تتجه تشيلي إلى جولة إعادة للانتخابات الرئاسية في 14 ديسمبر/كانون الثاني المقبل، بعد أن شهدت الجولة الأولى من التصويت أمس الأحد منافسة حامية لكنها غير حاسمة، أفرزت انقساما حادا في البلاد بين اليسار واليمين.
وفازت وزيرة العمل السابقة جانيت جارا (51 عاما) مرشحة الائتلاف الحاكم من يسار الوسط بنسبة 26.8% من الأصوات الصحيحة بعد فرز ما يقرب من 100% من الأصوات، لكنها لم تتجاوز عتبة 50% اللازمة للفوز من الجولة الأولى.
وحل ثانيا خوسيه أنطونيو كاست (59 عاما)، وهو نائب سابق يميني متشدد وكاثوليكي متدين بحصوله على 24% من الأصوات، مما يؤكد جاذبية برنامجه السياسي القائم على فرض القانون والنظام، في وقت يهز فيه تصاعد الجريمة المنظمة إحدى أكثر دول أميركا اللاتينية أمانا، ويؤجج المشاعر المعادية للمهاجرين بين التشيليين.
وجاء في الترتيب الثالث فرانكو باريزي، الخبير الاقتصادي الشعبوي اليميني ذو المتابعين الكثر على وسائل التواصل الاجتماعي، بحصوله على 20% من الأصوات، في حين حل رابعا يوهانس كايزر، الليبرالي الراديكالي والمحرض السابق على يوتيوب، والذي انتخب نائبا عام 2021، بحصوله على 13.9%.
واعتمدت تشيلي هذا العام إلزامية التصويت للمرة الأولى منذ 2012، مما أضاف قرابة 5 ملايين ناخب. وبالإضافة إلى اختيار رئيس جديد، اقترع الناخبون لاختيار أعضاء في مجلس النواب ونصف أعضاء مجلس الشيوخ.
ولا يسمح دستور تشيلي بإعادة الانتخاب لفترات متتالية، لذا فإن الرئيس اليساري غابرييل بوريك، الذي تنتهي رئاسته في مارس/آذار المقبل والذي أصبح قبل 4 أعوام أصغر رئيس لتشيلي عن عمر 36 سنة، ممنوع من الترشح لولاية ثانية متتالية.
وبعد أن علم كاست بتأهله إلى الجولة التالية، حث اليمين المنقسم في البلاد على التوحد خلفه، معتبرا جولة الإعادة "صراعا وجوديا من أجل مستقبل تشيلي".
وقال لجمهوره "ستكون هذه أهم انتخابات في جيلنا، هي استفتاء حقيقي بين نموذجين للمجتمع، النموذج الحالي الذي قاد تشيلي إلى الدمار والركود والعنف والكراهية، ونموذجنا الذي يعزز الحرية والأمل والتقدم".
وتعهد كاست، المُعجب بالرئيسين الأميركي دونالد ترامب والبرازيلي السابق جايير بولسونارو ، بترحيل عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين وبناء مئات الكيلومترات من الخنادق والجدران على طول الحدود الشمالية لتشيلي مع بوليفيا لمنع عبور المهاجرين، خاصة من فنزويلا التي تعاني من أزمة.
أما رسالة جارا فكانت مختلفة تماما، وقالت لأنصارها وسط العاصمة سانتياغو "إن هذا بلد عظيم، لا تدعوا الخوف يُجمّد قلوبكم".
ومثل خصومها، وصفت جارا الأمن بأنه أولوية قصوى، ووعدت بخطط لترحيل الأجانب المدانين بالاتجار بالمخدرات، وتعزيز الرقابة على حدود تشيلي، ومكافحة غسيل الأموال .
وتواجه المرشحة اليسارية مهمة شاقة للتغلب على المواقف المناهضة للشيوعية والاستياء من أداء إدارة الرئيس بوريتش المنتهية ولايته.
ويرى مراقبون أنه على الرغم من أن الناخبين منحوا جارا أفضلية طفيفة أمس، فمن المرجح أن يستفيد كاست في الجولة الثانية من حصة كبيرة من الأصوات التي ذهبت إلى 3 منافسين يمينيين تم إقصاؤهم، والذين خاضوا حملات انتخابية شرسة ركزت على ضرورة مُعالجة الهجرة غير الشرعية.
وفي حال فوزه، سيصبح كاست أول رئيس من اليمين المتطرف منذ الدكتاتور أوغستو بينوشيه الذي حكم البلاد بين عامي 1973 و1990.
وسبق لكاست، وهو نجل جندي في الجيش الألماني إبان حكم أدولف هتلر ، أن دافع عن بينوشيه الذي أطاح الرئيس الاشتراكي المنتخب ديمقراطيا سلفادور أليندي، بانقلاب عسكري مطلع السبعينيات، وأرسى نظام حكم استبداديا وأشرف على قتل الآلاف من المعارضين.
وسعى كاست إلى صرف الانتباه عن التزامه بما يسميه القيم العائلية التقليدية وماضي والده ألماني المولد النازي، وكلاهما حشد الناخبين التقدميين ضده خلال محاولتيه الرئاسيتين الفاشلتين الأخيرتين، لكنه أوضح أن آراءه لا تزال كما هي.
وقالت لوسيا دامرت، عالمة السياسة وأول رئيسة لمكتب بوريك "لم يعد هناك جدل بين اليمين واليسار في ما يتعلق بمسألة المزيد من السجون، والمزيد من العقوبات، والمزيد من الحبس، وإغلاق الحدود، وتقييد المهاجرين".
وأضافت "لكنها قضية تُعزز اليمين دائما، في كل مكان في أميركا اللاتينية".
من جهته، قال رودولفو ديسي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أدولفو إيبانيز في تشيلي "سنرى جارا وكاست بعد اليوم أكثر اعتدالا، ويتحدثان عن الأمور التي تهم الناخبين ويحاولان التنافس على الوسطية".
وخلال الشهر المقبل، تواجه جارا تحدي كسب تأييد الناخبين القلقين بشأن عضويتها الدائمة في الحزب الشيوعي التشيلي الذي يدعم الحكومات الاستبدادية في كوبا وفنزويلا، فقد تعرضت جارا لانتقادات حادة في بداية حملتها الانتخابية لوصفها كوبا بأنها دولة ديمقراطية.
ويتصاعد السخط الاقتصادي في واحدة من أكثر دول أميركا اللاتينية ازدهارا، مع تباطؤ النمو وارتفاع معدل البطالة بأكثر من 8.5%. ولا تزال البلاد تحتفظ بدستورها الذي يعود إلى عهد الدكتاتورية بعد أن رفض الناخبون ميثاقا مدعوما من الحكومة كان من شأنه أن يحول تشيلي إلى واحدة من أكثر مجتمعات العالم تقدما.
وبصفتها وزيرة للعمل، رفعت الحد الأدنى للأجور، وعززت المعاشات التقاعدية، وقلصت ساعات العمل الأسبوعية من 45 إلى 40 ساعة.
ولمعالجة أزمة غلاء المعيشة في تشيلي، التي أسهمت عام 2019 في تأجيج أكبر اضطرابات اجتماعية شهدتها البلاد، تقترح جارا دخلا شهريا "معيشيا" يبلغ نحو 800 دولار أميركي من خلال الدعم الحكومي ورفع الحد الأدنى للأجور، كما تتعهد بالاستثمار في مشاريع بنية تحتية ضخمة ومساكن جديدة.
أما كاست فيستلهم نهج خافيير ميلي في الأرجنتين المجاورة، إذ يتعهد بتقليص رواتب القطاع العام، وإلغاء الوزارات الحكومية، وخفض ضرائب الشركات، والتخلص من اللوائح.
ويقول إنه سيجري تخفيضات هائلة في الإنفاق بقيمة 6 مليارات دولار على مدى 18 شهرا، وهو اقتراح وإن كان بعيد المنال فإنه يجذب الناخبين الذين يشعرون بالقلق من العجز المالي المتكرر في تشيلي.
وعلى الرغم من أن عجز 2% هذا العام يتضاءل مقارنة بالأزمات الاقتصادية في أماكن أخرى في المنطقة مثل الأرجنتين، حيث ساعد الرئيس ترامب مؤخرا في وقف أزمة العملة، فإنه نادر في بلد لطالما أُشيد به كقصة نجاح إقليمية لالتزامه باقتصاديات متساهلة للغاية.
أما جارا، فقد انضمت إلى الحزب الشيوعي وهي في 14 من عمرها، لكنها خاضت الحملة الانتخابية كمرشحة معتدلة، مستندة إلى سجلها الإصلاحي أثناء توليها سابقا وزارة العمل.
وتعهدت جارا بضمان أن "يكون في إمكان كل عائلة تشيلية تأمين مصاريفها بسهولة حتى آخر الشهر".
وقال الخبير في المركز الأميركي للسياسة والاقتصاد والبحث غيوم لونغ إن فوز اليمين المتطرف في تشيلي "سيكون له تأثير كبير على السياسة في أميركا اللاتينية".
وأضاف "أعتقد أن تشيلي ستؤدي دورا فاعلا للغاية على الساحة الدولية، على الأرجح في تحالف وثيق مع الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي والرئيس الأميركي دونالد ترامب".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة