مركزية موحدة، لكنه ينطلق من بواعث أمن قومي بحتة أيضا. ذلك أن حصول أكراد سوريا على حكمٍ ذاتي فدرالي من شأنه أن يفتح الباب أمام مطالبات مماثلة من العلويين في الساحل، والدروز في الجنوب، مما قد يُزعزع تماسك الدولة في الوقت الذي تركز فيه على إعادة بناء نفسها.
كانت الفلسفة الكامنة وراء اتفاق مارس/آذار هي محاولة التوصل إلى حلٍ وسط بين الطريقين، يعد بالاعتراف الدستوري بالخصوصية الثقافية للأكراد، و"التمثيل العادل لجميع السوريين في العملية السياسية بناء على الكفاءة"، إلا أن ذلك لم يمنع الفصائل الكردية من محاولة الاحتشاد حول برنامج سياسي مشترك يطالب بالفدرالية. والنتيجة النهائية هي مفاوضات ونزاعات تختلف فيها الدولة مع قسد ليس حول تفاصيل التنفيذ كما يبدو ظاهريا، ولكن حول طبيعة النظام الدستوري السوري المنتظر.
وإذا تجاوزنا الديناميات الداخلية نحو النظر للمشهد الإقليمي الأوسع، لا يُمكن التهوين من نفوذ تركيا على مجريات النزاع بين الحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية. تمتلك أنقرة أشكالا مُتعددة من النفوذ: سواء قواتها العسكرية المُتمركزة في شمال سوريا أو علاقاتها الدبلوماسية الوطيدة مع أحمد الشرع والحكومة السورية الانتقالية، والأهم من ذلك كله نظرتها الحاسمة إلى ذلك الصراع كجزء لا يتجزأ من أمنها القومي، مما يجعلها مستعدة للتدخل عسكريا إذا لزم الأمر.
يُمثل حزب العمال الكردستاني، المُصنف منظمة إرهابية من قِبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا نفسها، وفروعه المُختلفة مصدر القلق الأمني الأساسي لأنقرة بفعل التمرد الذي يشنه منذ عقود في جنوب شرق تركيا. وتنظر أنقرة إلى وحدات حماية الشعب التابعة لقوات سوريا الديمقراطية كجزء لا يتجزأ من الهيكل التنظيمي لحزب العمال الكردستاني، وليس كفصيل محلي ينصب تركيزه على السياسة السورية.
لم تولد هذه القناعة التركية من عدم، ولكنها عقيدة أمنية صلبة بنتها أنقرة عبر عقود منذ أن بدأ نظام حافظ الأسد في استضافة حزب العمال الكردستاني ودعمه مطلع الثمانينيات مرورا بمكوث عبد الله أوجلان (مؤسس حزب العمال نفسه) فترة طويلة في سوريا، ووصولا لوقائع تدريب مقاتلي الحزب في سهل البقاع اللبناني وفي الزبداني السورية تحت إشراف النظام السوري.
لاحقا، أصبح حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (المظلة السياسية لقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الكردية غير المعترف بها في شمال شرقي سوريا) طرفا رئيسيا في التواصلات بين حزب العمال الكردستاني ورؤساء المخابرات السورية.
تفسر هذه الحقائق كيف تمكن حزب الاتحاد الديمقراطي من إنشاء وحدات حماية الشعب وتعبئتها وتسليحها بهذه السرعة بعد اندلاع الانتفاضة السورية. وكما يوضح المعهد الهولندي للعلاقات الدولية "كلينغندال" فإن الثورة السورية والحرب التي شنّها الأسد على إثرها منحت فرصة لحزب العمال الكردستاني لتعزيز نفوذه عبر ضخ المقاتلين والموارد إلى سوريا مستغلا البنية التحتية لحزب الاتحاد الديمقراطي من أجل بناء وجود في منطقة متاخمة لتركيا، وهو ما منح حزب العمال نفوذا على عملية صنع القرار في حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية، وضمن انتقال المقاتلين بين التنظيمات الكردية المختلفة، وحافظ على "اتصالها" الأيديولوجي.
ومع إعلان مؤسس حزب العمال عبد الله أوجلان مؤخرا إنهاء التمرد المسلح والانتقال للعمل السلمي الديمقراطي وسحب الحزب مقاتليه من الأراضي التركية، أصبحت قوات سوريا الديمقراطية التهديد الرئيسي للأمن التركي، خاصة أنها تحولت لوجهة مفضلة لكوادر العمال الكردستاني الرافضين لإلقاء السلاح، الذين فضلوا المغادرة من جبال قنديل وكارا إلى شمال شرق سوريا حيث تسيطر قسد. لذلك، يُعد السماح لهذه القوات بالحفاظ على بنية عسكرية موحدة ومستقلة على الحدود السورية التركية أمرا غير مقبول إستراتيجيا بالنسبة إلى أنقرة.
لا عجب في مطالبة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أكثر من مرة بحلّ قوات سوريا الديمقراطية كمنظمة بشكل كامل، ودمج مقاتليها كأفراد في الجيش السوري (حيث يُمكن إعادة توزيعهم بعيدا عن الحدود التركية)، متبنيا موقفا أكثر صلابة حتى من الحكومة السورية نفسها. ففي تصريحات علنية، قال فيدان إن قوات سوريا الديمقراطية أبدت "عزوفا واضحا" عن التزاماتها في عملية الاندماج، وألمح إلى أنه في حال فشل اتفاق مارس/آذار فإن تركيا لا تمانع اللجوء إلى الوسائل العسكرية، وهو تحذير لا ينبغي الاستهانة به بالنظر إلى الصرامة التي أظهرتها تركيا في هذه القضية من قبل.
ومع النبرة الحاسمة لتركيا، تطلع الجميع إلى الولايات المتحدة التي تتبنى موقفا أبعد ما يكون عن المألوف في هذه القضية. لسنوات، عُدت واشنطن الداعم الرئيس لقوات سوريا الديمقراطية، لدرجة أنها نشرت نحو ألفي جندي في 8 قواعد عملياتية في شمال شرق سوريا لتقديم المشورة في مكافحة تنظيم الدولة، وهو ما جعل "قسد" تتطلع إلى دعم أميركي صريح لمطالبها العسكرية والسياسية الراهنة.
لكن واشنطن سعت منذ رحيل الأسد إلى جمع الحكومة مع قسد على طاولة المفاوضات، وضغطت على قيادة قوات سوريا الديمقراطية لقبول حلول وسطى لا ترقى إلى مستوى الاستقلالية التي يسعى إليها عبدي ورفاقه، وفي مقدمتها اتفاق مارس/آذار الذي رعته واشنطن وجددت دعمه على لسان المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا توماس براك، وقائد القيادة الوسطى الأميركية الأدميرال براد كوبر، هذا كله بالتوازي مع إعادة تجميع القوات الأميركية في قواعد رئيسية وتقليص عدد نقاط الانتشار.
الأهم من ذلك ربما أن أميركا وجهت ضربة صريحة لطموحات "قسد" السياسية حين صرحت على لسان مبعوثها توم براك أن الإدارة الأميركية "ترفض الفدرالية في سوريا"، وأنها تتطلع إلى إعادة تشكيل سوريا كـ"دولة موحدة خالية مع الكيانات الانفصالية والمليشيات الطائفية".
ورغم أن واشنطن خففت موقفها المعلن لاحقا وأكدت أنها منفتحة على صيغة تتوسط بين المركزية "الصارمة" واللامركزية "المطلقة"، فإن تحركاتها على الأرض تشي برغبتها في تقليص التزاماتها العسكرية وترك المجال للحكومة السورية، وهي أخبار سيئة لـ"قسد" وطموحاتها.
تشير تقارير عسكرية حديثة إلى قيام واشنطن بسحب 500 شخص على الأقل من قواتها العاملة في سوريا وخفض عدد القواعد المستخدمة في عمليات الدعم اللوجستي وإسناد العمليات. كما أفصح تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأميركية عن نية واشنطن تقليص التمويل المخصص لـ "قوات سوريا الديمقراطية" إلى حوالي 130 مليون دولار في عام 2026 مقارنة بـ ـ156 مليون دولار في العام السابق.
أما التحول الأخطر فيرصده معهد دراسات الحرب الأميركي الذي يشير إلى تغيير لافت في آليات التنسيق الاستخباراتي التي تعتمدها واشنطن في سوريا لتشمل تعزيز التعاون مع وزارة الداخلية السورية، وهو تعاون أثمر عشرات العمليات الناجحة ضد تنظيم الدولة خلال الأشهر الأخيرة.
يعني هذا التحول عمليا أن واشنطن تجهز الأرضية لتسليم ملف مكافحة الإرهاب إلى الحكومة المركزية السورية في دمشق في وقت لاحق، رغم أنها لا تزال تنسق مع قسد خاصة فيما يتعلق بسجناء تنظيم الدولة الذين تحتجزهم القوات الكردية في الشمال السوري. ربما يكون هذا التحول "التدريجي" في الموقف الأميركي هو ما يدفع بوصلة "قسد" نحو حليف غير تقليدي، ألا وهو دولة الاحتلال الإسرائيلي.
فمنذ سقوط الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، نفّذت إسرائيل أكثر من 600 غارة جوية، وهجمات بطائرات مسيّرة، وقصفا مدفعيا في الأجواء والأراضي السورية، بمعدل يقارب غارتين يوميا. استهدفت هذه الضربات منشآت عسكرية تابعة للنظام السابق، ومخازن أسلحة، وأنظمة دفاع جوي، وشبكات لوجستية وغيرها. وفي الجنوب، وسّعت القوات الإسرائيلية بشكل كبير سيطرتها على مرتفعات الجولان، منتهكة بذلك اتفاق وقف إطلاق النار لعام 1974، وأقامت مواقع عسكرية متعددة داخل المنطقة المنزوعة السلاح.
وقد اتهمت تركيا صراحة إسرائيل بالتنسيق مع القوات الكردية، وتقويض عملية التكامل بينها وبين دمشق من خلال إعطاء إشارات إلى دمشق مفادها أن إسرائيل ستحمي المصالح الكردية، وتقدم الدعم للمقاتلين الأكراد.
ورغم أن الأدلة على التنسيق المباشر بين إسرائيل وقوات سوريا الديمقراطية لم تُستكشف بصورة وافية بعد، فإن الدلائل تدعمها بشدة، وآخرها ما ورد في تقرير لواشنطن بوست، نقلا عن مسؤول عسكري إسرائيلي سابق، عن تحويل أفراد في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية 24 ألف دولار إلى مليشيا عسكرية درزية في سوريا عبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في أعقاب سقوط نظام الأسد.
أشار التقرير أيضا إلى تدريب قوات سوريا الديمقراطية دروزا سوريين، بعضهم من النساء، في المناطق الكردية شمال سوريا، مما يشي بوجود إستراتيجية مدعومة إسرائيليا لبناء مراكز قوة مقاومة للسلطة السورية، وهو تكتيك يتماشى مع نهج إسرائيل الإقليمي الأوسع نطاقا في إضعاف خصومها عبر ورقة الأقليات. صحيح أن إسرائيل لا تملك ما يكفي من النفوذ الدبلوماسي على العلاقة بين الحكومة السورية و"قسد"، لكنها تستخدم الورقة الكردية كرافعة للنفوذ في علاقاتها مع الحكومة السورية.
في ضوء ما سبق، يمكن استنباط ملامح الإستراتيجية العامة لكل من الدولة السورية وقسد، وتتمحور إستراتيجية الحكومة السورية حول إحكام الخناق السياسي والاقتصادي والعسكري على "قسد" لإجبارها على تقديم تنازلات جوهرية، مستغلة المد الدبلوماسي في صفها، في حين تتمثل إستراتيجية "قسد" في المماطلة وشراء الوقت والإبقاء على الوضع الراهن في انتظار تغير الظروف. ولكن كما تشي الاشتباكات المحدودة التي تنشب من حين لآخر، فثمة اتفاق على حقيقة واحدة وهي كلفة حسم الخلاف عسكريا في الوقت الراهن.
من جانبها، لا يبدو أن الحكومة السورية، وجيشها المكون من فصائل توحدت للتو بعد معارك طاحنة عابرة للسنين مع نظام الأسد وحلفائه، راغبة في الدخول في صراع عسكري جديد ربما يمتد لسنوات ضد مليشيا منظمة وجيدة التسليح وتتمتع بمد بشري وافر، حتى مع افتراض الدعم التركي.
على الجانب الآخر، يلمس القادة الأكراد تحول المياه السياسية لصالح الحكومة والتقلص التدريجي للدعم الأميركي الذي اعتمدوا عليه لسنوات، مما يتركهم بلا حليف حقيقي في أي حرب محتملة، إلا دولة الاحتلال الإسرائيلي التي يمكن أن تقلص دعمها تحت الضغط الأميركي.
تقودنا هذه الحقائق إلى مجموعة من السيناريوهات للأزمة الحالية، أولهما وأرجحها هو إبقاء الوضع على ما هو عليه لبعض الوقت. في هذا السيناريو، سوف تتفق الحكومة في دمشق وقوات سوريا الديمقراطية والوسطاء الدوليون على أن الاندماج الكامل غير ممكن قبل نهاية العام، مما يتطلب إرجاء الموعد الأقصى لاتفاق مارس/آذار، من أجل منح المزيد من الوقت للتفاوض. يدعم هذا التوجه ما نشرته صحف تركية عن إبداء "قسد" رغبة في تمديد المهلة حتى مارس/آذار المقبل، بذريعة أن تنفيذ اتفاقيات بهذا الحجم يتطلب فترة زمنية لا تقل عن عام كامل.
خلال ذلك الوقت، سيكون ثمة حرص على التهدئة والانخراط في مفاوضات بطيئة تحتفظ خلالها قوات سوريا الديمقراطية بهيكلها العسكري واستقلاليتها عمليا، مع التزام اسمي بالاندماج المستقبلي. في المقابل، سوف تواصل دمشق إحكام الخناق عليها، مع التلويح بالعمل العسكري بين الفينة والأخرى دون الإقدام عليه فعليا، مما يهدد بحالة طويلة من الجمود تقطعها مناوشات بين الحين والآخر.
ما يجعل هذا السيناريو محتملا بشدة هو أنه يمثل المسار الأسهل لجميع الأطراف، فقوات سوريا الديمقراطية تكسب الوقت على أمل أن تتغير الظروف، ودمشق تواصل الضغط دون اللجوء إلى حرب شاملة كما تستطيع تركيا توجيه تهديدات دورية دون الالتزام بتدخل عسكري، في حين تتجنب الولايات المتحدة الاختيار الحاسم بين حلفائها الجدد في دمشق وتركيا وبين قوات سوريا الديمقراطية التي تظل حليفا مهما رغم كل شيء.
يمكن أن يستمر هذا الوضع حتى تقرر الحكومة في دمشق والأتراك أن هناك لحظة مواتية لحسم النزاع عسكرية بخسائر أقل، مع انهيار الشرعية التي اكتسبتها "قسد" من محاربة تنظيم الدولة وفقدانها الدعم الأميركي بصورة كاملة أو التوصل لاتفاق أمني مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، وربما تزايد الضغوط الداخلية على الإدارة الكردية خاصة في الرقة ودير الزور حيث يفتقر الأكراد الأغلبية الديمغرافية.
ومع ذلك يظل هناك خطر أن حالة الجمود المطولة سوف تنهار في نهاية المطاف تحت وطأة الضغوط المتراكمة، مما يؤدي إلى الدخول في صراع مفتوح.
في السيناريو الثاني، أن يحدث اختراق في الأشهر المقبلة، حتى لو تأجل الإعلان عن الاتفاق بعض الوقت. الملامح الرئيسية لهذا الاتفاق المحتمل سوف تُستمد على الأرجح من المقترح "المؤقت" الأخير بدمج مقاتلي "قسد" في 3 فرق جديدة داخل الجيش السوري: فرقة لحماية الحدود في منطقة الشمال الشرقي، وفرقة نسائية، وفرقة متخصصة في مكافحة الإرهاب، مع منح 70 من القادة العسكريين الأكراد مناصب قيادية منها 3 مناصب رفيعة المستوى (بمرتبة نواب وزراء) في وزارات الدفاع والداخلية وهيئة الأركان العامة، بالإضافة إلى مغادرة المقاتلين الأجانب التابعين لحزب العمال الكردستاني باتجاه مواقع مخصصة لهم في إقليم كردستان العراق، باعتبار أن هذا البند قد يقدم تطمينات لتركيا.
من المرجح أن يتضمن الاتفاق أيضا تعهدا بعدم الانتشار الواسع لقوات الحكومة السورية في المناطق الكردية الحالية "باستثناء الحواجز الأمنية التي ستخضع لإدارة مشتركة، مع ترتيب لتوزيع عائدات النفط بعد تسليم الحقول للحكومة السورية، وهي صيغة تضمن للحكومة إشرافا "اسميا" مباشرا على الوحدات الكردية مع سيادة "جزئية" على المناطق الخاضعة لسيطرتها والمعابر الحيوية، ولكن دون تفكيك كامل للقوة العسكرية الكردية.
يمنح هذا المسار مكاسب مؤقتة للواقع السوري، إذ تستطيع دمشق تقديم الخطوة باعتبارها بداية لاستعادة السيطرة السيادية على كامل البلاد، في حين تروّج "قسد" لها بوصفها اعترافا بخصوصيتها العسكرية والإدارية، غير أنه لا يقدّم حلا جذريا للقضايا الخلافية الأعمق مثل تسليم الأسلحة الثقيلة، وتسلسل القيادة والولاء، والأهم أنه لا يحسم بشكل نهائي هوية الدولة السورية الجديدة، وهو ما يجعله أقرب إلى صيغة شكلية مؤقتة تُؤجّل المعضلات دون حسمها.
في السيناريو الأسوأ، يمكن أن ينهار المسار التفاوضي تحت وطأة الخلافات المتفاقمة، دافعا الحكومة السورية إلى شن عملية أمنية أو عسكرية واسعة تستهدف مراكز الثقل الرئيسية لقوات سوريا الديمقراطية، بهدف فرض "اندماج قسري". ويمكننا أن نتخيل البداية بهجمات للسيطرة على النقاط الكردية في حلب في الشيخ مقصود والأشرفية، ثم التوغل تدريجيا في المناطق الريفية في محافظات دير الزور والرقة.
يتوقف هذا القرار الصعب على عوامل رئيسية، أهمها حسابات المخاطر والخسائر للحكومة السورية و"قسد" كليهما ومدى استعداد تركيا للانخراط في تصعيد عسكري، وإمكانية أن تقوم الولايات المتحدة برفع غطائها الدبلوماسي والعسكري عن "قسد" تماما، إذ يصعب تخيل أن تشن الحكومة السورية هذه الحملة دون ضوء أخضر أميركي في ظل سعيها لاكتساب الاعتراف الدولي والدعم لإعادة الإعمار.
وبصرف النظر عما سيحدث فعليا، المؤكد أن مستقبل سوريا ووحدتها يتوقفان على مخرجات هذه الأزمة التي تمثل الاختبار الأكبر للسوريين في حقبة ما بعد الأسد.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة