آخر الأخبار

"أن تكون حياً ومدفوناً في آن واحد" .. غزيون يحكون تجربة الحياة تحت الأنقاض

شارك
مصدر الصورة

"أنا مصابة حرب، وزوجة شهيد، وأم شهيدة، وبنت شهيدة، وأخت شهيد، وأم ليتيم". هذا التعريف ليس مجرد تعداد للأدوار، بل هو هوية جديدة فرضتها الحرب في غزة، هكذا تعرف سيدة من قطاع غزة نفسها إلينا، ترفض أن تبوح باسمها، لكنها كشفت لنا تفاصيل خمس ساعات قضتهم تحت أنقاض منزلها المقصوف بصحبة صغيرها براء وجثتي طفليها القتلى.

وتروي قصتها التي بدأت في شمال القطاع وتقول: "كنت في شمال غزة، طبعاً انقصف بيت أهلي، استشهدت أمي واستشهد أخويا. فقرر هنا زوجي إنه أنا أروح على الجنوب التي كان يدعي الاحتلال أنها منطقة إنسانية".

لكن "المنطقة الإنسانية" لم تكن كذلك.

وتستكمل السيدة: "في الجنوب رحت على بيت أخت زوجي، تعرضنا للقصف المباشر لبيتنا. طبعاً احنا كنا كلنا نايمين، بنتي شام ما كانت نايمة كانت خايفة كثير، نامت راحت في حضن أبوها، وأنا كان جنبي براء وأولاد بنت حماتي وبنت حماتي. كلنا ما يقارب 13 نفر كنا نايمين في الصالون".

وفي تلك الليلة، تحوّل الصالون إلى قبر مؤقت.

وتصف لحظة الاستيقاظ في الظلام الدامس: "طبعاً أنا ساعة القصف ما كنت حاسة بشيء. صحيت لقيت حالي قاعدة قعود، قاعدة جنبي جورة وتحتيا مية، والأرض كانت زي النار، سمعت صوت ابني براء كان بعيط، فأنا صرت أحسس على ابني لما مسكته حملته حطيته في حضني".

وفي تلك اللحظات، امتزج الخوف بحتمية الموت، تقول: "شعوري وقتها لا يوصف، شعور أنني وابني بمفردنا تحت الأنقاض، وسنظل تحتها حتى نموت، وكأننا دفنا بالحياة، لن يسمعنا أحد، ولن يرانا أحد، وسنموت سوياً، فظللت أدعو الله وأتلوا القرآن".

ووسط اليأس جاء صوت النجاة، وتقول: "سمعت صوت رجال بيحكوا 'في حدا هان؟ في حدا هان؟'. فأنا صرت أنادي 'آه، هان أنا وابني'. فالحمد لله يعني أخذوني، لم أكن قادرة على تصديق أننا نجونا، لم أكن مصدقة أنه فعلاً تم إنقاذي وصغيري".

والنجاة لم تكن نهاية المعاناة، بل بداية لإدراك حجمها، تقول الأم الشابة التي أصيبت بحروق بالغة جراء القصف، "غمرني شعور بأن طفلي الآخرين عز الدين وشام استشهدوا، كان بداخلي يقين بأنهم لم يعودوا على قيد الحياة، حمدت الله وشكرته وتمنيت أن يشفعوا لي.. فهم أحياء عند ربهم يرزقون".

وبحسب البيان الذي أصدره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة بالتزامن مع مرور عامين على اندلاع الحرب، فإن أكثر من 268 ألف وحدة سكنية دُمرت بشكل كامل، وأكثر من 148 ألف وحدة أخرى أصبحت غير صالحة للسكن.

إضافة إلى 9500 شخص تحت الركام بين قتيل وفقيد، عجزت قوات الدفاع المدني عن انتشالهم لبدائية معداتها وضعف المعدات اللازمة لذلك، خلف هذه الإحصائيات الصادمة، هناك أصوات نجت لتحكي من بينهم أحمد وإياد.

"عندما تدفن حيّاً مرتين"

مصدر الصورة

تجربة البقاء تحت الركام مرة واحدة كفيلة بتدمير أي إنسان، لكن في غزة، يبدو أن الموت لا يكتفي بمحاولة واحدة، فالمواطن إياد يروي كيف ذاق طعم الموت مرتين.

يبدأ إياد قصته بتاريخ محفور في ذاكرته 17 أكتوبر/تشرين الثاني 2023، حينما تعرض منزله المكون من طابقين للقصف، ويقول عن أول لحظة أدرك فيها أنه تحت الأنقاض، "حسيت الدنيا كلها ردم وموت، وشيء ثقيل يطبق على صدري، والعالم من حولي عبارة عن ركام وغبار".

لكن هذا ليس ما أفزع الزوج الشاب، بل أفزعته اللحظة التي أدرك فيها أن طفله وزوجته الحامل في الشهور الأخيرة معه أيضاً تحت الأنقاض.

بعد ساعتين من الانتظار المرعب تحت الركام، أخرجهم الجيران. لكن النجاة كانت مصحوبة بجراح الجسد والروح، ويقول: "تعرضت أنا وزوجتي لإصابات في كل أنحاء جسدينا".

بحثاً عن الأمان المفقود، فعل إياد ما فعله مئات الآلاف غيره، ويمضي قائلاً: "استأجرت مكان بعيد شوية يعني بيقولوا عليه آمن". لكن كلمة "آمن" فقدت معناها في غزة.

ويكمل قصته المروعة، "مرة أخرى تعرضنا للقصف، كنا في المكان اللي كنت مستأجره، وأخرجوني من تحت الركام... تم إصابتي وإصابة زوجتي إصابة خطيرة، وإصابة بنتي اللي كان عمرها ست شهور كانت مولودة جديد، إصابة صعبة، وإصابة طفلي بجروح، الحمد لله".

والنجاة الثانية تركت ندوباً لن تندمل هذه المرة، إذ ما زالت زوجته الشابة لا تستطيع مغادرة كرسيها المتحرك رغم مرور أكثر من عام على إصابتها.

"عدّاد موت لا يتوقف"

مصدر الصورة

قصة أحمد عبد العزيز أبو زبيدة البالغ خمسة وستين عاماً، تجسيد آخر للمأساة المتكررة، لكنها تحمل ثقل أجيال كاملة تُمحى.

ويبدأ شهادته بما وصفه بالتاريخ الدامي، "أنا في بداية الحرب، في يوم 10/11/2023، كنت نائماً، ولم أستيقظ إلا وأنا تحت الأنقاض، تم قصف بيتي لأول مرة، وتم استشهاد حفيدي - الحافظ للقرآن الكريم - وحفيداتي الحكيمة روان أبو زبيدة وجنات أبو زبيدة، وكتب الله لي النجاة".

لكن الأيام التي مضت لم تجلب له النسيان، بل جلبت له فاجعة أكبر.

ويقول بصوت يرتجف من ثقل الذكرى، "ومضت الأيام ومضت المعاناة إلى أن وصلنا إلى يوم 26/8/2025 ونحن نائمون، وإذ بصواريخ الحقد تنزل على بيتي. كنت نائماً أنا وزوجتي الحاجة مرام أبو زبيدة. ثلاث طوابق كاملة هدمت فوقنا".

"هذه المرة أيضاً لم تكن النجاة سهلة، ولم تكن بلا ثمن، استشهدت زوجتي بحمد لله، وأنا خرجت وكنت أصرخ 'أنقذوني، أنقذوني، أنقذوني'، إلى أن جاءت أختي وحفيدي الصغير وبدأوا بسحبي حتى استطاعوا أن يخرجوني"، يضيف أحمد.

والقصف الثاني لم يسرق منه زوجته فحسب، بل سرق منه عائلة بأكملها.

ويبدأ في تعداد خسائره التي لا تُحصى قائلاً: "في هذا القصف استشهدت زوجتي، واستشهد ابني محمد وزوجته، واستشهدت بنتي ليلى، واستشهدت بنتي إسلام هي وطفليها، الذي استشهد زوجها قبل ذلك بشهر واحد... في هذا القصف تم استشهاد سبعة من أفراد عائلتي، إلى سبعة سابقين، الآن أصبح لي في الجنة من عائلتي بإذن الله 15 شخصاً بإذن الله هم في الفردوس الأعلى".

وما زاد من مرارة الفقد هو العجز عن تكريم الموتى.

ويصف أحمد، المشهد المروع لإخراج جثث أحبائه، "لم نستطع إخراج الشهداء دفعة واحدة لضعف الإمكانيات، ظللنا نحفر بأظافرنا حتى أخرجناهم. ظل حفيدي جود تحت الركام خمسة أيام كاملة حتى تمكننا من انتشال جثمانه".

وهذه الأصوات الثلاثة، التي نجت من الموت المحقق تحت الركام، ليست سوى عينة صغيرة من آلاف القصص التي لم تُروَ بعد، وآلاف أخرى دُفنت مع أصحابها. إنها شهادات حية تترجم الأرقام الصماء إلى حقيقة إنسانية دامغة، وتضع العالم أمام سؤال واحد: "إلى متى سيظل صوت الأنقاض أعلى من صوت الإنسانية؟".

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا دونالد ترامب اسرائيل حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا