تكشف مجلة لوبوان عن واحدة من أكثر الصفحات دموية وتعتيما في تاريخ الكاميرون الحديث، بالعودة إلى آخر شهود تمرد الاستقلاليين الذي قمعته فرنسا، وأسفر عن مقتل عشرات الآلاف.
وأعادت المجلة -في تقرير بقلم غيوم بيرييه- إلى الواجهة ذاكرة "الحرب القذرة" التي خاضتها فرنسا لقمع الحركة الاستقلالية بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأسفرت عن مقتل عشرات الآلاف، وسط صمت رسمي طويل وتواطؤ في طمس الحقيقة.
ويروي التقرير شهادة أحد آخر الشهود الأحياء، وهو البروفيسور تيتاني إيكوي الذي قرر بعد عقود من الصمت أن يفشي "السر العسكري" ويستعيد مأساة طفولته.
في كنف والده الذي كان جنديا وخدم في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية ، نشأ الطفل إيكوي داخل ثكنة عسكرية في منطقة باميليكي، حيث شاهد بعينيه الاعتقالات والتعذيب والإعدامات السرية بحق مناضلي حزب اتحاد شعوب الكاميرون، وعلى رأسهم جاكوب فوسي، المعروف باسم نيكوديم.
تبلغ المأساة ذروتها في ليلة الثامن إلى التاسع من مايو/أيار 1957، عندما شهد الطفل إلقاء عشرات السجناء الاستقلاليين في شلالات ميتشي، في واحدة من أكثر صور القمع وحشية، حيث كان يراقب من مخبئه مشهد رمي السجناء وهم مكبلون، وكيف جاء دور جاكوب فوسي الذي عقد معه صداقة إعجاب من وراء نافذة السجن، فقبل أن يهوي هذا البطل في الشلال أمسك بقائد الدرك الفرنسي أوتارد وجره معه إلى الهاوية.
وفي كتاب اعترافي صغير صدر عام 2024، قال إيكوي إنه أراد بعد 68 عاما، أن يحيي ذكرى بطله، لأن "هذا العمل البطولي لم يفارقني أبدا"، مع أن أرشيف الجيش الفرنسي لا يذكر سوى وفاة أوتارد "غرقا" أثناء مهمة عام 1959، أي بعد عامين من الوقائع.
ويتساءل إكوي كم عدد السجناء الذين أُلقي بهم مثل فوسي ورفاقه في شلالات ميتشي؟ ليرد بأنه لا أحد يعرف، إلا أن هذه الشلالات لا تزال أحد المواقع الرمزية "للحرب القذرة" في الكاميرون، وهي في الحقيقة مقبرة جماعية غير معلنة، تخفي تحت جمالها الطبيعي ذاكرة مجازر لم يعترف بها رسميا حتى اليوم.
ويتذكر إكوي أن شقيق والده أيضا ألقي به حيا في الشلالات عام 1959، ويقول القائم على حراسة الموقع "قتل كثيرون هنا. كانوا يعتقلون في القرى المجاورة ويجلبون إلى هنا. لقد ابتلعت شلالات ميتشي عشرات، بل مئات الجثث، وابتلعت معها ذاكرتهم".
ومن الفارقة أن أبطال الاستقلال لا يزالون محل إعجاب صامت، في حين يحتفى ببعض المتعاونين مع الاستعمار عبر تماثيل وأسماء مدن، وهذا يعكس استمرار النظام السياسي الموروث عن الحقبة الاستعمارية.
ويوسع المقال دائرة الشهادات لتشمل سكان القرى والناجين من القمع، الذين يروون حملات التمشيط والقصف الجوي وحرق القرى والتعذيب الوحشي، بما في ذلك الإعدامات العلنية وعرض رؤوس المقاومين في الساحات العامة، في محاولة لبث الرعب وكسر أي دعم شعبي لحركة الاستقلال.
وعلى الرغم من إعلان استقلال الكاميرون عام 1960، يؤكد التقرير أن الحرب لم تتوقف فعليا، إذ واصل نظام الرئيس أحمدو أهيجو بدعم فرنسي، السياسات القمعية نفسها، وجرى اغتيال أو إعدام أبرز قادة الحركة الاستقلالية، من روبين أوم نييوب إلى فيليكس مومييه وإرنست وواندي، في مسار منهجي لتصفية رموز التحرر الوطني.
ويبرز الكاتب مفارقة الذاكرة الجماعية، حيث لا يزال أبطال الاستقلال محل إعجاب صامت، في حين يحتفى ببعض المتعاونين مع الاستعمار عبر تماثيل وأسماء مدن، وهذا يعكس استمرار النظام السياسي الموروث عن الحقبة الاستعمارية.
وفي خاتمته، يشير التقرير إلى خطوة فرنسية حديثة نحو كشف الحقيقة، بعد أن طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2022 فتح ملف الحرب الاستعمارية في الكاميرون، وتشكيل لجنة مشتركة فرنسية كاميرونية أصدرت تقريرا في يناير/كانون الثاني 2025 يدعو فرنسا إلى الاعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن القتل والقمع الممنهج، في محاولة متأخرة لمواجهة تاريخ ظل مطمورا لعقود.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة