آخر الأخبار

صراعات قد تُشعل حربا عالمية لا يتوقعها أحد

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في الثاني من أغسطس/آب 1964، كانت المُدمرة الأميركية "يو إس إس مادوكس" تُنفذ مهمة استطلاع قرب سواحل فيتنام الشمالية، حين اعترضتها ثلاثة زوارق فيتنامية، مُعتبِرة وجودها داخل مياهها الإقليمية عملا عدائيا، ومن ثم أطلقت نحوها عددًا من الطوربيدات.

ردَّت المدمرة بإطلاق نيران مدافعها، مدعومة بطائرات أميركية حلَّقت من حاملة طائرات من طراز "تيكونديروجا"، مما أدى إلى إصابة أحد الزوارق الفيتنامية وتراجع البقية، ولم تُصَب المُدمرة بأي ضرر يُذكر.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 لست وحدك في الكون.. رسالة العرض العسكري الصيني لترامب
* list 2 of 2 10 مليارات دولار.. ما قصة صفقة صواريخ "باك-3″؟ end of list

بعد يومين، أبلغت مادوكس عن تعرضها لهجوم ليلي جديد، ولكن لم تُشاهد فعليا أي سفن فيتنامية في محيطها، وكانت الإشارات الرادارية مُشوَّشة بسبب سوء الأحوال الجوية. ورغم غياب الأدلة الميدانية، أعلن الرئيس ليندون جونسون أن "فيتنام الشمالية هاجمت مُجددا" وطلب من الكونغرس تفويضا بالرد.

وفي السابع من أغسطس/آب، صادق الكونغرس على قرار خليج تونكين، الذي منح الرئيس صلاحية استخدام القوة العسكرية في جنوب شرق آسيا، وكانت تلك نقطة الانطلاق نحو التورط الأميركي الواسع في حرب فيتنام .

لاحقا، أظهرت وثائق وكالة الأمن القومي الأميركية أن الهجوم الثاني لم يحدث، وأن التقديرات الميدانية كانت خاطئة. ومع ذلك، استُخدِمت الحادثة لتبرير تصعيد الحرب، فارتفع عدد القوات الأميركية في فيتنام إلى أكثر من 180 ألف جندي في غضون عام واحد، وتحوَّل الاشتباك البحري المحدود إلى حرب طويلة، استمرت قرابة عقد وأودت بحياة أكثر من 58 ألف أميركي وملايين الفيتناميين.

ومع أن حادثة تونكين تبرز كيفية توظيف اشتباك محدود وسوء تقدير ميداني في تعبئة الرأي العام وتبرير الانزلاق إلى حرب واسعة، فإنها في الأخير اندلعت في عالم ثنائي القطب، محكوم بتوازن الردع النووي بين واشنطن وموسكو، وهو ما حال دون انزلاقها إلى مواجهة عالمية.

إعلان

ووفقا للباحثة الأمريكية نينا تانينوالد، أستاذة العلوم السياسية بجامعة براون والمتخصصة في دراسات الردع النووي، أدرك صانعو القرار الأميركيون أن أي تصعيد غير منضبط في فيتنام قد يستفز الصين أو الاتحاد السوفياتي ، ويفتح الباب أمام حرب نووية مُحتملة. هذا الوعي، كما تقول تانينوالد، كان أحد الأسباب الرئيسة التي أبقت الحرب ضمن حدودها التقليدية، رغم حجم الخسائر البشرية الفادحة.

اندماج الحليف والراعي

تتقاطع هذه الرؤية مع إشارة الباحث الأميركي ألكسندر جورج، إلى أن التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة ، كان محكوما بقاعدة غير مكتوبة، فحواها أنه لا ينبغي لأي من القوتين العُظميَيْن شن عمل عسكري مباشر ضد الأخرى أو ضد حلفائها.

وقد شكلَّت هذه القاعدة أساسا لضبط النفس المتبادل، بحيث لا يُسمح لأي صراع إقليمي بأن يجر واشنطن أو موسكو إلى مواجهة مباشرة بينهما، وكانت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 الاستثناء الأقرب لاختراق هذا الحاجز. أما في الشرق الأوسط، الذي عُدَّ آنذاك منطقة شديدة الخطورة، فكان هناك تفاهم ضمني يقضي بتدخل القوة العظمى فقط عندما يوشك أحد حلفائها المحليين على الهزيمة التامة.

أما اليوم، فيبدو أن هذا الضبط غير المكتوب آخذ في التآكل. فالدعم الأميركي لإسرائيل أثناء حربها في غزة، وعملياتها الإقليمية في سوريا ولبنان وإيران، يتجاوز مفهوم "ضمان الردع" التقليدي، ويتحول إلى شبه مشاركة مباشرة في إدارة العمليات العسكرية والسياسية. فالولايات المتحدة لا تكتفي بتقديم المساعدات أو المعلومات الاستخبارية، بل تنخرط فعليا في رسم خطوط التصعيد وحدود الردع، بما في ذلك نشر حاملات طائرات وتفعيل منظومات دفاعية مشتركة.

مصدر الصورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب (يمين) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض بتاريخ 7 أبريل/نيسان 2025 (الفرنسية)

تعيد هذه الدرجة من الانخراط تشكيل مفهوم "التحالفات المحكومة" الذي ساد في الحرب الباردة، لتقترب من نمط جديد من الاندماج العملياتي بين الحليف والقوة الكبرى، مما يرفع خطر انزلاق الصراع المحلي إلى مواجهة إقليمية أو حتى دولية.

وفي السياق نفسه، يتحدث المفكر توماس شيلينغ عمَّا سماه "تقطيع السَّلامي"، أي التدرُّج في التصعيد خطوة بعد أخرى دون تجاوز الخط الأحمر دفعة واحدة. وهذه الطريقة القائمة على تهديد الخصم دون الوصول إلى الحرب الكاملة، مكَّنت القوى الكبرى من اختبار بعضها حدود بعض دون الانزلاق إلى مواجهة نووية مباشرة.

غير أن هذا النظام الضمني من ضبط النفس يحمل في جوهره خطرا دائما، فهو يعتمد على التفاهم غير المعلن، مما يجعله عرضة لسوء الفهم وسوء التقدير. فالإشارات الدبلوماسية، سواء كانت تهديدات أو رسائل تهدئة، يجب أن تكون واضحة ومفهومة للطرف الآخر، وإلا تحولت إلى مصدر للتصعيد بدلا من منعه.

ويحضر هذا الخطر في حرب أوكرانيا الحالية، حسبما يشير روي أليسون، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد، إذ تراجعت قنوات الاتصال الرسمية والسرية بين موسكو والغرب، وأصبحت إدارة الأزمة تعتمد على الرسائل غير المباشرة والتصريحات العلنية المفتوحة للتأويل بدلا من الحوار الدبلوماسي المباشر.

إعلان

في هذا السياق، تسود حالة من عدم اليقين والغموض في الإشارات المتبادلة بين أطراف الصراع، التي لم تعُد تدرك بدقة حدود الفعل والرد عليه، ولا ما يمكن اعتباره تصعيدا مقبولا أو تجاوزا لخط أحمر. وهكذا غدت الإشارات بين روسيا والدول الغربية، وأوكرانيا نفسها، مزيجا من التهديد والتحذير والاختبار المستمر للحدود، في مشهد يفتقر إلى قواعد واضحة لضبط التصعيد أو منع الانزلاق إلى مواجهة أوسع.

قوة صاعدة تضاهي قوة مهيمنة

تزيد هذه الحالة من هشاشة التوازن الدولي وتفتح الباب أمام أشكال من التصعيد غير المنضبط، لا سيما مع ما تواجهه البشرية من عدد غير مسبوق من الصراعات الصغيرة والمتوسطة في مناطق متفرقة، يُمكن أن تنزلق سريعا إلى صراعات أكبر في ظل غياب قيود شبيهة بالحرب الباردة.

فوفقا لتقديرات معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، يشهد العالم اليوم 56 صراعا مسلحا نشطا تشارك فيه 92 دولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وهو أعلى رقم يُسجل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية . ويتزامن ذلك مع حالة اختلال في ميزان القوى العالمي، تشبه المراحل التي سبقت الحروب الكبرى، كما يوضح الباحث النرويجي إيغل كفيرنمو، المتخصص في الأمن الدولي بجامعة الدفاع النرويجية.

في دراسته "التنبؤ بالحرب بين القوى العظمى في عالم متعدد الأقطاب"، يضع كفيرنمو نموذجا لقياس احتمالات اندلاع حرب كبرى في نظام دولي تتوزع فيه القوة بين أطراف عدة، اعتمادا على خمسة مؤشرات رئيسية.


* أولها، تغير ميزان القوى بين الدول العظمى، إذ يزداد خطر الحرب كلما اقتربت قوة صاعدة من مضاهاة القوة المهيمنة أو تجاوزها.
* ثانيها، تحول التحالفات العسكرية، حيث يؤدي توسعها أو تفككها إلى زعزعة الاستقرار، مثل محاولة تمدد حلف الناتو في الفضاء السوفياتي السابق.
* ثالثها، الإنفاق العسكري المتسارع وتحديث الترسانات العسكرية، الذي يعكس استعدادا للمواجهة أكثر من رغبة في الردع.
* رابعها، حدة التنافس على الموارد والمناطق الإستراتيجية، مثل أوروبا الشرقية وبحر جنوب الصين.
* أما الخامس فيرتبط بتوقع تراجع قوة مهيمنة أو صعود منافس جديد، ويخلق حالة من انعدام اليقين قد تدفع الأطراف إلى التحرك الاستباقي.

ويُظهر التاريخ بوضوح أن هذه المؤشرات ليست مجرد مفاهيم نظرية، بل أنماط متكررة في مسار العلاقات الدولية. فقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، أدى الصعود الاقتصادي والعسكري السريع لألمانيا إلى إرباك ميزان القوى الأوروبي. إذ تحولت في العقد الأول من القرن العشرين إلى أكبر منتج للصلب في العالم، وتفوقت على بريطانيا وفرنسا في الصناعة والبحث العلمي والإنفاق العسكري، مما أثار قلق العواصم الأوروبية من قدرتها على إعادة تشكيل النظام القاري.

ورأت لندن في هذا الصعود الألماني تهديدا مباشرا لهيمنتها البحرية والاقتصادية، فبادرت إلى بناء تحالفات استباقية لاحتواء برلين، وردّت ألمانيا بتعزيز ترسانتها العسكرية وتوسيع أسطولها البحري بوتيرة غير مسبوقة. ومع عام 1913، خصصت الحكومة الألمانية جزءا كبيرا من ميزانيتها للتسلح، فاشتعل سباق تسلح واسع النطاق في أوروبا، وأصبح أي حادث سياسي أو عسكري كفيلا بإشعال فتيل الحرب.

هكذا تجسدت مؤشرات كفيرنمو الخمسة عمليا قبل قرنٍ من الزمان، حين تداخل تغير موازين القوى مع التحالفات المتشابكة والتسلُّح المحموم، فانهار التوازن التقليدي ودخلت أوروبا عصر المواجهة الشاملة. واليوم، كما يشير كفيرنمو، تتكرر الملامح ذاتها في مشهدٍ عالميٍ جديد، إذ يرى أن أربعة من هذه المؤشرات الخمسة تقع حاليا عند مستوى خطرٍ مرتفع، وأن الخامس يقع عند مستوى متوسط، لا سيما في سياق تقاطع النفوذ الأميركي والصيني.

ومن النماذج المعاصرة التي تُجسد طرح كفيرنمو، يبرز التصعيد المتسارع في بحر جنوب الصين. ففي هذه المنطقة المتوترة يشهد ميزان القوى تحولا واضحا مع صعود الصين ومحاولتها فرض هيمنة بحرية في محيطها الإقليمي على حساب النفوذ الأميركي، مما يثير مخاوف من تجاوزها تدريجيا حدود الردع القائم.

إعلان

وفي المقابل، هناك توسُّع الولايات المتحدة وحلفائها في آسيا، عبر تحالفات مثل "كواد" (QUAD)، الذي يضم اليابان والهند وأستراليا، وتحالف "أوكوس" (AUKUS) مع بريطانيا وأستراليا، بما يعيد رسم خرائط الاصطفاف العسكري في المنطقة ويزيد احتمالات الاحتكاك المباشر.

يُضاف إلى ذلك تسارع الإنفاق العسكري في كل من بكين وطوكيو وسول وواشنطن، والتنافس الحاد على الموارد البحرية وخطوط الملاحة، مع اقتناع متزايد لدى الصين بأن الوقت قد حان لاختبار حدود النفوذ الأميركي في الإقليم.

وبهذا المعنى، يشكل بحر جنوب الصين نقطة اختبار نموذجية لنظرية كفيرنمو، فوجود قوة صاعدة تواجه قوة مهيمنة، وسط شبكة تحالفات متحركة وتنافس على الموارد الحيوية، يخلق بيئة بالغة القابلية للاشتعال، يكفي فيها حادث بحري واحد أو تقدير خاطئ لفتح الباب أمام الانزلاق إلى نزاع عسكري واسع النطاق.

العدوى الجيوسياسية

غير أن الخطر لا يكمن في اختلال ميزان القوى فحسب، بل وفي طريقة ترابط النظام الدولي ذاته، وفق ما يرى بعض الباحثين، إذ إن شبكة التحالفات والمصالح المعقدة تجعل الصراعات أشبه بالعدوى التي تنتشر من نقطة إلى أخرى. وفي هذا السياق، يقدم الباحث الياباني هيديتو كويزومي نموذجا نظريا يفسر آلية هذا الانتشار، حيث يُبين أن بنية التحالفات الدولية قد تحول النزاع المحلي إلى ما يشبه "الحرب الباردة المُصغرة"، إذا تبنى أحد الأطراف مبدأ "صديق عدوي هو عدوي".

على سبيل المثال، حين تنشب مواجهة بين دولتين كبيرتين، ويبدأ كل طرف في معاداة أصدقاء خصمه، تجد الدول الأخرى نفسها مضطرة للاصطفاف إلى جانب أحد الطرفين. ومع الوقت، تتشكل كتلتان متقابلتان تقودهما القوتان الأصليتان، ويتحول الصراع المحدود إلى مواجهة عالمية.

وبهذا المعنى، لا تنشأ الحروب الكبرى فقط من نيات عدوانية أو سباق تسلح، بل من الطبيعة الشبكية للنظام الدولي نفسه، الذي يجعل الأزمات "مُعدية" وقابلة للتوسع كلما اتسعت دائرة التحالفات. ومع تآكل آليات الردع الجماعي وضعف الثقة بين القوى الكبرى، قد تكفي شرارة واحدة في الهامش كي تشعل حريقا في قلب النظام الدولي.

هذا التفسير النظري ينسجم مع تجارب تاريخية واقعية، أبرزها الحرب العالمية الأولى التي بدأت بشرارة محلية (اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو عام 1914) قبل أن تتحول، عبر آلية التحالفات والالتزامات المتداخلة، إلى حرب شاملة بين معسكري الحلفاء والمحور. ويُظهر التاريخ أن السيناريو نفسه تكرر بأشكال مختلفة، من نزاع محدود يبدأ في منطقة صغيرة، ثم يتّسع لأن طرفا قويا يرفض الحياد، وهو ما يجبر الجميع على الانحياز ومن ثم اختيار مواقعهم داخل المعركة.

هنا يوضح نموذج كويزومي كيف يمكن لآليات التحالفات أن تحول خصومة ثنائية بسيطة إلى انقسام عالمي واسع النطاق، بحيث لا يحتاج الأمر إلى أكثر من حادث محلي كي يبدأ العالم كله الاصطفاف من جديد. ومن الأمثلة الحاضرة التي يمكن أن تُطبق عليها نظرية انتقال العدوى الجيوسياسية، الحربُ الأوكرانية، التي بدأت صراعا محليا بين دولتين على خلفية نزاع حدودي وتاريخي، لكنها سرعان ما تحولت إلى مواجهة دولية متشابكة بفعل آلية التحالفات.

فمع انخراط الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في دعم كييف سياسيا وعسكريا، رأت موسكو أن الصراع تجاوز حدودها الإقليمية إلى صدام مع الغرب بأكمله، لتبدأ في المقابل تعزيز تحالفاتها مع الصين وإيران ودول أخرى. وهكذا، أعاد الصراع إنتاج منطق "صديق عدوي هو عدوي"، إذ لم يعد ممكنا لأي دولة البقاء على الحياد الكامل، فإما أن تُصنف ضمن معسكر الغرب، أو تُعتبر أقرب إلى روسيا وتحالفاتها الجديدة.

مع استمرار التورط الغربي في الحرب الأوكرانية، وازدياد التعاون العسكري الروسي الصيني الإيراني الكوري الشمالي، تتكرر دينامية الانتقال من الصراع المحدود إلى المواجهة شبه الشاملة، مما يجعل الساحة الأوروبية اليوم أقرب ما تكون إلى نظام حرب باردة مصغر قابل للاتساع في أي لحظة.

مصدر الصورة الرئيس الصيني شي جين بينغ (وسط) وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون (الثاني من اليمين) والرئيس الروسي فلاديمير بوتن (الثاني من اليسار)، في بكين في 3 سبتمبر/أيلول 2025 (الأناضول)

حلزون أم ردع؟

من جهة أخرى، يرى بعض منظري العلاقات الدولية، ومنهم الباحث الأميركي بير براومولر، أن الحروب الكبرى لا تندلع فجأة بل تمر بمرحلتين مترابطتين، الأولى تتراكم فيها التوترات البنيوية بين القوى العظمى حول النفوذ وموازين النظام الدولي، والثانية تنفجر فيها هذه التوترات حين تُقدم دولة ما على خطوة أمنية استفزازية أو تستغل غياب الردع الفعال لتوسيع نفوذها، فتتحول المنافسة إلى مواجهة شاملة.

إعلان

ولفهم هذه الآلية بعمق، ميَّز براومولر بين نموذجين كلاسيكيَّيْن لتفسير نشوء الحروب، الأول هو النموذج الحلزوني (Spiral Model)، الذي يرى أن الصراعات تنشأ من الخوف وسوء الفهم المتبادل، حيث تؤدي الإجراءات الدفاعية لكل طرف إلى ردود مقابلة، تخلق تصاعدا "حلزونيا" من انعدام الثقة، بما يؤدي إلى تصاعد التسلح حتى تندلع الحرب عن غير قصد.

أما الثاني فهو نموذج الردع (Deterrence Model)، الذي يرى أن الحروب الكبرى لا تنفجر بسبب الخوف، بل لأن أحد الأطراف يعتقد أنه يستطيع الاعتداء دون عقاب، بسبب ضعف الردع المقابل، أي أن غياب الرادع وليس التصعيد العفوي هو الذي يفتح الباب أمام الحرب.

ولاختبار أي النموذجين يفسر الحروب الكبرى على نحوٍ أدق، اختبر براومولر النموذج على صراعات القرن التاسع عشر في أوروبا، حين كانت الإمبراطوريات الكبرى في حالة تنافس دائم على النفوذ والحدود والتحالفات. فوجد أن الحروب الكبرى في تلك المرحلة لم تقع نتيجة سوء فهم أو تصعيد عفوي، بل حين اعتقدت دولة ما أن بوسعها الهجوم دون أن تلقى ردعا حقيقيا. هذا ما حدث مثلا عندما قدرت برُّوسيا في ستينيات القرن التاسع عشر أن خصومها في النمسا وفرنسا عاجزون عن مواجهتها، فبادرت إلى الحرب لتثبيت صعودها كقوة مهيمنة جديدة.

بهذا التحليل، خلص براومولر إلى أن العامل الحاسم في اندلاع الحروب الكبرى هو غياب الردع الفعال، وليس مجرد تراكم التوترات أو السباق العسكري. وهذا النمط يمكن تلمُّسه بوضوح في الواقع المعاصر، حيث تتصرف إسرائيل ضمن ما يشبه بيئة غياب الردع، فعلاوة على استمرارها في حرب الإبادة في غزة على مدار عامين، تشن تل أبيب ضربات متكررة في لبنان وسوريا، وتوسع عملياتها ضد أهداف إيرانية، مستندة إلى مظلة الحماية الأميركية، وواثقة بأنها لن تواجه ردا حاسما من خصومها.

ووفقا لمنطق براومولر، فإن استمرار هذا الإفلات من الردع يخلق مناخا نفسيا وإستراتيجيا قد يغري مزيدا من اللاعبين بالمخاطرة، ويزيد احتمالات تحول التصعيد المحدود إلى مواجهة إقليمية واسعة تتورط فيها أطراف كبرى. فحين تعتقد قوة ما أنها تستطيع الضرب دون ثمن، فإنها في الواقع تقترب من اللحظة التي يشعل فيها الاحتكاك الخاطئ أو الرد المفاجئ شرارة نزاعٍ لا يمكن احتواؤه.

"ضبابية الإسناد"

فضلا عن ذلك، تُعد التقنيات الحديثة، لا سيما الاعتماد المتزايد على أنظمة مؤتمتة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، عاملا مضاعفا لخطورة الأزمات. فالأنظمة الآلية تقرأ ملايين الإشارات في ثوانٍ، وتُقدِّم توصيات أو تتخذ إجراءات أولية بسرعة تفوق قدرة البشر على التدخل.

هذا الاختصار في زمن القرار يوفر ميزة تكتيكية، لكنه يختصر حلقة التحقق والتريث التي كانت تمنع في السابق تصعيدا خاطئا إلى مستوى عسكري. والنتيجة أن أي حادث تقني أو تفسير خاطئ لإشارة قد يتحول سريعا إلى سلسلة ردود لا رجعة فيها.

وتُبرز مؤسسة راند مسألة "ضبابية الإسناد" (أي صعوبة تحديد الفاعل ونياته بدقة) بوصفها إحدى أخطر سمات الصراعات الحديثة، خصوصا في مجالات الحرب السيبرانية والفضائية والمعلوماتية. فبينما كان الهجوم العسكري التقليدي واضح المصدر والنية، أصبحت التكنولوجيا اليوم تتيح تنفيذ عمليات تخريب أو تشويش، يصعب تحديد من يقف وراءها بدقة، أو حتى معرفة ما إذا كانت مقصودة أم مجرد خطأ تقني.

فعلى سبيل المثال، يمكن لدولة أن تُعطل شبكة أقمار صناعية أو أنظمة إنذار مبكر تابعة لخصمها، فيبدو الأمر وكأنه حادث أو تجربة إلكترونية، بينما يراه الطرف الآخر هجوما إستراتيجيا يستوجب الرد.

هذا الغموض في تحديد الفاعل أو النية يجعل الردود غير متوقعة، وقد يؤدي إلى تصعيد غير مقصود. فبدلا من أن تكون الهجمات السيبرانية أداة "منخفضة الكلفة" لتوجيه رسائل ردعية، تصبح شرارة لسلسلة من الردود التي يصعب احتواؤها.

وتكمن خطورة ضبابية الإسناد فيما تمنحه للدول من مساحة للمناورة دون تحمل مسؤولية واضحة، وبما تخلقه في الوقت نفسه من مناخ الشك الدائم. فكل انقطاع في الأقمار الصناعية، أو انهيار لأنظمة المصارف أو الطاقة، قد يُفسر بوصفه عملا عدائيا من طرف آخر، حتى لو كان ناتجا عن خلل داخلي. وبهذا تتحول الحرب الحديثة إلى ساحة من الشكوك المتبادلة أكثر من كونها مواجهة مباشرة.

هكذا، يبدو المشهد الدولي اليوم وكأنه يقف على الحافة بين شرارة محدودة وحريق شامل. فالتاريخ لا يُعيد نفسه عبر تكرار الأحداث، بل بعودة الأنماط التي تحكم تلك الأحداث إلى الظهور؛ من تصعيد يبدأ بخطأ في التقدير أو بردّ مفرط على استفزاز صغير، يتسع شيئا فشيئا حتى يُعيد رسم خرائط النفوذ العالمية. فكما تحولت حادثة خليج تونكين في ستينيات القرن الماضي إلى بوابة حرب طويلة في فيتنام، تتكرر الملامح ذاتها في أزمات معاصرة، من غزة إلى أوكرانيا، ومن بحر جنوب الصين إلى البحر الأحمر .

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا