آخر الأخبار

أورفيل شِل للجزيرة نت: رئيس الصين أكثر القادة غموضا في العالم

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في حواره مع صفحة أبعاد، يتحدَّث أورفيل شل، الصحافي والأستاذ الأميركي المُتخصِّص في الدراسات الصينية، عن تاريخ الصين ودورها المُتغيِّر في العالم، من عزلة الثورة الثقافية بقيادة ماو تسي تونغ التي سعت لقطع كل صلة بالماضي والعالم الخارجي، إلى البراغماتية والانفتاح بقيادة دِنغ شياو بينغ منذ نهاية السبعينيات، وحتى صعود الرئيس الحالي شي جين بينغ ، الذي يحاول أن يُتيح لبلاده أن تجني ثمار صعودها الدؤوب لعقود، ويُعيد للأذهان في الوقت نفسه أسلوب قيادة ماو المرتكز للحزب وقبضة الدولة.

ويُعَد شِل أحد أهم العارفين بالصين وتاريخها في الولايات المتحدة، فقد تعلَّم الصينية في شبابه حين التحق بجامعة ستانفورد، ثم انتقل إلى جامعة تايوان الوطنية حيث كتب مقالات لصحيفة "بوسطن غلوب" بدأت معها مسيرته الصحافية، ثم زار شِل الصين أثناء الثورة الثقافية الماوية وفي مطلع السبعينيات حين بدأ الانفتاح على الولايات المتحدة في سنوات ماو الأخيرة، نتيجة التوتُّر بين الصين والاتحاد السوفياتي ، الذي أدى في نهاية الستينيات إلى مناوشات حدودية بين الجيشين السوفياتي والصيني.

اقرأ أيضا

list of 3 items
* list 1 of 3 البروفيسور كيوهان لـ”الجزيرة نت”: ترامب أنهى قرن أميركا الطويل وجفَّف منابع قوتها
* list 2 of 3 جيم مايتر للجزيرة نت: حرب جديدة على الأبواب ستحدد من سيسيطر على العالم!
* list 3 of 3 مارك هاس للجزيرة نت: الشيخوخة قتلت الدول العظمى ولا شباب ليحارب end of list

في الفترة نفسها، أنهى شِل درجة الماجستير بجامعة كاليفورنيا بيركلي في الدراسات الصينية، والتحق ببرنامج الدكتوراه، وأنهى كل مراحله باستثناء الرسالة، حيث طغت التظاهرات المُناهضة لحرب فيتنام على الحياة الجامعية الأميركية في ذلك الوقت، وكان شِل من أنصار وقف الحرب.

ولكن ذلك لم يمنعه من التدريس في الجامعة ذاتها فيما بعد نتيجة خبرته الطويلة بالشأن الصيني والصحافة، إذ عمل لسنوات أستاذا وعميدا سابقا في كلية الدراسات العليا للصحافة بجامعة كاليفورنيا بيركلي.

وقد ساهم شِل في تأسيس وكالة أنباء الهادي (Pacific News Service)، التي غطَّت حرب فيتنام والتطوُّرات في الصين والهند الصينية. كما أنه ألَّف 15 كتابا، 10 منها عن الصين، وساهم في العديد من المجلدات المحررة. ومن كتبه "الثروة والسلطة.. مسيرة الصين الطويلة إلى القرن الحادي والعشرين"، و"التبت الافتراضية"، و"قارئ الصين.. سنوات الإصلاح".

إعلان

يشغل شِل حاليًّا منصب مدير مركز العلاقات الأميركية الصينية بالجمعية الآسيوية في نيويورك، وهو زميل في معهد وِذرهيد لدراسات شرق آسيا بجامعة كولومبيا ، وزميل في كلية أننبرغ للاتصالات بجامعة جنوب كاليفورنيا، وعضو في مجلس العلاقات الخارجية. وقد حصل على عدد من الجوائز الأكاديمية والصحافية عن مقالاته وكتبه.

الصين بين نقيضَيْن

ويؤكد شِل في حواره مع أبعاد أن فهم الصين اليوم يبدأ من فهم شخصية قائدها الحالي الرئيس شي، الذي تشكَّلت رؤيته للعالم في أتون الثورة الثقافية للزعيم ماو، حيث إن التجربة الصعبة التي عاشها بسبب اضطهاد والده على يد الحزب آنذاك دفعته إلى أن يُصبح "أكثر حُمرة" (أي أكثر تمسُّكًا بالمبادئ الشيوعية للحزب الشيوعي الصيني) مقارنة بأقرانه، مُتبنيًا الانضباط الصارم والسيطرة المطلقة التي تمثل جوهر الفكر الماوي، مع رفضه للفوضى والثورة المستمرة.

وهكذا، يمثل شي عودة ماضٍ لم يختفِ قط، ليثبت أن شخصيات القادة ودوافعهم النفسية مهمة في فهم سياساتهم وسياسات الدول التي يحكمونها.

يرى شِل مثلا أنَّ الدِّين في الصين يُنظَر إليه من خلال عدستين متناقضتين، تعكسان الصراع العميق داخل الهوية الصينية. فمن جهة يوجد التيار الإنساني الليبرالي الذي يحتضن التعددية الدينية ويضم أفرادا متدينين ومنفتحين، ومن جهة أخرى تقف الأيديولوجيا الماركسية اللينينية الرسمية التي تبناها ماو وتَعتبر الدين أفيون الشعوب، ويرى شِل أنها لا تقبل القيم الإنسانية ذاتها.

ويكمُن جوهر هذا العداء في أن الدين يمثل ولاءً متجاوزا للسلطات الدنيوية، مما يشكل تهديدا للمنظومة الشمولية التي تتطلب الولاء المطلق للحزب وزعيمه فقط.

وقد تجسَّد هذا الصراع بأعنف صوره أثناء الثورة الثقافية، حين سعى ماو إلى استئصال الماضي بكل رموزه، بما في ذلك الأديان، واعتُبرت التقاليد الدينية جزءا من الضعف الذي يجب التخلص منه.

ورغم أن حقبة الإصلاح خفَّفت من حِدّة الاضطهاد وشهدت عودة الاهتمام ببعض الطقوس الصينية القديمة، فإن السلطة في بكين تظل على تحفُّظها تجاه النشاط الديني في العموم، وخاصة حين يُشكِّل قاعدة ثقافية لشريحة مجتمعية بعينها، مثل الإسلام عند مُسلمي الإيغور في مقاطعة شينغيانغ، والبوذية عند بوذيي إقليم التِّبت وزعيمهم الروحي الدلاي لاما. ولذا، يظل هذا التناقض جزءا أساسيا من الدراما المستمرة لتحديد هوية الصين.

مصدر الصورة رجل وامرأة من قومية الإيغور الصينية المسلمة (الجزيرة)

نهاية الانفتاح

رغم شغفه بالصين ودفاعه عن قضية فيتنام في شبابه وانتقاداته لبعض السياسات الأميركية، فإن شِل يُشارك العديد من المُحللين وصناع القرار الأميركيين توجُّسه من صعود الصين، ودورها التنموي في العالم الثالث الذي يعتقد أنه يُمكن أن يجعلها أسيرة المساعدات الصينية، ورغبتها في إثبات دورها في محيطها الآسيوي، الذي يرى شِل أنه يثير الاضطرابات ويُزعزع استقرار المنطقة، لا سيَّما شرق آسيا حين يظل ملف تايوان مُعلَّقا، وتظل العلاقات بين الصين من جهة، واليابان وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، علاقة يشوبها التوتُّر.

في يونيو/حزيران 2020، كتب شِل مقالا مُطوَّلا عن سياسة الانفتاح على الصين التي بدأت تحت إدارة نيكسون، وقال إنها ماتت فعليًّا ولم تُغيِّر الدولة الصينية كما كان مأمولا.

إعلان

وكانت سياسة الانفتاح قد بدأت في السبعينيات، حين استغلت واشنطن التوتر الصيني السوفياتي، وشاع حينها الحديث عمَّا يُمكِن أن يُحدثه تفاعل سياسي واقتصادي وثقافي بين الأميركيين والصينيين، وهو تصوُّر ازداد رسوخا بالتوازي مع تمكُّن الفكر الإصلاحي في الصين، وصعود نموذجها الرأسمالي الخاص، وتوطُّد التشابُك الاقتصادي بين العملاقيْن الاقتصاديَّيْن الأكبرين في العالم الآن.

"إن الحوافز التجارية لا بُد أن تجعل الصين ديمقراطية يوما ما"، هكذا صرَّح ذات مرة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب ، مُعلِّقا على تجاهُل بلاده لما جرى في ميدان تياننمن الشهير من سحق لأول انتفاضة كُبرى بوجه الحزب الشيوعي في الصين.

لم يختلف كلينتون كثيرا في اعتقاده بأن التحديث الاجتماعي والاقتصادي في الصين لا بُد أن يُحدِث تغييرا في نظامها السياسي، ويدفعها نحو الديمقراطية. كان ذلك بالطبع في التسعينيات حين ساد تفاؤل مُبالغ فيه حيال تحوُّل العالم كله للديمقراطية والتجارة الحرة، في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي وأفول نظامه الشيوعي.

ولكن على حد وصف شِل في مقاله، فإن الصين بينما راكمت قوة سياسية واقتصادية هائلة بسبب صعودها السريع، فإنها سرعان ما بدأت تستخدم أسس قوتها الجديدة بصورة واقعية وبراغماتية، دون أن تُحدِث أي تغييرات جذرية في بنية نظامها السياسي من أجل التحوُّل الديمقراطي على الطريقة الأميركية.

ولذا، مع إخفاقات الحرب على الإرهاب تحت إدارة جورج بوش الابن، واستنزاف القوة الأميركية في أفغانستان والعراق، بدأ التحدي الصيني يلوح من بعيد، وبدأت الولايات المتحدة تتعامل معه بجدية لأول مرة تحت إدارة أوباما.

وبعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، بدأ تداول مصطلح "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" في الصين، وبدأ صناع القرار في الحزب الشيوعي الصيني ينظرون إلى بلادهم لأول مرة على أنها تمتلك نموذجا متفوِّقا على نظيره الأميركي.

وتُرجِم كل ذلك إلى صعود شي جين بينغ رئيسا عام 2013، الذي يُعَد النهاية الفعلية لحقبة الإصلاح وتداول السلطة داخل الحزب الشيوعي، إذ إن شي أول زعيم منذ ماو يحكُم دون قيود زمنية، وأول من يُحاول استخدام أدوات القوة الصينية في محيطه الآسيوي وحول العالم في منافسة صريحة للهيمنة الأميركية.

وبصعود إدارة ترامب، بدأ النظر إلى الصين بوصفها خطرا يتبلور بوضوح، وأتى ذلك بالتزامن مع عودة الإجراءات الحِمائية واستخدام سلاح الجمارك بأريحية من جانب ترامب.

ويرى شِل أن واشنطن مسؤولة بدرجة كبيرة عن حالة العلاقات الصينية الأميركية اليوم، لا لشيء إلا أنها تفاعلت بتفاؤل مُبالغ فيه، على عكس الواقعية التي تعاملت بها مع الاتحاد السوفياتي، وأنها اليوم لم تعُد تملك إلا خيار إدارة التوتُّر والتناقضات مع الصين كي تبقى عند حدها الأدنى ولا تُشعِل صراعا في آسيا، فيما يُسميه سياسة ما بعد الانفتاح (Post-Engagement).

وانطلاقا من كل ما سبق جاء الحوار مع الصحافي والأستاذ الأميركي المُتخصِّص في الدراسات الصينية أورفيل شل.

مصدر الصورة الرئيس الصيني الأسبق ماو تسي تونغ (رويترز)

الحوار


* تَعودُ رحلتُكَ الأولى إلى الصين لعام 1975، في وقتٍ كانت فيه البلاد لا تزال تحت حكم ماو تسي تونغ. وبصفتك شاهدا على تحوُّلات الصين منذ تلك الحقبة التأسيسية، هلا وصفتَ لنا أبرز مشاهداتك وانطباعاتك عن تلك الرحلة؟

زُرت الصين للمرة الأولى إبَّان الثورة الثقافية حين كان الزعيم ماو لا يزال على قيد الحياة، ولم تكُن زيارتها متاحة بسهولة للأميركيين آنذاك. قضيت هناك عدة أشهر عاملا في لواء زراعي نموذجي ومصنع للآلات الكهربائية.

نحن كلما تقدَّم بنا العمر نعيش فصولا أكثر من التاريخ، ونرى كيف يمكن للأمور أن تتبدل جذريا. ورغم كل تغيير، يظل الماضي متجذرا في نسيج أي بلد ولا يُمحى بالكامل. لهذا، كانت تجربتي ومشاهداتي أثناء الثورة الثقافية مُربكة للغاية. فرغم أنني كنت أتحدث الصينية وأقمت لسنوات في تايوان، فإنني شعرت بانعزال تام وعدم قدرة على الاندماج.

إعلان

أدرك الآن بعد عقود طويلة أن تلك التجربة التي خضتها بينما كنت أكتب لمجلة "ذا نيويوركر"، كانت تكوينية رغم كل ما أحاط بها من التباس، فقد أتاحت لي أن أرى بوضوح كيف تغلغلت جذور الثورة الثقافية وفكر ماو والماركسية اللينينية في عمق النظام الصيني؛ ليس فقط كأيديولوجيا ونظام سياسي، بل كامتدادٍ امتزج مع سلطوية النظام الإمبراطوري القديم بشكل فريد.

ويَستمر الماضي في فرض حضوره مجددا، فمهما حاول دِنغ شياو بينغ التلويح بعصا الإصلاح السحرية، كان الواقع يبقى أكثر تعقيدا. وقد شهدتُ مرارا على مر العقود كيف تعود أصداء الماضي لتتردد من جديد. وأرى اليوم في شخصية شي تجسيدا لعودة هذا الماضي الثوري، وإن لم يكن كاملا.

وعلينا أن نتذكر أن شي عايش الثورة الثقافية، التي وُصِمَ فيها والده بتهمة معاداة الثورة وأُرسل إلى معسكرات العمل القسري. جَرَّت هذه الحادثة على شي وصمة مشينة شعر معها بإحباط عميق، وحاول يائسا التبرؤ منها. ونتيجة لذلك، يمكن القول إنه اضطر لإثبات ولائه بأن يصبح "أكثر احمرارا"، كما يقول الشيوعيون الصينيون، وأشد تمسُّكا بالمبادئ الشيوعية من أقرانه حتى يحظى بالقبول في المنظومة.

يتجذرُ ذلك الماضي في الصين ولم يختفِ قط، وها نحن نشهد عودته بأسلوبٍ مفاجئ للكثيرين. ولكن ينبغي القول إن شي لم يستنسخ كل إرث ماو، فهو ينفر من ميل ماو إلى الفوضى والثورة المستمرة والصراع الطبقي، وتحريض فئات المجتمع على بعضها. في المقابل، يتبنى شي الجزء الأكثر رسوخا في كيانه السياسي، والمتعلق بفرض السيطرة المحكمة والانضباط الصارم وتكريس مبدأ "الحزب أولا".


* ربطتَ ببراعة بين الجذور النفسية لكلٍّ من شي جين بينغ وماو تسي تونغ، وكيف صاغت تجاربهما العائلية القاسية الشخصية السياسية لكل منهما، لا سيما علاقة كل منهما بوالده وبالحزب؛ فهل لك أن تتوسع أكثر في شرح هذا التأثير العميق للتجارب الشخصية في تكوين القادة؟

يميل المحللون عند تناول الشؤون العالمية والجغرافيا السياسية إلى النظر إلى الدول على أنها وحدات مُجرَّدة لها مصالحها الوطنية ولها قادة يسعون وراء مصالحها تلك، متناسين في كثير من الأحيان أن القادة بشر في نهاية المطاف. وتبرز هذه الحقيقة اليوم مع عودة ظاهرة "الزعيم الأوحد" بعد فترة من الديمقراطيات التي وزعت السلطة بين أفرع الحكومة المختلفة.

تتجسد هذه الظاهرة في شخصيات مثل بوتين في روسيا، وشي في الصين، وكيم جونغ أون في كوريا الشمالية، ورجال الدين في إيران، وأوربان في المجر، وحتى ميلي في الأرجنتين.

ولذلك، يبدو أننا ندخل حقبة جديدة يتضاءل فيها دور الأنظمة السياسية لصالح شخصية القائد، وهو توجه يظهر حتى في الولايات المتحدة مع شخصية مثل ترامب، الذي يمكن وصف أسلوبه بـ"شبه السلطوي".

ويُثبت الواقع أن فهم القادة، وسَبْر أغوار شخصياتهم ودوافعهم واقتناعاتهم، يوازي في أهميته تحليل المصالح الوطنية والجغرافيا السياسية.

تنبع من هنا ضرورة فهم شخصية بحجم شي، وهو قائد دولة ذات ثقل هائل في الاقتصاد العالمي والتوازن الجيوسياسي. ولنتذكر كيف تَماهَت الصين مع شخصية ماو في عصره، حين سُحِق أو هُمِّش كل قائد سواه، ومات الكثيرون أو اختفوا في معسكرات الاعتقال، مما يبرهن على التأثير المطلق الذي يمكن أن يمتلكه هؤلاء القادة.

وفي عصرنا الحالي، الذي يشهد عودة ظاهرة "الزعيم الأوحد"، يصبح هذا الفهم أكثر إلحاحا. ولذا، ورغم أن شي يُعَد أحد أكثر القادة غموضا في العالم، فإن محاولة تمييز دوافعه تظل ضرورة قصوى.

مصدر الصورة الصين في عهد ماو سعت إلى قطيعة تامة مع تراثها الديني مثل الكونفوشيوسية والأديان عموما (الجزيرة)
* أوضحتَ كيف أن الصين في عهد ماو سعت إلى قطيعة تامة مع تراثها مثل الكونفوشيوسية والأديان، معتبرة إياه سبب ضعفها ومصدر مشاكلها، وفي سياق هذه المواجهة طورت أيديولوجيا صراعية لمواجهة "العدو الداخلي" المتمثل في التقاليد شرطا ضروريا لترسيخ عقيدة "العدو الخارجي"، فهل لا تزال تؤثر هذه الرؤية في موقف بكين من العالم؟

للإجابة عن الجزء الأخير من سؤالك، تعود إحدى الركائز الأساسية في فكر ماو وكتاباته إلى لينين مباشرة، الذي رأى تناقضا جذريا لا حل له بين البرجوازية والبروليتاريا، وبين القوى الإمبريالية والمستعمرات، مؤمنا بأن الصراع والعنف هما السبيل الوحيد لحسمه.

وتبنَّى ماو هذه النظرية بالكامل، وأعلن صراحة في وقت مبكر أن "الحزب الشيوعي الصيني بحاجة إلى أعداء". وبنى رؤيته للعالم كمكانٍ عدائي، وحدد ما أسماه التناقض العدائي؛ وهو صراع وجودي لا يمكن حله بالتفاوض أو الحوار، بل ينتهي حتما بهزيمة طرف وانتصار الآخر في معادلة صفرية.

وترسَّخت هذه العقلية القائمة على ثنائية "نحن أو هم" في صلب الحزب الشيوعي الصيني منذ بداياته ولم يتخلَّ عنها قط. وحتى في حقبة الإصلاح والانفتاح على الغرب، لم يكن الهدف تغيير هذه العقيدة، بل الحصول على التكنولوجيا اللازمة للتصنيع وتحقيق الثروة.

الآن، بالعودة إلى الجزء الأول من سؤالك، أدركت الصين عند مواجهتها للسفن الحربية الغربية في القرن التاسع عشر، أن مصدر ضعفها الحقيقي لم يكن قوة الغرب، بل الوهن الكامن داخلها.

إعلان

وقد شَخَّصت هذا الضعف في كونها مكبلة بالتقاليد، فالنظام الكونفوشيوسي والسُلالي جمَّد مسيرتها نحو التقدم، وأعاق تبنيها للتكنولوجيا، وقاوم الأفكار الجديدة، ونبذ تعلم اللغات الأجنبية، وفرض عليها عزلة وانغلاقا.

وشكَّل هذا الإدراك الأساس الذي انطلق منه مسار التطور الصيني في القرن العشرين. فعندما جاء ماو كان على اقتناع راسخ بأن هذا الوضع يتطلب تقويما جذريا، معتبرا أن الماضي عبءٌ ثقيل يجب التخلص منه. وهذا ما جسَّدته الثورة الثقافية التي استهدفت تدمير ما أسماه "القديمات الأربع": الثقافة والعادات والتقاليد والأفكار القديمة.

وفي سبيل ذلك، حُظرت دراسة التاريخ، وأُغلقت المتاحف، وحُطِّمت كنوز الخزف من عهد أسرة مينغ، ودُنِّست المعابد. لقد تمثَّلت المشكلة في الماضي، فكان لا بد من استئصاله بأعنف أشكال الثورة، وهو ما نفَّذه ماو بالفعل.


* عاصرتَ بنفسك الثورة الثقافية ورأيت كيف دشنها ماو، ثم فوجئت بالتحول الجذري الذي تلا رحيله حيث كنت تتوقع استمرار هيمنة إرثه الفكري. كيف تصف لنا هذا الانتقال المفاجئ الذي شهدتَه من الداخل، والذي نقل الصين إلى وجهة مختلفة تماما؟

امتلكت الصين دائما علاقة مركبة مع الغرب الأكثر حداثة وتطورا، فقد شعرت بإذلالٍ عميق لاضطرارها إلى الاقتباس منه، وهي التي طالما اعتبرت نفسها قمة الحضارات الإنسانية.

ورغم ذلك، كان هذا الاقتباس ضرورة لحماية كيانها، مما ولَّد تناقضا جوهريا منذ البداية. ويمكن القول، متفقين في ذلك مع ماو، إن الصين بحد ذاتها كيان قائم على التناقضات، فهي تجمع بين الأشكال المتطرفة للفكر الماوي اللينيني من جهة، وجانب آخر مستنير ومنفتح وليبرالي من جهة أخرى.

ويتجلى هذا التناقض في مسار التاريخ الصيني الذي يشهد تأرجحا مستمرا بين هذين النقيضين، ففي لحظةٍ ما يسود جانب واحد، كما حدث في عهد ماو والثورة الثقافية.

ثم على نحوٍ مفاجئ يظهر شخص مثل دِنغ شياو بينغ ليُدشِّن عصر الإصلاح والانفتاح على العالم، فتزدهر مفاهيم المجتمع المنفتح وحرية التعبير وسيادة القانون، مدفوعة باقتناع المصلحين بأن هذا هو السبيل الوحيد لتصبح الصين دولة غنية وقوية. ولكن ما يلبث هذا المشهد أن يستمر لفترة حتى يبدأ التغير والعودة مرة أخرى في اتجاه مغاير.

تَحتَضِن الصين في كيانها عوالم متناقضة تتعايش معا. وبينما قد يختفي أحد هذه العوالم مؤقتا بفعل قمع الحكومة، يعود للظهور مجددا في لحظة تاريخية أخرى كاشفا عن وجه مختلف للصين. فهي ثقافة ومجتمع لم يحسم هويته، إذ يظل مفتونا بالغرب وعلومه، وقيمه الليبرالية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وهذا يقف على النقيض من الفكر الماركسي الذي تبناه ماو، وهو فكر لا يؤمن بالمفهوم الإنساني الشامل في رأيي. فالحقوق لديه ليست فطرية لكل البشر، بل تُمنح لطبقات دون أخرى، فالفلاحون لهم حقوق، أما مُلاك الأراضي والبرجوازيون فلا حقوق لهم، بل الإعدام والسجن.

ويتجلى هذا التناقض حين جاء دِنغ في أواخر السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات الاستثنائي. فرغم أن نظامه لم يتبنَّ فكرة حقوق الإنسان العالمية كليًّا، فإنه أوقف "جلسات الصراع الطبقي" العنيفة التي كانت تستهدف المثقفين والعلماء والمتدينين.

وهذا يُثبت أن الصين أكبر من ماو أو دِنغ أو شي. فالحكام المستبدون يقمعون التيارات الأخرى بأقصى ما يستطيعون، لكنهم لا يقتلعونها من جذورها، ولذا فإنها تعود للظهور بشكل أو آخر.

وهذه هي الدراما التي شهدناها تتجدد باستمرار: تارة يعلو التيار الماركسي اللينيني الاستبدادي، وتارة أخرى يبرز وجه الصين الليبرالي العالمي، الذي يحتضن شخصيات إنسانية رائعة ومنفتحة، وبعضها متدين.

خير مثال على هذا الصراع الموقف من الدين، فالتيار الإنساني يحتضن التعددية الدينية، بينما تعتبر الماركسية الدين "أفيون الشعوب" وتسعى للقضاء عليه، لأنه يمثل ولاء لكيان آخر غير الحزب وزعيمه، مما يجعله نقيضا للمنظومة الشمولية.

مصدر الصورة مع وصول شي جين بينغ إلى السلطة، عمل الحزب الشيوعي على إحياء دوره المركزي من جديد مدفوعا بما يصفه الحزب بـ "انزلاق الصين نحو الفوضى والاضطراب" (الفرنسية)
* استلهم شي من تجربة والده القاسية مسارا سياسيا أكثر تشددا في ولائه للحزب، لكن هل أعاد شي تشكيل الحزب ليخدم مشروع "الحلم الصيني"، أم أنه نتاج لإرادة الحزب ومجرد منفذ لسياسته؟

تَراجع دور الحزب الشيوعي بشكل ملحوظ في الحياة الصينية في الثمانينيات والتسعينيات وأوائل الألفية الجديدة. فبعد أن كان الحزب يدير كل شيء عبر خلاياه المنتشرة في كل جامعة ومصنع لغياب القطاع الخاص، انطلقت حركة قوية لسحب سيطرته وترك المؤسسات تدير شؤونها بنفسها. وتجلى أثر ذلك بوضوح في قطاع الأعمال، حيث تحرَّر رواد الأعمال من هيمنة الحزب، مما سمح لهم بالانطلاق وتحقيق نجاح هائل وتأسيس شركات قوية.

لكن مع وصول شي إلى السلطة، وإن كانت بوادر هذا التحوُّل قد بدأت قبله بقليل، عمل الحزب على إحياء دوره من جديد مدفوعا بخشيته من انزلاق الصين نحو الفوضى والاضطراب، وبدأ شي إعادة فرض وجود الحزب في كل جوانب الحياة المؤسسية من البنوك والفرق الرياضية إلى المؤسسات الثقافية وغيرها. ولذلك، لا أعتقد أن الحزب هو الذي "شكَّل" شخصية شي، بل كان دائما جزءا أصيلا من تكوينه.

وحتى والده، الذي كان أكثر اعتدالا وبحثا عن نهج إنساني، عاش صراعا جوهريا بين كونه إنسانيًّا من جهة، ولينينيًّا ملتزما من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، لم يكن بوسعه أن يأمر بإعدام أحدهم. وأدَّى به هذا الموقف إلى دخوله في دوامة من المتاعب، وعاش محنة قاسية استمرت إلى أن جاء دِنغ عام 1978 ليرد له اعتباره، فعاد بعدها إلى الحياة العامة وساهم في تأسيس المناطق الاقتصادية الخاصة.

ولكن تلك السنوات كانت فترة مريرة للغاية على الأسرة، وهي الفترة التي شكّلت طفولة شي ومراهقته. فقد نشأ ووالده مُصنَّف ضمن ما يُعرف بـ"الفئات السوداء الثماني" في تاريخ الشيوعية الصينية، وهي قائمة ضمَّت من اعتبروا أشرارا يستحقون السجن والاضطهاد، وكان والده على رأس القائمة بتهمة معاداة الثورة.

هذا هو العالم الذي صقل شخصية شي، وعلَّمه درسا مزدوجا؛ فبينما يرفض شي رفضا قاطعا تكرار فوضى الثورة الثقافية ولا يريد حرسا أحمر يجوب الشوارع ويدمر الجامعات والشركات، فإنه في المقابل يتمسك بشدة بالجانب الآخر الذي تؤكده الماركسية اللينينية والماوية، وهو الانضباط الصارم والتنظيم المحكم والعقيدة الموحدة مع عدم التسامح مطلقا مع أي معارضة.


* تتباين التصورات حول دور الصين العالمي بشكل حاد؛ فبينما تراها الولايات المتحدة تهديدا، تُصر الصين على أنها قوة سلام، وتنظر إليها دول كثيرة في أفريقيا والشرق الأوسط بوصفها صديقا. من وجهة نظرك، هل تمثل الصين تهديدا حقيقيا للعالم، ولماذا؟

تُشَكِّل مسألة التهديد اليوم محورا ليس فقط للعلاقات الأميركية الصينية، بل لعلاقة الصين بالعالم أجمع. ويجب أن نتذكر أنه أثناء الحرب الباردة ، كان العالم غير الاشتراكي يرى الصين تهديدا حقيقيا، وقد كانت كذلك بالفعل؛ إذ سعت آنذاك إلى تصدير فكرة الحروب الشعبية إلى مناطق مختلفة من العالم، مثل الهند الصينية وإندونيسيا وأفريقيا، مدفوعة بالعداء الجذري بين عقيدتها الماركسية اللينينية والديمقراطيات الغربية.

ويجب ألا ننسى التحوُّل الذي تبع تلك الحقبة مع وصول دِنغ إلى السلطة، حيث تبنَّت تسع إدارات رئاسية أميركية متعاقبة، بدءا من نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر، سياسة الانفتاح على الصين. وكان الهدف من هذه السياسة نزع فتيل التهديد الصيني، واختبار إمكانية بناء علاقات تقارب وتعايش عبر التجارة والتبادل الثقافي.

ولفترة من الزمن، بدت هذه السياسة واعدة للغاية. ولكن يجب أن نتذكر ما حدث عام 1989، حين أدت مظاهرات الطلاب إلى وقوع مذبحة، مما جعل الاستمرار في سياسة الانفتاح على الصين أمرا بالغ الصعوبة.

ورغم ذلك، وبعد أيام قليلة فقط من الصدام يوم 4 يونيو/حزيران، أرسل الرئيس بوش الأب مستشاره للأمن القومي برنت سكوكروفت إلى بكين لإجراء محادثات سرية مع دِنغ، دون حتى إعلام السفير الأميركي. ويكشف نص ذلك الاجتماع مشهدا لافتا، حيث جلس سكوكروفت يتوسل إلى دِنغ للحفاظ على الانفتاح مع الولايات المتحدة، قائلا: "إن بوش صديقك. لا يمكننا أن ندع ما حدث يدمر العلاقة بين بلدينا، لقد عملنا بجد للوصول إلى هنا ولا يمكننا السماح بتمزيقها".

وبالفعل، شهدت فترة التسعينيات التي تلت المذبحة تحسُّنا في العلاقات تحت قيادة الأمين العام للحزب جيانغ زمين. وقد لمستُ ذلك شخصيا عندما رافقت الرئيس كلينتون في زيارته للصين عام 1998، حيث كانت علاقة الصداقة بينه وبين زمين حميمة بشكل لا يصدق.

وقد بَذلت الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى جهودا طويلة ومضنية للخروج تدريجيا من دائرة العلاقة العدائية التي سادت الصين أثناء الحرب الباردة. ولكن مع ظهور شي على الساحة، عادت التوترات تشتعل من جديد.

فقد أعاد شي التوتر في مضيق تايوان، وبدأ مناوشة السفن اليابانية في نزاع جزر سينكاكو، واشتبك عسكريا مع الهند في وادي جلوان ولداخ، وطالب بالسيادة على ولاية أروناتشال برادِش الهندية، وادَّعى السيادة على بحر الصين الجنوبي بأكمله، وصولا إلى حدود إندونيسيا وبروناي والفلبين.

إذا كنا نتحدث عن تهديد، فهذا هو التهديد بعينه، حيث يمكن أن يندلع صراع عسكري في أي يوم في تلك المناطق. وهكذا، عادت علاقة التهديد إلى السطح بقوة، ليس فقط بين الولايات المتحدة والصين، بل إن مستويات التهديد أصبحت أعلى بكثير بالنسبة لدول آسيا وأوروبا، والمصدر الأكبر له هو الصين. ولذلك أوجه رسالتي لأفريقيا والشرق الأوسط: تاجروا، وبيعوا نفطكم، وانضموا إلى بريكس ، واستفيدوا من مشاريع مبادرة الحزام والطريق ، ثم راقبوا ما سيحدث.

مصدر الصورة تُظهر الصين نموا عسكريا هائلا تحت قيادة الرئيس الصيني شي جين بينغ (رويترز)
* هل توظف الصين "سلاح الديون" لفرض نفوذها في أفريقيا والشرق الأوسط؟

تسعى الصين بوضوح إلى بسط نفوذها، وتتخذ من مساعدة البلدان سبيلا لذلك، مستغلة حاجة تلك البلدان الماسة إلى الدعم. وقد ساعد في ذلك للأسف غياب الدور الأميركي عن مساعدة بقية العالم، خاصة في عهد ترامب، مما فتح الباب على مصراعيه للصين.

ولذا من الطبيعي أن تقبل هذه الدول الفقيرة المساعدة الصينية، لكنها سترتكب حماقة كبرى إن لم تدرك أن هذا الدعم يحمل كلفة باهظة وستكون له عواقب وخيمة.


* بيد أن هذا النهج لا يختلف في جوهره عن السياسة التي تنتهجها واشنطن نفسها تجاه مناطق أخرى من العالم، مثل أفريقيا والشرق الأوسط.

يتمثل أكبر خطأ ارتكبته الولايات المتحدة في تخليها عن الساحة الدولية وانسحابها من مسؤولياتها -خاصة في عهد ترامب- تجاه الدول التي تحتاج إلى المساعدة. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة انخرطت تاريخيا في منافسة جيوسياسية، لا سيما مع روسيا في مناطق مثل أفريقيا، فإن غيابها الحالي ترك الميدان خاليا تماما للصين. ولكن جوهر القضية يكمن في الاختلاف الجذري للنظام السياسي الصيني.

كل دولة، وإن كانت تحتاج إلى الانخراط التجاري، يجب أن تدرك أن الاعتماد على قوة كبرى أخرى يجعلها عُرضة لضغوط نظامها السياسي وقدرته على التلاعب بها. وهنا تبرز أهمية الأنظمة السياسية التي لا يمكن تجاهلها، فقد أثبتت التجربة مع الصين أن التجارة ليست منفصلة عن أيديولوجية الدولة الاستبدادية القائمة على الحزب الواحد، بل هي جزء لا يتجزأ من نظامها وسعيها لبسط النفوذ.

وفي هذا الصدد، كانت الولايات المتحدة، رغم كونها ديمقراطية غير كاملة لها عيوبها، تُروِّج لنموذج عالمي سياسي يختلف كليا عن ذلك الذي تدعو له الصين. وفي النهاية، سيتعيَّن على كل دولة أن تختار المبادئ والنظام الذي تريد الانحياز إليه.


* بالنظر إلى الموقف الأميركي العام الذي يرى الصين تهديدا متزايدا، كيف يمكن فهم الدور الذي يؤديه ترامب في هذه المعادلة؟ وهل يمثل نهجه الشخصي استمرارا لهذا الموقف، أم أنه يشكل مسارا مختلفا تماما، خاصة بالنظر إلى أوجه التشابه التي أشرت إليها بين أسلوبه وأسلوب قادة مثل ماو؟

يقتضي فهم الموقف الأميركي من الصين التمييز بوضوح بين مسارين: الأول هو الموقف العام للولايات المتحدة، والثاني هو نهج ترامب الشخصي. فمن جهة، تنظر واشنطن بشكل متزايد إلى الصين على أنها خطر حقيقي، وهو شعور يتجسَّد في تصاعد مؤشرات انعدام الثقة، مدفوعة بتزايد الاستبداد والتلاعب من جانب بكين. ويمكن القول إن هذا التوجه أصبح راسخا ولا رجعة فيه، حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه.

أما ترامب، فيمثل حالة مختلفة تماما؛ فهو شخصية مختلفة، فكل ما يسعى إليه هو إبرام أي صفقة تجعله يبدو بمظهر جيد بغض النظر عن محتواها. لذلك يجب التفريق بين التقاليد السياسية الأميركية الراسخة التي طغت عليها حاليا موجة من القومية الفجة، وبين شخصية ترامب الفريدة.

ويمكن تشبيه ترامب في بعض النواحي بالرئيس الصيني السابق ماو، فكلاهما يستمد قوته من إثارة الفوضى، تطبيقا لمقولة ماو الشهيرة: "أحدثوا اضطرابا عظيما تحت السماء". والأكثر دلالة من ذلك، أن الشعار الذي أطلقه ماو في بداية الثورة الثقافية آمرا الحرس الأحمر بقصف المقر الرئيسي، لم يكن يعني سوى مهاجمة الدولة العميقة، وهو بالضبط الخطاب الذي يتبناه ترامب اليوم.

يَكمُن التشابه الحقيقي في طبيعة الأزمة وليس في تفاصيلها، فإن هذا لا ينفي أن ترامب رجل قوي له توجهاتت محددة. ومع ذلك، فهو لا يمثل الأمة بأكملها، فأميركا كغيرها من الأمم، تمتلك تقليدا ديمقراطيا راسخا لا يُرجَّح أن يختفي ببساطة. لكن هذا التقليد يواجه اليوم تحديا كبيرا، حيث تمر البلاد بأوقات عصيبة يمكن وصفها بأنها ثورة ثقافية خاصة بها.


* يدفعنا تاريخ الصين الحافل بالتغيير مع كل قائد، إلى جانب عمر الرئيس شي وتعديلاته الدستورية، إلى التساؤل: كيف تنظر إلى معضلة الخلافة في النظام الصيني، وما التداعيات المحتملة لهذا الغموض على مستقبل البلاد ونخبها؟

تكشف تجربة الخلافة في الصين، كما شهدناها مع ماو وغيره، عن حقيقة ثابتة، وهي أن أي زعيم يُنهي مسيرته السياسية في اللحظة التي يُعيِّن فيها خليفة له. فبمجرد حدوث ذلك تتحول الأنظار كلها نحو الشخص الجديد، ويفقد الزعيم السابق قدرته على حماية نفسه، خاصة إذا تخلى عن منصبه المحوري، منصب الأمين العام للحزب.

وبالنظر إلى أن شي لاحَق نحو مليوني شخص قانونيا بتهم الفساد، فإن الأعداء الذين ينتظرون لحظة ضعفه كُثر، وهو يدرك ذلك تماما. ولهذا السبب، من المستبعد أن يسير شي على هذا الطريق، متجنبا تكرار تجربة ماو المأساوية مع خليفته لين بياو الذي حاول اغتياله، ثم لقي حتفه أثناء هروبه. وبناء على ذلك، يبقى مستقبل الصين غامضا ومفتوحا على كل الاحتمالات، سواء نحو الأفضل أو الأسوأ. والأمر المؤكد هو أن تلك التيارات الفكرية والسياسية العميقة والمتضاربة في التاريخ الصيني قد تعود للظهور لتشكيل المشهد من جديد.

تشعر الطبقات المهنية والمثقفة في الصين باغتراب عميق في الوقت الراهن، فالكثير منهم يغادرون البلاد بهدوء أو يسعون لذلك، لانعدام رؤيتهم لأي مستقبل واعد في ظل الأوضاع الراهنة. وينتمي هؤلاء إلى جيل عالمي النزعة نشأ في عقود الانفتاح (الثمانينيات والتسعينيات والألفينيات)، واعتاد السفر حول العالم، لكنه اليوم يجد نفسه مكبلا وغير قادر على التعبير عن هويته.

بل إن كثيرين منهم ممنوعون من السفر، حيث تحتجز خلية الحزب في أماكن عملهم -سواء كانت جامعة أو شركة- جوازات سفرهم. وبعد أن أصبحت كل الأمور تُدار بمركزية شديدة، بدلا من الانفتاح والتنوع الذي كان سائدا، يبقى المستقبل بعد رحيل شي غامضا، لكن المؤكد هو وجود قوى متضادة ومتوازنة قد تدفع بالبلاد في اتجاهات مختلفة جذريا.


* كيف يختلف موقف شي من قضية تايوان عن النهج الصبور الذي اتبعه أسلافه مثل ماو ودِنغ، وما الأسباب الأيديولوجية العميقة التي تجعله يرى في وجود تايوان إهانة لسلطة الحزب الشيوعي؟

يُعلن شي جين بينغ موقفه من تايوان بوضوح تام عبر مقولات مثل: "عاجلا أم آجلا سنأخذها.. إنها لنا"، وهو موقف يتناقض جذريا مع الصبر الإستراتيجي الذي أظهره قادة سابقون، إذ إن ماو اعتبر أن الأمر يمكن أن ينتظر مئة عام كما أخبر كيسنجر ونيكسون، بينما دعا دِنغ بحكمة إلى ترك القضية "لأجيال أذكى" وذلك في عهد جيمي كارتر.

وينظر شي إلى تايوان بوصفها إهانة مباشرة، لأن وجودها يدحض السردية الرسمية للحزب الشيوعي بأن "الشعب الصيني غير مستعد للديمقراطية". فعلى مقربة من الساحل الصيني، يعيش 22 مليون صيني في ظل ديمقراطية حقيقية، قد تكون فوضوية أحيانا، لكنها منفتحة ونابضة بالحياة. وهذا النموذج الناجح لديمقراطية صينية يُعد بمثابة "إصبع في عين" الحزب الشيوعي، لأنه يتحدى ادعاءاته.

خريطة لتايوان والبر الرئيسي للصين و"خط الوسط" بينهما (الجزيرة)
* تُعَدّ تايوان اليوم مركزا عالميا لإنتاج الرقائق الإلكترونية التي تمثل عصب تقنيات الذكاء الاصطناعي، فهل تعتقد أن أي تدخل صيني هناك قد يؤدي إلى شلل تكنولوجي عالمي، ويفجر كارثة دولية لا يمكن احتواؤها، وما هو الدور الذي يؤديه مفهوم نقاط الاختناق الإستراتيجية في تشكيل هذه الحقبة العدائية بين القوى الكبرى؟

دخلت العلاقات الدولية -ليس فقط بين أميركا والصين بل على مستوى العالم- مرحلة جديدة يسودها منطق الانتقام والصراع حول نقاط الاختناق. وتتمثل فكرة نقاط الاختناق في امتلاك كل طرف موارد أو تقنيات حيوية يحتاج إليها الطرف الآخر ولا يستطيع الحصول عليها بسهولة. فتبرز الرقائق الدقيقة كإحدى أهم هذه النقاط، حيث تمتلك أميركا الملكية الفكرية لتصميمها، بينما يقع أكبر مصانعها (TSMC) في تايوان.

وفي المقابل، تسيطر الصين على نقاط اختناق أخرى لا تقل أهمية، مثل المعادن الأرضية النادرة (بنسبة 92% من الإنتاج العالمي)، وتقنيات البطاريات والسيارات الكهربائية والألواح الشمسية.

وهكذا، يمتلك كل جانب أسلحة اقتصادية يمكنه استخدامها لتقييد ومعاقبة الطرف الآخر. لقد انهار العالم القديم القائم على العولمة ومبدأ بناء الجسور، وحلَّ محله عالم تنافسي وعدائي يقوم فيه كل طرف بتقييم ترسانته من نقاط الاختناق لاستخدامها ضد الآخر.


* يؤكد الخبراء أن الذكاء الاصطناعي يمنح الأنظمة الشمولية قدرة غير مسبوقة على إحكام سيطرتها عبر توظيف تقنيات للمراقبة مثل التعرُّف على الوجوه وجمع البيانات وتحليلها، هل هذا يصب مباشرة في صالح تعاظم قوة الصين وحزبها الشيوعي؟

نجح شي ببراعة في دمج التكنولوجيا بسياسات الحزب الواحد، ليخلق بذلك ما يمكن تسميته "باستبداد التكنولوجيا". فقد أصبحت جميع المعاملات المالية في الصين رقمية كليًّا، مما يسمح للنظام بتتبع كل فرد عبر مدفوعاته ومشترياته وتذاكر سفره، وحتى الأماكن التي يأكل فيها، وهو عالم إلكتروني متكامل تغذيه تقنيات الذكاء الاصطناعي. وبينما ينشغل الغرب بأخطار انتهاك الذكاء الاصطناعي للخصوصية، تستخدمه الصين أداة فعالة لقمع الأفكار المعارضة وإحكام السيطرة على المجتمع.


* تُظهر الصين نموا عسكريا هائلا تحت قيادة شي، لكن يرى محللون أن جيشها يفتقر إلى الخبرة القتالية الفعلية في مواجهة خصوم كبار مثل الولايات المتحدة. فإلى أي مدى تعتقد أن هذا التحليل دقيق؟

حققت الصين نجاحا مذهلا في تحديث جيشها، لا سيما في مجالات بناء السفن وتكنولوجيا الصواريخ وبرنامج الفضاء، لكنها تفتقر إلى عنصر حاسم تمتلكه الولايات المتحدة، وهو الخبرة القتالية الفعلية المكتسبة من حروبها الأخيرة. ورغم هذه الميزة الأميركية، فإن الصين لا تزال تشكل تهديدا حقيقيا.

ويكمُن ضعف الصين الجوهري الآخر في عزلتها الإستراتيجية وافتقارها للحلفاء الحقيقيين، فكوريا الشمالية ليست حليفا يُعتمد عليه، وهو ما يفسر حرص شي على التمسك بتحالفه مع بوتين بوصفه الشريك المهم الوحيد.

وفي المقابل، تمتلك أميركا شبكة واسعة من الحلفاء تضم كوريا الجنوبية واليابان والفلبين وأستراليا. ورغم تفوق هذا الحلف، فإن القوة العسكرية الأميركية تآكلت على مدى العقدين الماضيين، في الوقت الذي كانت فيه الصين تتقدم بخطى متسارعة.


* لنختم بالحديث عن صديقك هنري كيسنجر مهندس العلاقات الأميركية الصينية، إلى أي مدى تستطيع أفكاره تفسير التحديات العميقة التي تواجه هذه العلاقة اليوم، وهل تعتقد أن تحليله أغفل جوانب جوهرية في طبيعة النظام الصيني عادت لتظهر بقوة الآن؟

ترك كيسنجر أثرا عميقا في العلاقات الأميركية الصينية، لكن يُؤخذ عليه أنه أغفل عدة حقائق جوهرية، فقد قلَّل من صعوبة محو الآثار العميقة التي تتركها الثورات الطويلة الأمد -مثل تلك التي شهدتها الصين- على الأنظمة السياسية.

ويبدو أنه كان ساذجا بشأن مدى تجذُّر التقليد اللينيني في الصين، بما يحمله من عدم ثقة متأصلة في الديمقراطيات الغربية، وهو ما خلق تناقضا جوهريا. كما أنه لم يُقدِّر بشكل كافٍ الميول السلطوية الكامنة في النظام الصيني، وهي ميول جعلت اندماجه الحقيقي وشراكته مع المجتمعات المفتوحة أمرا بالغ الصعوبة.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا