آخر الأخبار

إيران تواجه “أزمة تنفس” عميقة

شارك

طهران- في كل شتاء، تعود سماء طهران لتختنق تحت طبقة رمادية كثيفة، لكن فصل الشتاء في عامي 2024 و2025 حمل مؤشرات أكثر خطورة، ولم يعد تلوث الهواء مجرد أزمة بيئية أو صحية عابرة.

يقول الخبراء الإيرانيون إن أزمة التلوث تحولت إلى ملف يومي يفرض نفسه على حياة الإيرانيين، من تعطيل المدارس والجامعات، إلى تقييد الحركة في الشوارع، وصولا إلى ضغط غير مسبوق على المستشفيات.

وفي طهران وأصفهان والأهواز ومشهد وكرج ومدن كبرى أخرى، بات الهواء الملوث عنصر قلق دائم، في وقت تتزايد فيه التحذيرات من كلفة بشرية واقتصادية متصاعدة، وسط تساؤلات عن فعالية السياسات المتبعة وقدرة الدولة على احتواء أزمة تُصنّف اليوم ضمن أخطر التحديات الصحية في البلاد.

مصدر الصورة تصميم خاص – إنفوغراف – إيران تواجه أزمة تنفّس عميقة (الجزيرة)

أرقام خطيرة

وفق بيانات بيئية وصحية رسمية وتقارير خبراء، شهدت معدلات تلوث الهواء في المدن الإيرانية الكبرى ارتفاعا ملحوظا خلال 2024 والنصف الأول من 2025، لا سيما في تركيز الجسيمات الدقيقة العالقة "بي إم 2.5" (PM2.5)، وهي الأخطر على صحة الإنسان.

ويشير هذا القياس إلى كمية الجسيمات الصلبة والسائلة الصغيرة جدا في الهواء، وهي مؤشرات رئيسية لتلوث الهواء وتأثيراته الصحية الخطيرة كأمراض الجهاز التنفسي والقلب، وتأتي من احتراق الوقود والغبار والعمليات الصناعية عامة.

وفي طهران، تجاوز متوسط تركيز هذه الجسيمات السنوي عدة أضعاف الحد الذي توصي به منظمة الصحة العالمية (وهو 5 ميكروغرامات لكل متر مكعب من الهواء)، مع تسجيل عشرات الأيام المصنفة "غير صحية جدا" أو "خطرة".

وسجلت مدن مثل الأهواز وأصفهان وكرج ومشهد بدورها ارتفاعا لافتا في عدد أيام التلوث الشديد، خاصة خلال فترات الانقلاب الحراري الشتوي.

وتشير تقديرات رسمية إيرانية إلى أن عشرات الآلاف من الوفيات المبكرة سنويا تُعزى بشكل مباشر أو غير مباشر إلى تلوث الهواء، نتيجة أمراض القلب، والسكتات الدماغية، والسرطان، وأمراض الجهاز التنفسي.

إعلان

وحسب تقارير حكومية، يعاني مئات الآلاف من المواطنين من أمراض تنفسية مزمنة، بينها الربو والتهاب القصبات المزمن وتفاقم أمراض القلب والرئة.

اقتصاديا، تقدّر الخسائر السنوية المباشرة لتلوث الهواء في إيران بنحو 17.2 مليار دولار، تشمل تكاليف العلاج والاستشفاء وفقدان الإنتاجية وأيام العمل وتعطيل التعليم والضغط على النظام الصحي.

مصدر الصورة علي رضا نادعلي: طهران تواجه أزمة حقيقية في القدرة على التنفس (الجزيرة)

مسؤولية الإدارة

يؤكد المتحدث باسم مجلس مدينة طهران علي رضا نادعلي أن العاصمة الإيرانية تواجه أزمة حقيقية في القدرة على التنفس، معتبرا أنها لم تعد مجرد مدينة كبرى، بل "مدينة عملاقة" بتعقيدات سكانية وعمرانية ومرورية تجعلها أكثر عرضة للاختلالات البيئية.

وأشار في حديثه للجزيرة نت، إلى أن مجلس المدينة صنّف منذ بداية الدورة الحالية معالجة تلوث الهواء كأولوية، متقدما على ملفات أخرى مثل الازدحام المروري، وهو ما انعكس في توسيع أسطول النقل العام وزيادة عدد الحافلات من نحو 1800 إلى قرابة 5 آلاف حافلة، وتطوير خطوط المترو وإدخال الحافلات وسيارات الأجرة الكهربائية.

لكنه يقر في الوقت نفسه بأن هذه الجهود غير كافية قياسا بحجم المشكلة. ويحمّل نادعلي جزءا كبيرا من المسؤولية للمصادر المتحركة، وعلى رأسها السيارات الخاصة والدراجات النارية التي شهدت انتشارا "غير منضبط"، وأصبحت من أبرز مصادر التلوث داخل العاصمة.

مصدر الصورة الازدحام المروري الشديد في طهران أحد أسباب تلوث الهواء (رويترز)

كما انتقد غياب ما سماها الإدارة الحضرية الموحدة، مشيرا إلى أن نحو 21 جهة رسمية تتقاسم المسؤوليات، ما يؤدي إلى تشتت القرار وتبادل الاتهامات، بدل العمل بمنطق غرفة عمليات واحدة كما يحدث في حالات الطوارئ.

من جانبه، أوضح أستاذ مختص في البيئة يوسف رشيدي أن أزمة تلوث الهواء في طهران ليست جديدة من حيث الجذور، لكنها تفاقمت بسبب ضعف التنفيذ واستمرار الاعتماد على السيارات الخاصة. وقال للجزيرة نت إن نحو 80% من الملوثات الغازية فيها مصدرها قطاع النقل.

وتعود قرابة 60% من الجسيمات الدقيقة أيضا إلى المركبات، خاصة الديزل. وأكد أن المشكلة الأخطر حاليا هي الجسيمات الدقيقة "بي إم 2.5" لأنها قادرة على اختراق الرئتين والوصول إلى مجرى الدم، موضحا أن الهواء نفسه يعمل كمفاعل كيميائي يحوّل بعض الغازات إلى جسيمات أكثر خطورة.

مصدر الصورة الخبير يوسف رشيدي يؤكد أن المشكلة الأخطر حاليا هي الجسيمات الدقيقة (الجزيرة)

كلفة إنسانية

ويرى الخبير رشيدي أن ضعف النقل العام، الذي لا يغطي سوى نحو 20% من الرحلات اليومية، يدفع السكان للاعتماد على السيارات، ما يجعل تقليل عدد المركبات المتحركة شرطا أساسيا لأي تحسن.

كما انتقد ما اعتبره ضعفا في الرقابة على المركبات العاملة فعليا في الشوارع، وقصور الفحص الفني، وتوجيه الرسوم البيئية التي تُفرض على الصناعات بعيدا عن مشاريع خفض التلوث.

في الشوارع، يخف الإقبال على المشي والأنشطة الخارجية وتُفرض قيود على الحركة. وفي المدارس، تتكرر قرارات الإغلاق أو التعليم عن بُعد. وفي المنازل، لم يعد إغلاق النوافذ كافيا لعزل التلوث. ويلجأ كثير من الإيرانيين إلى الكمامات وأجهزة تنقية الهواء، بينما يرى آخرون أن هذه الحلول لا تعالج أصل المشكلة بل تخفف آثارها مؤقتا.

إعلان

وفي المستشفيات، تظهر الكلفة الإنسانية للأزمة بوضوح أكبر. وأكد علي بوروالي وهو طبيب مختص في أمراض الجهاز التنفسي في طهران أن فترات التلوث الشديد تترافق مع ارتفاع ملحوظ في نوبات الربو وضيق التنفس، خاصة بين الأطفال وكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة.

وأوضح للجزيرة نت أن الربو يصيب عالميا ما بين 10 و13% من السكان، لكنّ تلوث الهواء يحول المرض من حالة قابلة للسيطرة إلى خطر قد يهدد الحياة، خصوصا مع الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرون (تتسرب إلى الرئتين بسهولة).

مصدر الصورة الطبيب علي بوروالي: فترات التلوث الشديد تترافق مع ارتفاع ملحوظ في نوبات الربو وضيق التنفس (الجزيرة)

وأضاف بوروالي أن أقساما كثيرة في المستشفيات تحولت عمليا إلى أقسام تنفسية، مشيرا إلى أن أعداد حالات التنويم وطلب الاستشفاء ارتفعت وبعض الحالات انتهت بالوفاة أو بمضاعفات طويلة الأمد.

وحذر من أن التعرض المزمن للتلوث يؤدي إلى تغيرات بنيوية في الرئة (إعادة تشكيل الأنسجة)، ما يرفع خطر الإصابة بأمراض مزمنة قد تصل إلى الحاجة للأكسجين الدائم أو زراعة الرئة.

وتُظهر أحدث المعطيات خلال عام 2024 والنصف الأول من 2025 أن أزمة تلوث الهواء في إيران لم تعد مجرد ظاهرة موسمية مرتبطة بالشتاء أو بالانقلاب الحراري، بل اتخذت مسارا تصاعديا ينذر بتداعيات أعمق على الصحة العامة والاقتصاد والاستقرار الاجتماعي.

واليوم ومع تسارع المؤشرات السلبية، لم يعد السؤال ما إذا كانت طهران قادرة على تحسين جودة الهواء، بل متى وبأي كلفة بشرية واقتصادية إضافية؛ فإما أن تتحول أزمة التلوث إلى ملف وطني يُدار بسياسات طويلة الأمد وإدارة موحدة واستثمار جدي في النقل النظيف والصحة الوقائية، أو تبقى سماء المدن رهينة دوامة تتكرر، ويزداد هواؤها ثقلا عاما بعد آخر.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا